كرم كرم *
استوقفني في الدعوة التي وجّهتها الدولة الفرنسية عبر وزارة خارجيتها إلى عقد حوار لبناني ـــــ لبناني على الأراضي الفرنسية، دعوة «ممثلين عن المجتمع المدني اللبناني» إلى المشاركة في أعمال هذا الحوار. فإذا كان من السهل، إلى حد ما، تحديد هوية ممثلي الأحزاب والقوى والتكتلات والشخصيات السياسية، وتصنيفها، بين «صف أول» و«صف ثانٍ»، وذلك من إجهارها هي بهويتها وبانتمائها ومن تحديدها للتراتبية الهرمية والتمثيلية في داخلها، فانطلاقاً من أي معايير وبناءً على أي شرعية ومشروعية يُحدّد الممثّلون عن المجتمع المدني؟
ففيما يستمد الممثلون السياسيون شرعية مشاركتهم في الحوار عبر تسمية زعمائهم لهم، فمن أين استمد ممثلو المجتمع المدني شرعية مشاركتهم، هل من مجرد تسمية الإدارة الفرنسية لهم؟ والسؤال هنا هو كيف استطاع بهذه السهولة المسؤولون الفرنسيون تحديد هوية من يمثل المجتمع المدني في بلد مركّب ومتعدّد ومتشعّب الانتماءات كلبنان، حيث يتداخل الطائفي بالسياسي والمدني؟ وهذا يعيد طرح جملة من الأسئلة عن تكوين المجتمع المدني في لبنان، وتحديداً في فترة ما بعد الحرب؟
المجتمع المدني يكتسب شرعيته قبل كل شيء من تركيبته، من حيث إنه مجال وسيط، مكوّن من أفراد «مواطنين»، لا من جماعات أو طوائف، لا تربطهم بالضرورة علاقات أو صلات عضوية أو موروثة أو أولية (العائلة، القرية، المحلة، الطائفة، الدين... إلخ)، يقع بين المجتمع «البدائي» (الأهلي والطائفي)، مجتمع الانتماءات الأولية الموروثة غير الطوعية والمؤسسات «التقليدية»، والمجتمع السياسي «الحديث».
الدور الأساسي للمجتمع المدني يكمن في العقد الاجتماعي الذي يضعه في سبيل قيام المجتمع السياسي والدولة المدنية. هذا العقد هو الذي يسمح، وفقاً للنظريات الكلاسيكية للمجتمع المدني، بتماسك المجتمع ونقله من حالة التفكّك والصراع إلى الحالة المدنية ــ السياسية. فالمشروع الذي يسعى المجتمع المدني اللبناني إلى تحقيقه منذ ما قبل تأسيس الجمهورية اللبنانية، وما زال حتى يومنا هذا، هو مشروع بناء الدولة المدنية. المطالبة باعتماد أطر قانونية تسمح بتعزيز الحقوق المدنية والسياسية والاجتماعية للأفراد المواطنين، لا للطوائف والمذاهب الدينية فقط، ومأسستها ضمن المنظومة القانونية والسياسية، شكلت بحد ذاتها حافزاً أساسياً لقيام المجتمع المدني في لبنان بحيث أصبح مطلب إحقاقها غايته المحورية والجوهرية.
الهدف الثاني الجوهري للمجتمع المدني، وتحديداً في بلد مثل لبنان، هو الحؤول دون عودة المجتمع إلى حالة الصراع البدائي السابق لقيام العقد الاجتماعي والسياسي. وهنا يقع على عاتق المجتمع المدني اللبناني في مرحلة ما بعد الحرب، إضافةً إلى مشروع بناء الدولة المدنية، دور مهم يتعلق بقدرته على مساعدة المجتمع على عدم العودة إلى الحرب الأهلية، وعلى المساهمة في بناء المجتمع السياسي على أسس تعاقدية سلمية مدنية، غير عنفية، أوسع من تلك التي حصلت بين ممثلي الطوائف وزعماء الميليشيات عشية انتهاء الحرب. فتسوية إنهاء الحرب أثبتت يوماً بعد يوم هشاشتها، وذلك لافتقارها إلى المكونات المدنية وللمبادئ والقيم المشتركة وللتجارب المختلطة وللمشاريع الساعية لتحقيق أهداف عامة. من هنا كانت للمجتمع المدني مقاربته المختلفة لشعارات «المصالحة وإعادة الإعمار» و«دولة القانون والمؤسسات» التي وضعتها السلطات السياسية في مراحل مختلفة خلال فترة ما بعد الحرب كعناوين يُراد منها «برامج» سياسية. وكان من الطبيعي أن يعاود المجتمع المدني التفكير في موقعه ودوره ضمن تركيبة النظام السياسي والأسس التي قام عليها العقد السياسي والاجتماعي الجديد الذي وضع حداً للحرب، أي اتفاق الطائف ووثيقة الوفاق الوطني عام 1989. وعلى أساس هذه المقاربة تشكلت مختلف الجمعيات المدنية والحركات الاجتماعية في التسعينيات وبداية الألفية الثانية.
