نسيم ضاهر *
تستضيف فرنسا في الأيام القليلة المقبلة مؤتمراً حوارياً لبنانياً في ضاحية لاسيل سان كلو الباريسية. تشاء الصدفة أن يأتي اسم مكان اللقاء على مسمّى، إذ إن ترجمته الحرفية تعني المخبأ أو القبو حيث تُركن المحفوظات. سيجاور المحاورون ــــ من الصف الثاني وفق تعريف الدعوة ــــ قطباً سابقاً من الساسة الفرنسيين، أسقطه امتحان الانتخابات الرئاسية إلى المرتبة عينها، عنيت السيد جان ماري لوبن، زعيم الجبهة الوطنية اليمينية المتطرفة.
بادر وزير الخارجية الفرنسية الجديد، والطبيب المجرّب في حقل العمل الإنساني بادئاً، قبل إشرافه مفوّضاً من الأمم المتحدة على إقليم كوسوفو في البلقان، المسيو برنار كوشنير، إلى ترجمة التغيير الذي طرأ في قمة السلطة بعد انتخاب ساركوزي خلفاً للرئيس شيراك. فمؤسِّس منظمة «أطباء بلا حدود»، ومن ثم «أطباء العالم»، على دراية ومعرفة مديدة بالقضية اللبنانية، وهو رافق فصولاً دامية منها في أحلك ظروف الحرب الأهلية واقتتال الإخوة. لذا اختار السفير كوسران موفداً ومنسّقاً، الذي يعتبر بدوره رجل المهمات الصعبة وصاحب الخبرة في العمل السرّي والدبلوماسية الموازية الجارية في الظلّ.
يحلو للطاقم المحيط بالرئيس ساركوزي الإيحاء بوقوفه على مسافة من المتخاصمين اللبنانيين، مع الإيماء باستمرار السياسة الخارجية الفرنسية على ثوابتها، وجوهرها الاهتمام والعناية بلبنان. ربما استسقى أيضاً من نهج الرئيس ساركوزي المعلن والمحقق في الانفتاح على خصومه في الداخل، والقناعة بأن ما من حواجز دهرية غير قابلة للتحطيم أو الاجتياز. إنما من التبسيط والقراءة المتسرّعة الاعتقاد أو المراهنة على انعطاف فرنسي حاد في مجال العلاقات الدولية، وفي الشرق الأوسط تحديداً، وإنزال الأسلوب المتّبع حالياً مقام التبدّل في الموقف والأصل. وإنه من المفيد التذكير بسابق عهد فرنسي ومراس للأبناء على قنوات الاتصال مع مختلف الفرقاء، أو عدم القطع الجاف على الأقل مع أقطاب المعارضة، بدليل إقامة العماد عون الطويلة والمشهودة في الديار الفرنسية إبَّان حقبة شيراك، والخيوط الخفية التي حاكتها فرنسا مع حزب الله في البدايات لإنجاح عملية إطلاق الرهائن بهمّة أجهزة ليست بالغريبة على جان كلود كوسران بالذات، واشتراكها في ما بعد طرفاً فاعلاً في رباعي تفاهم نيسان، ولقائها بممثلي المقاومة في عداد الوفود البرلمانية والبحثية الاستشرافية من خلال الاتحاد الأوروبي ومداره. ناهيك بالعلاقة المطبوعة بالودّ التي ما فتئت تربط الرئيس برِّي بشواغِل فرنسا ورسلها الى لبنان.
أعلنت فرنسا أن غاية المؤتمر الحواري المنتظر توفير مساحة تخاطب وتبادل آراء بين الأفرقاء اللبنانيين، لتعذر الوصل في مناخات بيروت وأجواء التشنيج المتحكّمة بالحراك الداخلي. وللمزيد من المظهرية الحيادية، أصرّ الداعي على نفي وجود جدول أعمال، أو حتى ورقة عمل للنقاش، تاركاً للمؤتمرين أنفسهم حرية بلورة المسائل وابتكار وسائل الحد من الخلافات. ولسوف تكتفي رعاية المضيف بالسعي لتقريب وجهات النظر، توطئة لحلول ممكنة ريثما تنضج ظروفها على أرض لبنان في الوقت المستقطع الفاصل عن ميعاد الاستحقاق الرئاسي دستورياً. بذلك حدّدت المبادرة الفرنسية سقفاً مقبولاً، وتحوّطت للفشل جراء التواضع في المرتجى، والابتعاد عن رسم أهداف مقياسية صعبة المنال. تتّسم الخطوة الفرنسية بالحذر الشديد المعبّر عن معرفة صنَّاع سياستها بتعقيدات المسألة اللبنانية، تاريخياً وراهناً. إلى ذلك، تدرك فرنسا حجم فعلها والنصاب المتاح لحركتها وتأثيراتها على اللوحة الشرق أوسطية، من جانب اللاعبين الإقليميين وحليفها الأميركي الوازن. فكأنما بها تقدم على نقلة محسوبة، تتجنّب المراهنة برصيدها، وتعمل من خلال المأزق الذي بلغه لبنان فعلياً، لتظهير صورة الطرف العاقل، الصديق والمعنيّ بحل الخلافات سبيلاً إلى تسويات هادئة، نقيضة في مفهوميتها لكل فوضى أو مقاربة على شاكلة إيصال الأمور الى شفير الهاوية.
