كان من أهم تداعيات حركات الاحتجاج التي عمّت شوارع وميادين بعض أهم الدول العربية، منذ أواخر عام 2010، تلك الهواجس، القديمة-المتجددة، المتعلقة بسيناريوات الانهيار والتفكك وإعادة التركيب للمنطقة العربية بكاملها. وقد عملت مراكز الدراسات والبحوث الأميركية والأور,بية، وكذلك وسائل الإعلام المختلفة، على الترويج لمشروعات إعادة تقسيم (المجزأ) بعد تفكيكه وتفتيته ونسف ركائز المجتمعات العربية بعد أن نخرتها السياسات الاقتصادية والاجتماعية إلى جانب الأساليب القمعية الإقصائية وممارسات السلطة وتركز الثروة والمال بأيدي القلة وسيادة أوضاع التهميش والحرمان لقطاعات واسعة في المجتمع حيث تتماهى حالات الفقر والجهل والتخلف مع السخط والإحباط، فأصبح الجميع رهينة التطرف والعنف والتكفير، بأدواته الداخلية والخارجية.
وإذا كان التقسيم الذي تلا الحرب العالمية الأولى، جاء سياسياً حكمته المصالح الدولية الكبرى، فإن التفكيك وإعادة التقسيم وفق المشروعات الجديدة التي تترافق أو تلي حركات الاحتجاج التي جاءت تحت عنوان ما يدعى «الربيع العربي» ستؤدي إلى تفجير المجتمعات وتهديد وحدتها من خلال اللعب على وتر الفرز الطائفي والمذهبي والعنصري، وسيكون ذلك أشد مرارة ودموية مما نتج من «سايكس-بيكو» و «وعد بلفور»، الأمر الذي يطرح بحدة مسألة مستقبل الدول العربية القائمة وشعوبها، كدول ومجتمعات.
ويرتبط ذلك كله، بتحولات استراتيجية ذات طبيعة محلية واقليمية وعالمية:
الجميع أصبح مهدداً بوجوده وبوطنه وبوطنيته، وعلى الجميع تقع مسؤولية المواجهة

