عمر كوش *
يُعَدُّ الاعتقال السياسي عملاً مادياً، مع أنه يمتلك ركناً مادياً وركناً معنوياً، وسبباً له صلة بين الركنين. ويرتبط تحديد المذاهب المختلفة حوله بالغاية السياسية المرجوّة منه، إلا أن أخطر أنواعه هي تلك الحملات التي تنظمها الأنظمة الشمولية أو التسلطية، وتُوكل مهمة تنفيذها إلى أجهزة استخباراتها العديدة. ويطرح السؤال عن الغاية من حملات الملاحقة والاعتقال السياسي التي تطال النشطاء السياسيين والناشطين في الحقل العام والمثقفين في معظم البلدان العربية. وهو سؤال يستحق الوقوف عنده بالبحث والتحليل، تضع جملة أعمال الاعتقال السياسي في موقعها، وتغوص في تحديد أسباب هذه الظاهرة والأهداف المرجوّة منها.
يمتد النظر في مسألة الاعتقال السياسي ليطاول قضية رفض المختلف ممارسةً وسلوكاً، تهيئ له، وتؤسس له فكرياً مدارس متخلفة ومتعددة الاتجاهات. وعلينا النظر إليها بجدية شديدة، ومقاومة مصادرها الفكرية بكل قوة، حتى لا تتدنى السياسة في العالم، وفي بلداننا العربية بشكل خاص، إلى درجة تصبح فيها جزءاً من عالم الجريمة المنظمة تحت مختلف الشعارات والمسميات، وفي ظل أنظمة الهيمنة الشمولية.
ومسألة إسكات الصوت الآخر هي من الأهداف الرئيسية للاعتقال السياسي، والغاية منها إقصاء الرأي المختلف عن الحياة السياسية، تمهيداً لاجتثاث أية معارضة في المجتمع.
وتنتشر أعمال العنف السياسي، بشكل عام، في البلدان التي تمر بمرحلة انتقالية من النظم المطلقة أو الشمولية والهيمنة إلى النظم الديموقراطية. حيث تتولى الأجهزة الأمنية في النظم الشمولية، وخصوصاً الاستخبارية، مهمة ملاحقة الخصوم السياسيين وتصفيتهم أو إسكاتهم، وتعمل على منع كل أشكال المعارضة والنقد للأوضاع الراهن، بينما تقوم المؤسسات الأمنية في الأنظمة الديموقراطية بحماية الحريات، حريات مختلف الجماعات والأفراد.
ويشير استمرار نهج الاعتقال السياسي إلى انحطاط السياسة، وسقوط العقل في وحل معياريته، بوصفه الجزء المسبب لخراب الأوضاع ودمارها في بلداننا العربية. وهو نهج لا يضرب شخصاً بعينه فقط، بل بلداناً وشعوباً، وأنتج صنوفاً من الاستبداد والقمع غير مسبوقة، وتنازعت فيه مختلف النعرات والانتماءات الضيقة. إنه الزمن المشغول بإنتاج الفساد والخراب والهزائم والانكسارات، ويتمسك فيه الحيّ بتلابيب الميت.
وينتهك الاعتقال السياسي حرمة الجسد البشري التي قدستها الفلسفة حين اعتبرت احترام الجسد معياراً لوحدة البشر حول القيم الإنسانية المشتركة. لكن ما يحصل للمعتقل في فترة اعتقاله وسجنه يضرب تلك الحرمة، من جهة إسهامه في تفاقم دعوات الانقسام البشري.
ويعبّر الاعتقال السياسي عن نهج الانتهاك والعنف، حيث يترك الأمر لممارسات مجموعة من أجهزة الاستخبارات وجلادي السجون. وهي ممارسات تؤكد السيطرة الجسدية للسلطة، ذلك أن الاعتقال في أساسه تقييد لحرية حركة الجسد في حيّز المعتقل أو السجن. ولن تنفع قيم حقوق الإنسان والكرامة وكل القيم الإنسانية في منع السجّانين من ممارساتهم غير الإنسانية، ومن سطوة هاجس السيطرة على الآخر. فالسجان العربي يمارس سلطة مطلقة على السجين بوصفه جسداً قابلاً للانتهاك، وبالتالي فهو يملك حق السيطرة واضطهاد الآخرين، وينشأ عن ذلك إحساسه في امتلاك الحق في التعذيب والتمثيل بأجساد الآخرين.
إن صور الرجال في الزنازين، وخلف القضبان، تُرجع إلى الذاكرة صور جميع معسكرات الاعتقال والإبادة التي خاضتها القوى المسيطرة في العالم الحديث، وقد لا يكفي تفسير مثل هذه المشاهد القولُ بانفصال الإرادة عن العقل، وتحول الأخير إلى مجرد أداة، بل يجب البحث عن محتوى يتسع لكلّ هذا الكمّ المرعب من العنف الجسدي. لكن الأمر المحيّر هو في خصوصية التعذيب الجسدي، الذي يولّد نوعاً من لذة الاستمتاع في التسبب في الألم لجسد الآخر، وهي خصوصية تتجسّد في كراهية الجسد والحقد عليه، وتكشف مركب نقص تعويضي عن عمليات التحقير والإهانة والإذلال.
لقد بات السجن في البلدان العربية مكاناً يحتجز فيه أصحاب الرأي المعارض والفكر المختلف إلى جانب المجرمين، وصار تعبير «سجناء الرأي» مفهوماً عربياً بامتياز يمتد ليشمل معتقلي الضمير ومعتقلي الفكر ومعتقلي الرأي، ويمكن أن نضع في مركباته كل من يسجن بسبب «جريمة رأي»!، أي بسبب اختلافه في الرأي مع ما تقوله النخب الحاكمة، أو كل من يسجن بسبب عدم اتفاقه، بل وعدم تطابقه، مع ما يريده الحاكم العربي الذي تحول إلى شخصية ميتافيزيقية، متعالية، قولها فوق قول الجميع.
* كاتب سوري