علاء اللامي *
يناقش توماس فريدمان في مقالة له في النيويورك تايمز بتاريخ 02/7/2007 منطق جورج بوش القائم على رؤيته لعراق اليوم «بصفته دولة طالما تطلعت أغلبية مواطنيها إلى العيش في وئام وسلام، وإلى أن تنعم بلادهم بالحرية والديموقراطية. وفي المقابل، فإن هناك حفنة قليلة من الإرهابيين يقفون حجر عثرة أمام التحول السلمي الديموقراطي للعراق». وفي موضع آخر «باعتباره دولة تعدّدية ديموقراطية موحّدة تسير على خطى السوق الحرة». يعقّب فريدمان على هذه الرؤية بالقول «كم كنت أتمنى لو أن التصور الذي يقدمه بوش عن ذلك البلد صحيح».
يخالف فريدمان رؤية بوش متسائلاً: إذا كان الأمر، أمر عراق اليوم، كذلك «فلماذا فشلنا نحن وحلفاؤنا العراقيون في إلحاق الهزيمة الساحقة بتلك الأقلية، على رغم مضي أربع سنوات من المواجهات المسلحة اليومية؟!»
التفسير البديل الذي يذهب إليه فريدمان في محاولة منه لفهم الحالة العراقية والوصول إلى نتائج صحيحة، يقوم على أن رؤية بوش مختلفة في العمق عن رؤية مَن يسميهم فريدمان «القادة العراقيين وأتباعهم». فهو ينسب إلى من يدعوهم «القادة الشيعة» الرؤية التالية: «الخيار الأول بالنسبة إلى الكثير من الشيعة هو أن ينهض العراق كدولة دينية يسيطر عليها المذهب الشيعي، وأن تكون موالية لإيران». ثم ينسب إلى «القادة السنّة العراقيين» استراتيجية مماثلة، الخيار الأول فيها هو «العودة بالعراق الجديد إلى الأيام الخوالي التي انفرد فيها السنّة بالهيمنة السياسية المطلقة على الأغلبية الشيعية». أما الأكراد فإن الخيار الأول في نظرهم هو «ضمان استقلال إقليم كردستان الديموقراطي». النتيجة المتوقعة التي يصل إليها فريدمان هي أن خيار العراق الديموقراطي التعددي الحداثي المسالم السائر في طريق اقتصاد السوق، الذي يقاتل من أجله جنود أميركا ليس خيار الأغلبية العراقية. ولهذا السبب يختم فريدمان كلامه بالقول «ولذلك، فمن الواجب وقف هذا الإزهاق الرخيص لدماء جنودنا وأرواحهم هناك».
وسنحاول تفحّص مقدار الصواب والخطل في مجموعة الافتراضات والنتائج التي قدمها الكاتب.
إذا كان افتراض استراتيجية للأحزاب القومية الكردية تقوم على ضمان استمرار تمتّعها بالاستقلال الفعلي في محمية تضم ثلاث محافظات ذات غالبية سكانية كردية، صحيحاً نسبياً، فإن القول بأن الخيار الأول «للقادة الشيعة» هو قيام دولة مذهبية شيعية موالية لإيران، ليس إلا وهماً. ومع ذلك فلا يمكن نفي وجود قوى موالية لإيران أو أن لإيران مصالحها وأجندتها الخاصة في العراق، ولكن أن يتحول هذا الافتراض الجزئي إلى خيار أوّل للقوى الحاكمة أو التي تسيطر على جزء كبير من الحكم، فهذا أمر ليس واقعياً البتة ولا يصمد أمام لغة الوقائع.