محلياً، وضمن البلد المعنى الواحد، ارتبطت التحولات الجارية بفشل مشروع الدولة القطرية، حيث لم تستطع الأنظمة التي قامت في ظل الاستقلال السياسي (في ظل التدخلات الخارجية والتخلف) أن تحقق قيام الدولة الحديثة بما يتضمنه ذلك من بناء مجتمع حديث قائم على بناء مؤسساتي تحكمه علاقات العدالة والمساواة والانتماء الوطني، بسبب سياسات الإقصاء والاستئثار التي انتهجت في مستويات مختلفة وضمن ظروف مختلفة، وذلك بصرف النظر عن شعارات السيادة الوطنية والاستقلال السياسي التي كانت ترفعها الأنظمة.
إقليمياً، فشلت الدول العربية، مجتمعة، في إقامة نظام إقليمي عربي، يعزز موقعها الاستراتيجي في مواجهة التحديات التي فرضت عليها بوجود اسرائيل في قلبها.
وينسحب الفشل على المجال الاقتصادي، متمثلاً في الإخفاق في إقامة تكتل اقتصادي عربي معتبر، يفرض وجوده في العلاقات الاقتصادية الإقليمية والدولية، وفي النظام الاقتصادي العالمي.
وعلى مستوى العلاقات الدولية، فشلت الدول العربية، مجتمعة، في تكوين تكتل سياسي في إطار نظام عربي إقليمي يفرض وجوده في المحافل الدولية، ويكون له دور وأثر في إقرار السياسات الدولية في ظل النظام المعولم. ومن المفارقات أن الدول العربية، سعت منفردة، للالتحاق بالاقتصاد العالمي والنظام المعولم، في حين أنها تضع الشروط والعراقيل أمام قيام تكتل اقتصادي أو سياسي عربي.
وهكذا بقيت الدول العربية، منذ استقلالها، محلاً لأطماع الدول الأجنبية، وبقيت موضوعاً للصراعات الدولية. ومن المفارقات اللافتة، أن الشعوب العربية التي ناضلت من أجل الاستقلال وجلاء الأجنبي، أصبح البعض منها، يطالب بعودة الجيوش الأجنبية إلى أرضه، أو يطالب بالاستعانة بالأجنبي لتحقيق بعض الأهداف الضيقة في هذا البلد العربي أو ذاك، ناسياً، أو متناسياً، ما بذله الآباء والأجداد من أجل تحقيق جلاء الأجنبي ونيل الاستقلال. فيما يستمر تغييب الشعوب العربية تحت مظلة المصالح الضيقة لفئات اجتماعية قليلة من رجال الأعمال والتجار والسماسرة والبيروقراطيين الذين جرى تصنيعهم لخدمة الأغراض الخارجية، في مقابل حفاظها على هيكلية اقتصادية واجتماعية تقف حائلاً دون تحقيق التنمية الاقتصادية والاجتماعية، ودون تحقيق التقدم مع استمرار التخلف والتهميش والاستغلال، وهدر الإمكانات والموارد البشرية والطبيعية، ذلك أن المطلوب أن تبقى الدولة ضعيفة وغير قادرة على مواجهة التحديات الداخلية والخارجية، ومستعدة دائماً لتلبية مصالح الخارج، ولو على حساب مصالح الداخل.
وضمن التطورات على الساحتين الدولية والإقليمية، تتطور الأحداث على نحو غير مسبوق، حيث يتقرر مصير المنطقة العربية ومستقبلها، ربما لعقود وأكثر، وتتبلور المشروعات الإقليمية من حولنا، فيما تتلاشى إمكانية قيام مشروع عربي يستطيع مواجهة المخاطر. وإذا كانت إيران قد استطاعت، بكفاءة وذكاء الحفاظ على سيادتها واستقلالها، وأثبتت قدرتها على الوقوف في وجه المطامع الأميركية والغربية، رغم العقوبات والضغوط، وأجبرت الآخرين على الاعتراف بوجودها وقدراتها العسكرية والسياسية والاقتصادية، فأصبحت لاعباً معتبراً على الساحتين الدولية والإقليمية، إذا كان ذلك قد تحقق لإيران، فإن تركيا في المقابل تسعى إلى تحقيق أحلام الإمبراطورية العثمانية وأوهامها بزعامة أردوغان الذي يجاهر بطموحاته السلطانية ومخططاته التوسعية. فإذا أضفنا إلى هذه اللوحة المشروع الصهيوني المدعوم من الولايات المتحدة والغرب الأوربي، يظل التساؤل قائماً حول المشروع العربي الذي نشهد انهياره وتلاشي قواه في الوقت الذي يتحدد فيه مصير المنطقة وشعوبها المغلوبة على أمرها المشتتة والمغيبة.

التركيز على سورية... لماذا؟

في كتابه «الصراع على سورية»، يقول الكاتب الإنكليزي باتريك سيل
«إن من يقود الشرق الأوسط، لا بد له من السيطرة على سورية». ويلخص هذا القول، حقيقة ما جرى ويجري على الساحة السورية، خاصة، والعربية عموماً. فقد كانت سورية، وستبقى، ساحة حية للصراع بين الدول العظمى وللساعين إلى فرض نفوذهم على المنطقة العربية، ولهذا تحولت هذه الساحة إلى مسرح للصراع من أجل السيطرة ولتحقيق المصالح المختلفة، ابتداءً من السيطرة على سورية. وقد ناضل شعب سورية، وواجه أنواعاً مختلفة من التحديات التي بدأت منذ نيله الاستقلال السياسي في منتصف أربعينيات القرن الماضي، وكانت من أهم تلك التحديات مسألة الهوية والانتماء القومي، كمدخل للوقوف على الخلفية التي حكمت تطور المرحلة التي رافقت قيام الدولة السورية، وما فرضته تلك المسألة من مسؤوليات ومواجهات تتعلق بمستقبل سورية كدولة ووطن، فضلاً عمّا طرحته تلك المسألة من أوضاع تتعلق بمستقبل المنطقة العربية برمتها، وبمستقبل الشعوب العربية الطامحة إلى التحرر والمتطلعة إلى بناء مجتمعات متقدمة لها اعتبارها بين شعوب العالم. وفي هذا السياق كان على شعب سورية، أن يواجه سعي الغرب والصهيونية (وعلى رأسها الولايات المتحدة) إلى زعزعة الروابط بين أبناء الشعب الواحد، وإلقاء نوع من الغموض والضبابية على الانتماء الوطني والقومي وعلى الهوية الوطنية والقومية. وكان لا بد من أجل ذلك، من ضرب إحدى ركائز الدولة الوطنية، ونعني بها الحدود الجغرافية للدولة من جهة ووحدة الشعب الوطنية وسيادة الدولة على أراضيها من جهة ثانية، وذلك بإضعاف الدولة ومنعها من تأسيس جيش قوي ومن إقامة اقتصاد قوي يعتد به يكون داعماً لقوته العسكرية وضماناً للحفاظ على الاستقلال، ويكون قادراً على مواجهة مخاطر تم رسمها بدقة تتبلور في زرع كيان غريب على المنطقة (إسرائيل) في جنوب سورية الطبيعية (فلسطين) والإبقاء على المجتمع السوري في حالة تخلف وجهل وظلامية.
وإذا كان الغرب الأوروبي (وتالياً الولايات المتحدة) يرغب في السيطرة على سورية انطلاقاً من نظرته إليها كموقع استراتيجي تاريخي بين الغرب والشرق، فإنه أيضاً كان يعمل على حماية أمن ووجود الكيان الذي أوجده (إسرائيل)، ما يعني العمل باستمرار على إضعافها ومنع أي وحدة بين قطرين عربيين أو أكثر، فضلاً عن عرقلة التنمية وحجب إمكانات الازدهار في الاقتصاد والمجتمع.

