هشام نفّاع *
أعلن رئيس حكومة إسرائيل إيهود أولمرت في قمة شرم الشيخ الأخيرة (من يتذكرها؟) أنها «قد تأخذ الشرق الأوسط إلى مستقبل أفضل وتبعث الأمل في نفوس شعوبها». يجب التوقف بتمعّن عند كلمة «قد» التي تفيد التشكيك. هنا من الضروري طرح سؤال حول المسؤول عن إبقاء التشكيك والشكوك يلوحان حول الوصول إلى مستقبل أفضل للشرق الأوسط.

أولمرت قال أيضاً إنه «متفائل، وفي عاصفة هذه الأيام بالذات أرى فرصة أيضاً». هذا كلام غير هيّن.. كلام كبير.. فنحن أمام شخص يقول إن العواصف تجعله أكثر تفاؤلاً، لا بل إنها هي بالذات ما يجعل عينيه تنفتحان على فرص جديدة.
أية عاصفة يقصد أولمرت؟ أعتقد أنه يأخذنا الى غزة. والذهاب الى غزة يعني الذهاب الى فلسطين، بحدودها ضمن التسوية السياسية المطروحة. إذاً ها هو يعلن بصراحة تقريباً أن ما يعصف بفلسطين يصبّ في مصلحة الفرصة التي يراها.
ذكر معلّقون أن كلمة أولمرت في القمة كانت مليئة بالمشاعر، خلافاً لكلمة رئيس السلطة الفلسطينية محمود عباس. هذا مشجّع. أحد تجليات تلك المشاعر هو ما كشفه أولمرت عن رؤيته السياسية عندما اختار تسمية «يهودا والسامرة» بدلاً من الضفة الغربية. وهي التسمية التي كررها أربع مرات، وفي إحداها وصل به التفاؤل الى درجة الإعلان أنه سوف «نزيد من إمكانية الانتقال للسكان الفلسطينيين في يهودا والسامرة بصورة ملحوظة ونجدد ونوسّع العلاقات التجارية بيننا في يهودا والسامرة وسنؤدي إلى الرخاء الاقتصادي». كيف سيحصل هذا، هل ستُزال الحواجز، ويُفكّك الجدار، وتُوقف الاجتياحات اليومية، وتُزال المستوطنات، وتُفتح شوارع الآبارتهايد العريضة المخصصة للمستوطنين والجيش حصرياً، أمام الفلسطينيين؟ الجواب واضح وهو: لا كبيرة.
إن السؤال السابق، والإجابة السلبية عنه، يطرحان تشكيكاً حاسماً في مدى صدق عواطف أولمرت الجيّاشة التي حشرها في توجّهه الى الشعب الفلسطيني بالقول: «لا نريد السيطرة عليكم، وليست في نيّتنا إدارة حياتكم واتخاذ قراراتكم». بين الإصغاء الى هذه الدرر وواقع الاحتلال العنيف اليومي، سيصعب على أي فلسطيني شراء بضائع أولمرت اللغوية مهما بلغت درجة حرارة عواطفه، خصوصاً في موجات الحرّ الحالية. إن الذكاء يستدعي الانتباه الى هذا. ولكن ربما لا تكمن المشكلة في درجة ذكاء رئيس الحكومة، بل في درجة الاعتقاد لديه باحتمالات تمرير ألاعيب الاستغباء. سؤال: هل الاستغباء هو أحد دلائل محدودية الذكاء؟ الجواب مفتوح..
لكن أطرف ما بدر عن أولمرت هو هذه الجوهرة: «علينا جميعاً أن نمنع المتطرفين من إملاء أجندتهم علينا». من هم المتطرّفون، أهو وزير التهديد الاستراتيجي أفيغدور ليبرمان مثلاً، أم وزارة الداخلية الإسرائيلية التي صادرت الإقامة من نحو 1300 فلسطيني مقدسي عام 2006 وحده، كما أورد تقرير جديد لمنظمة «بتسيلم» الإسرائيلية الحقوقية، أم السلطات الإسرائيلية التي تفصل بين الزوج وزوجته وتمزّق أسرتهما إذا كان أحدهما من سكان المناطق الفلسطينية المحتلة؟ لا طبعاً. هذا ليس تطرّفاً بالمرة. ولا هو إرهاب بطبيعة الحال. هل قُلنا استغباء؟!
على رغم عاطفيّته أمام القمّة، لم يُعطِ أولمرت أي جواب عن أيّ من الأسئلة الرئيسية. ففي النهاية، مع جزيل التقدير لعواطفه التي بدأت سينمائية أكثر من اللزوم، تظلّ هناك ملفات حقيقية. ونبدأ من السهل للأصعب: ماذا بشأن جدار الضمّ التوسّعي، هل سيظلّ قاعدة سياسية لمباشرة ترسيم الحدود، كما قالت وزيرة الخارجية تسيبي ليفني قبل بضعة أشهر؟ والمستوطنات، هل ستظلّ بمعظمها تحت سيادة الاحتلال الإسرائيلي لتبقر الضفة الغربية وتقطّع أواصرها؟ والقدس، أهي موحدة الى الأبد فيظل جزؤها الشرقي الفلسطيني محكوماً بالاحتلال المؤبّد؟ واللاجئون، هل نجتّز قضيتهم/قضاياهم/قضيتنا؟ وماذا بشأن الاعتراف الإسرائيلي بجريمة التطهير العرقي عام 1948، ووجوب تحمّل المسؤولية عنها؟ أم فرض النسيان وخنق الذاكرة بالغبار هما كلمة السرّ (المفضوحة)؟
لا يمكن طلب العسل من الدبابير، ومعروف للجميع آخر أعضاء النمس التي يمكن أن نتوقّع منها الدّبس! وإذا عرفنا أن منسّق شؤون السلام المقبل في الشرق الأوسط هو طوني بلير، فسوف تتّضح معالم «تفاؤل» أولمرت وحقيقة «الفرصة» التي يراها من قلب العاصفة. بالطبع، لا حياة لهذه الأوهام الإسرائيلية ولا مستقبل، لأن الشعب الفلسطيني لم ولن يضيع بين الأشجار بل سيظلّ يرى الغابة بأكملها. وفي غابة محكومة بقانون الغاب الأميركي لا مفرّ سوى النضال والصمود. لكن سيكون من المؤسف والخطير أن تتبرّع أية أوساط فلسطينية بالقيام بدور الأرنب. وهذا ليس اتهاماً لأحد بل تنبيه.
لقد ظنّ زعماءٌ إسرائيليون كثيرون، وهم يفوقون أولمرت قوّة بما لا يُقارن، أن بالإمكان طيّ ملفات القضية الفلسطينية وليّها ودفنها. هؤلاء جميعاً غابوا، بينما لا تزال هذه القضية باقية تقوم على ثوابتها العادلة. ربما يجب القول لأولمرت إن كل العتلات لن تكون على مقاس يد الحرامي، لأنه إذا لم يحظَ الشعب الفلسطيني بالحدّ الأدنى من العدل فلن يكون أيّ سلام لأحد. هذا مع الإشارة الى أن التسوية السياسية القائمة على إنهاء الاحتلال والاستيطان في أراضي 1967، بما فيها القدس الشرقية، وتطبيق حقوق اللاجئين والعيش في تكافؤ كامل، هما الحد الأدنى من العدالة التي يستحقها شعبٌ وجد نفسه يدفع ثمن قضايا سياسية دولية كبرى، لا يتحمّل أية مسؤولية عنها، من وطنه وحريته ودمائه على امتداد أكثر من نصف قرن.
* صحافي فلسطيني