لقد حدث فرز عميق في داخل الساحة السياسية التي تنشط فيها الأحزاب الإسلامية الشيعية العراقية. وإن الحكم الحالي نفسه ليس شيعياً تماماً بل هو ائتلاف بين مجموعة أحزاب مختلفة لناحية تمثيلها وتركيبتها الطائفية والقومية، وقد لا تتجاوز كثيراً خمسين في المئة من الحكومة الحالية، القوة السياسية والحضور القيادي للأحزاب المؤتلفة في «قائمة الائتلاف الإسلامية الشيعية». ثم إن هناك قوى لا يُستهان بها تُنْسَبُ إلى الساحة الشيعية، تعتبر موضوع الولاء لإيران وإقامة نظام مذهبي سُبّة سياسية وبرنامجاً معادياً ترفضه من الألف إلى الياء.
الاعتراضات نفسها تقريباً يمكن تكرارها حول ما قاله فريدمان عن «خيار العراقيين العرب السنّة»، وكيف أن برنامجهم هو العودة إلى الأيام الخوالي، بما يعني إعادة النظام المُطاح إلى السلطة واستعادة الهيمنة الطائفية السنية على الشيعة.
فإذا كان صحيحاً أن قيادات النظام السابق وقوى قريبة منها حلمت وحاولت طوال عدة سنوات من عمر الاحتلال العودة الظافرة إلى السلطة كحزب لا كطائفة، فقد أقنعها الواقع بأن هذا الكلام فات أوانه، وأن من المفيد لها أن تخفض سقف طموحاتها، وتكفّ عن تكرار أنها كانت وستبقى الممثل الشرعي والوحيد للشعب العراقي.
لقد مارس الواقع الفعلي المرير، والحدّة المأساوية التي جرت وتجري بها الأحداث في العراق، نوعاً من النحت البطيء للكثير من القناعات والبرامج والرؤى. غير أن هذه العملية النحتية وإن لم تؤدِّ إلى ولادة قناعات جديدة وخارقة لسقف السائد ذي المضامين القديمة التي ولّى زمانها، ولكنها عدّلت فيها كثيراً. على سبيل المثال، فإذا كنا لا نسمع هذه الأيام دعوات علنية لإعادة السلطة إلى «الحاكم الشرعي»، فقد حل محلّها نوع من الإقصائية الداعية إلى شطب الموجود كله، والعودة إلى ما سماه سياسي عراقي أخيراً «المربع الأول».
وبالعودة إلى مقدمات فريدمان، يمكن الاتفاق معه على أن أولوية الأغلبية العراقية هي ليست نفسها أولوية بوش، لا لأن بوش يريد للعراقيين نظاماً ديموقراطياً حداثياً مسالماً، فيما تريد زعاماتهم أنظمة طائفية ومذهبية. على العكس من ذلك تماماً: فالعراقيون، المواطنون العراقيون، الذين ذاقوا الويلات طول أربعة أعوام من الاحتلال والحكم القائم في ظله، يريدون نظاماً ديموقراطياً لاطائفياً بعدما كفروا بديموقراطية الجثث. ثم إن الموجود الآن، الذي جاء به جنود بوش، هو نظام المحاصصة الطائفية والعرقية وليس نظاماً ديموقراطياً حداثياً يتمرّد عليه ملايين المتخلّفين، كما يحاول فريدمان إيهام قارئه. يمكننا أن نذكّر السيد فريدمان بواقعة تقول إن إدارة بوش، منذ اليوم الأول للغزو، نظرت إلى العراق وقدمته إلى الآخرين ككيان مفتعل جمع بين ثلاثة مكونات مجتمعية طائفية وعرقية، هي الشيعة والسنّة والأكراد، وينبغي لهذا الكيان أن يستمر على هذه الحال بموجب صفقات طائفية وعرقية فوقية، لا كبلد موحّد يعيش حالة حراك واندماج مجتمعي حقيقي، خرج من ديكتاتورية شمولية دموية ويريد الأخذ بديموقراطية تقوم على مبدأ المواطنة والمساواة والحريات الفردية. باختصار: ما يسمح به ويريده بوش هو حرية الطوائف في الاقتتال، وما يريده العراقيون هو حرية المواطن السيد في بلد مستقل.
* كاتب عراقي