فمصالحة المجتمع المدني، كما عبّرت عنها جمعياته، هي المصالحة المبنية على السلم المدني، في مقابل المصالحة المبنية على التسوية بين ممثلي الطوائف ورؤساء الميليشيات، وعلى العفو الاستنسابي والاعتباطي، وعلى السلم القمعي. فهي قبل كل شيء مصالحة مع الذات ومحاولة لبناء ذاكرة مشتركة للحرب في سبيل تلافي الوقوع فيها مجدداً. من هنا عنوان حملة «تنذكر تا ما تنعاد»، وحملة «حقي أن أعرف»، أن أعرف مصير المفقودين والمخطوفين خلال الحرب. أما إعادة الإعمار فهي ليست إعماراً مركزياً مقتصراً على فئة اجتماعية محددة، بل هي قبل كل شيء إنماء متوازن وبيئي وتراثي، تنادي به الجمعيات البيئية التي تطورت بشكل ملحوظ منذ مطلع التسعينيات، إنماء يقتضي مشاركة جميع فئات المجتمع وسلطاته، بما فيها السلطات المحلية. ولهذا السبب أطلقت الجمعيات المدنية عام 1997 «اللقاء من أجل الانتخابات البلدية والاختيارية»، المعروف بحملة «بلدي بلدتي بلديتي»، المطالب بإجراء الانتخابات المحلية وتطبيق اللامركزية الإدارية وتوسيع صلاحيات المجالس البلدية وقيام مجالس الأقضية التي نص عليها اتفاق الطائف.
و«المصالحة وإعادة الإعمار» تتطلبان من أجل تمتينهما واستدامتهما توسيع حيّز المشاركة السياسية والاجتماعية والاقتصادية أمام جميع فئات المجتمع، وإعطاء الفئات المهمّشة بالتحديد كل حقوقها. فكان أن أطلقت الجمعيات المدنية سلسلة من الحملات الداعية إلى مشاركة الشباب في الشأن العام، ومنها حملة «خفض سن الاقتراع إلى الثماني عشرة سنة»، التي انطلقت عام 1998 وما زالت مستمرة حتى اليوم، وإلى تحقيق المساواة الفعلية بين الرجل والمرأة على المستوى الاجتماعي والاقتصادي والسياسي، ومنها «مناهضة العنف ضد النساء» و«الكوتا النسائية» و«جنسيتي حق لي ولعائلتي»، وإلى حصول ذوي الحاجات الخاصة، كالمقعدين والمكفوفين، على حقوقهم الاجتماعية والاقتصادية وتسهيل مشاركتهم في العمليات الانتخابية، تقنياً وإدارياً وسياسياً، اقتراعاً وترشحاً. أما «دولة القانون والمؤسسات» التي طالب بها المجتمع المدني ودافع عنها بوجه قمع السلطات السياسية والأمنية الممنهج منذ انتهاء الحرب، فهي دولة الحقوق السياسية والمدنية للمواطنين.
كان المجتمع المدني أول من فضح ودان ورفض «منطق الدولة الأمنية»، بعدما كانت المؤسسات السياسية التمثيلية وعدد كبير من الأحزاب السياسية قد استقالت، لفترة طويلة من الزمن، من دورها في حماية «دولة القانون والمؤسسات». فتنوّعت وسائل رد المجتمع المدني على الإجراءات المقيِّدة للحقوق والحريات الدستورية، وعلى القمع السياسي وهيمنة الأجهزة الأمنية على مفاصل الحياة العامة طوال فترة التسعينيات. وتنوّعت وسائل دفاعه عن الحريات العامة، وحقوق الإنسان وحرية التعبير عن الرأي، وحرية العمل السياسي والنقابي، وتحديداً حرية إنشاء الجمعيات، من النقد عبر المنابر الإعلامية، حيث أدّت الصحافة دوراً بارزاً، إلى الاحتجاج والتظاهر، «عامية الحريات» في أنطلياس عام 1997، إلى تقديم الشكاوى والطعون أمام السلطات الدستورية والقضائية، وكسر قرارات منع التظاهر، وصولاً إلى إنشاء جمعيات متخصصة بالسياسات العامة، كالإصلاح الانتخابي مع «الجمعية اللبنانية من أجل ديموقراطية الانتخابات» عام 1996. لم يرضخ المجتمع المدني لإملاءات السلطات السياسية والأمنية، بل ذهب بعيداً في مطالبته بإصلاح ركائز النظام السياسي وقيام الدولة المدنية، فكانت حملة «اللقاء من أجل قانون مدني اختياري للأحوال الشخصية، حملة الزواج المدني»، التي أطلقت عام 1998، وهو مطلب رفعه المجتمع المدني عبر نقابة المحامين عام 1952 وما زال، وتلاها مطلب تدريس مادة التعليم الديني بشكل موحد في المدارس، ومطلب إلغاء حق رؤساء الطوائف المعترف بها قانوناً بمراجعة المجلس الدستوري وتقديم طعون أمامه في مواضيع محددة، كما تنص المادة 19 من الدستور. حين ننظر بدقة إلى هذه المطالب نرى أنها تهدف إلى وضع أسس الدولة المدنية.