يستخلص من باكورة المسلك الفرنسي، أن باريس الحريصة على تحالفاتها الدولية وعضويتها الفاعلة في الاتحاد الأوروبي، تؤكد أسلوبها المميز في التعامل مع الأزمات، وتشير الى الحوارية مدخلاً لإشاعة الثقة ونجاعة العامل الدولي في التعاطي مع الملفات الإقليمية، لا بصيغة التدخل الفجّ طرفاً في النزاع، بل بالاتكاء على المعطى الموضوعي النابع من موقع القوى العظمى ومسؤوليتها، وشمولية ولايتها الكونية (المتفاوتة) كقاطرة للتحولات وضامنة للسلم ولحقوق الدول والجماعات في نطاق مجلس الأمن وتحت راية الأمم المتحدة.
على هذه المقوِّمات، ترسم باريس معالم سياسة واقعية تغادر الحلم والهيمنة في آن، وتشحن العلاقات الدولية بمنسوب أخلاقي تصالحي ذي حدَّيْن، قوامه الإقرار بحق تقرير المصير كياناً ونظاماً دستورياً ونمطاً اجتماعياً، شريطة إرضاء أهل الأرض به، وتوافقه مع الحقوق الأساسية ومعايير المساواة. من هنا، تؤثر باريس تطوير القانون الدولي وغرس مكتسبات جديدة، بالعدسة الموسّعة الرامية الى مزيد من حماية إنسانية، على قاعدة الواجب الضروري والوكالة المعطاة من الأسرة الدولية حكماً بموجب شُرعة الأمم المتحدة وهيئاتها ومؤسساتها.
تعلّمت فرنسا الكثير من تجارب الماضي، وهي ما زالت تعالج ندوب الحقبة الكولونيالية في فضائها الثقافي، وعلى هوامش مجتمعها ونسيجها المتبدِّل. نادى المرشح ساركوزي بالقطع مع مفهوم الجمود والمراوحة، ويعمل الرئيس المنتخب حديثاً للابتكار، تجاوزاً للحقبة الماضية، ولإخراج فرنسا الى باحة المتفوِّقين وناديها النخبوي. هكذا، تستوي سياسته الخارجية ـــــ وهي التي يطلق عليها المجال المحفوظ للرئاسة ـــــ امتداداً لمنهجه وإصلاحاته في الداخل، غير التقليدية وفق كل المعايير. ولقد وجد ساركوزي عنواناً لمراده في المحافل الدولية، يتمثل بالحليف الصادق من دون محاباة، المنافس بلا ادعاء أو عداء، يرفض مركّب النقص والاستئذان، ويعمل بوحي من مصالح فرنسا على غرار نظرائه في إطار من التنوّع ضمن الوحدة، وعلى هُدى المثل الديموقراطية المشتركة.
إن هذه التوجّهات الناظمة لسياسة فرنسا الدولية هي تماماً غلاف المبادرة الخاصة بلبنان، التي تحمل البصمات المجتمعة لثلاثي العقيدة الفرنسية في الترجمة العملية، رئيساً يأخذ القرار في ضوء تعاهده مع الناخبين، ووزيراً يسارياً رمزاً للانفتاح، يتولى التطبيق من أفق إنساني جماعاتي شامل، وموفداً عالماً بالخفايا والأقنية الخلفيّة يوضِّب الترتيبات ويواكب التحضيرات عن كثب وحراكٍ إقليمي. من بيروت، وعلى شاشة فضائية، استوعب السفير الأميركي أيضاً دروس الماضي، من زاوية صفاء العلاقات الأميركية ــــ البريطانية وبناء السلم الأهلي في الولايات المتحدة، بعد طول إرهاصات ونزاع.
ببسيط العبارات والاستعارات، جالَ السفير فيلتمان على الأزمة المستعصية في لبنان، وأدلى بدلوه حيث تحفظت فرنسا عن الإفصاح. وليس بمُغَالٍ أن كلامه الواضح أعطى نكهة عن مدار لقاء سان كلو، وترك الباب مفتوحاً للتسويات. غلب الطابع البراغماتي على أقوال السفير فيلتمان، الذي فاجأ المشاهدين بتجنّبه اللغة الخشبية والمعارج الدبلوماسية. وفي ثنايا عروضه وتوصيفاته، بانتْ ملامح تجاوب صامت مع المبادرة الفرنسية، على حجمها، ومن دون مبالغة في التوقّعات. المغزى أن رسالة الرئيس ساركوزي أخذت طريقها إلى آذان واشنطن، بخفر ومسايرة ربما، بيد أن الأهم ما رشح من مجمل الحديث الطويل والمُتشعّب، حيال ضرورة صياغة الحلول لبنانياً، ومشروطية اتفاق اللبنانيين على نجاحها.
على رغم كثرة الغيوم السوداء فوق سماء لبنان وغمرة التصريحات، يبدو أن تفاؤل الرئيس برِّي الحذر غلب تشاؤله المقيم في عين التينة منذ بدء الأزمة. وقد يكون، من مرصده ومحبسه القسري، خير إشارة الى إلمامه ببواطن الأمور، وإمساكه رأس الخيط الممدود فرنسياً، والمشروح له أميركياً في لقائه اللافت مع السفير الأميركي. فحين ينتدب محمد فنيش عن حزب الله، والشقيق الفرنساوي من جانب أمل ورئيسها، ثمة علامات لا تخطئ على أن الجميع يتوق الى انفراجات ما زال الوضع برمّته على عتبتها. الأبلغ أن كل الفرقاء، عبر ترحيبهم بالمبادرة الفرنسية وموافقتهم عليها واستعدادهم الذهني، باتوا على قناعة بإمكان كسر الجمود الراهن، واستحالة الوقوف في المكان. متى نصل الى منتصف الطريق؟ ذلك هو السؤال/المعضِلة، وقد تكون باريس خطوة أولى في رحلة طويلة ووعداً لم يرتقِ الى درجة البشارة.
* كاتب سياسي