لمّا يلقَ معظم هذه المطالب والأهداف التي حملها المجتمع المدني في لبنان منذ انتهاء الحرب، طريقه إلى المؤسسات الدستورية والتشريعية، وجزء كبير منها لم يلقَ حتى طريقه داخل الثقافة والفكر السائدين في المجتمع. وكان لمحاولة المجتمع المدني إعادة تسييس المجتمع السياسي، وهو الشرط الأساسي لقيام المجتمع المدني وتطوره، ضمن حدود معينة، في فترة ما بعد الحرب، عدة نتائج ومفاعيل. فبعدما كانت «المعارضة» السياسية قد رفضت طوال فترة التسعينيات تبنّي مشاريع الإصلاح التي رفعها المجتمع المدني، وتحديداً رفضها المزاوجة بين مشروعيْ الإصلاح والتحرير، مفضّلةً، ضمن هامش جد محدود، دعم المشروع الأول وإقصاء الثاني، وذلك التزاماً منها بشروط اللعبة السياسية في حينه، عادت هذه المعارضة إلى التبنّي التدريجي للمطلب «السيادي التحريري»، وذلك بعد الانتخابات النيابية عام 2000 في لبنان والتحولات الجذرية التي حصلت على المستوى الوطني والإقليمي والدولي والتي غيّرت في القواعد السياسية السائدة. لكن هذا التبنّي السياسي كان أيضاً مجتزأً، إذ رفض مجدداً المزاوجة بين التحرير والإصلاح، فأُقصي الإصلاح لا لضرورات الخضوع للعبة السياسية المفروضة من الخارج بل لمقتضيات المحافظة على الزعامات السياسية عبر عدم المسّ بركائز النظام الطائفي. فالتحاق جزء كبير من الناشطين في المجتمع المدني بالزعامات والقوى السياسية انطلاقاً من مبدأ إعطاء الأولوية للمطلب المتقاطع مع أهداف هذه الأخيرة، أولاً، أي هدف تحرير المجال السياسي والمجال الوطني من العنف والقمع وهيمنة أجهزة الاستخبارات، في سبيل مضاعفة حظوظ نجاحه. وثانياً، إرضاءً لطموحات سياسية شخصية، قد تكون مشروعة، لدى هؤلاء الناشطين، والسعي إلى حجز مسبق لمواقع خلال عملية التحول السياسية.
استطاعت الزعامات والأحزاب السياسية الاستفادة من هذا التحول لإعادة تفعيل قواعدها الشعبية وتنشيطها انطلاقاً من عصبيات بدائية (زعاماتية، وشخصية، وطائفية، ومذهبية، وفئوية)، أي انطلاقاً من الانتماءات الأولية للأفراد على حساب البرامج السياسية والإصلاحية العامة. والعودة إلى الانتماءات الأولية في المجال السياسي تعني، إلى حد ما، العودة إلى حال من الصراع خارج الضوابط الدستورية والحقوقية والقانونية والمؤسسات السياسية التمثيلية، وانتفاء المسافة بين الديني والسياسي، بحيث أصبح الانقسام انقساماً عمودياً حاداً.
من هنا، نعود لطرح السؤال الأساسي، هل يستطيع المجتمع المدني اليوم، مع المحافظة على حد معين من الاستقلالية والتمايز تجاه المجتمع السياسي والمجتمع الطائفي، أن يشكل المجال الوسيط الضامن لعدم العودة إلى الحرب الأهلية وتثبيت السلم المدني داخل المجتمع؟ وهل يستطيع المجتمع المدني أن يضع على جدول أولوياته مشروع قيام الدولة المدنية؟
لقد ظهرت صعوبة الدفاع عن هذا المشروع أخيراً خلال النقاشات التي دارت داخل «الهيئة الوطنية الخاصة بقانون الانتخابات النيابية» والتجاذبات التي حصلت داخلها وخارجها، وعبر انحراف بعض الجمعيات المدنية عن المشروع الإصلاحي الذي أُنشئت في سبيل تحقيقه، وتحوّلها نحو إحقاق غايات ومصالح شخصية هي ما دون السياسية. من هنا، وبمعزل عن كيف ومن أين تُستمدّ شرعية التمثيل داخل المجتمع المدني، هل هي من الالتزام والمثابرة والنشاط، أم من التخصص في مواضيع محددة، أم من التسويق الإعلامي، أم من اعتراف السلطات الرسمية، أم من القرب من مراكز القرار السياسي والدبلوماسي... إلخ، يبقى المشروع المدني الأساس في إضفاء الشرعية على المؤسسات والأفراد.
* باحث لبناني