سورية... الدولة والوطن

بدأت حركة القومية العربية (وسورية في طليعتها) طور مشروع نهضتها الأولى في أواخر القرن التاسع عشر، بالمناداة بالاستقلال عن الإمبراطورية العثمانية، وسارعت أوروبا إلى احتضان هذه الدعوة ودعمها في إطار صراعها مع الإمبراطورية العثمانية. وعندما قامت الحرب العالمية الأولى، كانت الفرصة الذهبية لبريطانيا، فقد استغلت رغبة العرب في الانعتاق والتحرر، كما استغلت «سذاجة» وجهل «قائد الثورة العربية» الشريف حسين، وشغف أولاده بالسلطة، فوعدت بدعم قيام المملكة العربية في الجزيرة العربية والمشرق العربي في مقابل تقديم العون للجيش البريطاني ضد الجيش التركي. وبعد أن قدم العرب ما هو مطلوب منهم، نكثت بريطانيا (والغرب) بتلك الوعود، وكانت النتيجة بداية الكوارث التي انهالت على الأمة العربية جمعاء، وكان ما لحق بسوريا أخطر وأعظم هذه الكوارث. فقد جاء اتفاق «سايكس-بيكو» أولاً (1916/5/16) بين بريطانيا وفرنسا (وهو اتفاق متمم للاتفاق الرئيسي بين كل من بريطانيا وفرنسا وروسيا القيصرية القاضي بتقسيم الدولة العثمانية بعد الانتصار في الحرب في ما بينها)، وكان من نتائج هذا الاتفاق فصل فلسطين والأردن ولبنان عن سورية. ثم كان «وعد بلفور» الذي قطعت بريطانيا على نفسها عهداً بضمان إقامة وطن قومي لليهود في فلسطين.
والجدير بالذكر أن هذا الوعد حصل على موافقة مسبقة من الولايات المتحدة وفرنسا.
وعملت كل من بريطانيا وفرنسا على تقطيع أوصال «سورية الطبيعية» إلى أن أعطاها الملك فيصل أملاً ضعيفاً عندما أعلن قيام الدولة العربية في دمشق، إلا أن ذلك انتهى باتفاقية «سان ريمو» حيث قسمت سورية الطبيعية إلى منطقتين: واحدة تحت انتداب فرنسا وأخرى تحت انتداب بريطانيا، وقسمت الأولى إلى سورية ولبنان (وقد تم إلحاق مناطق مهمة من سورية إلى لبنان، ولم تكن تلك المناطق تابعة لمتصرفية الجبل بل لولاية دمشق تاريخياً)، فيما قسمت الثانية إلى فلسطين وشرق الأردن.
وبعد أن استقرت فرنسا في سورية، حاولت تقسيمها إلى دويلات يجمعها اتحاد هش. وقاومت الحركة الوطنية ذلك بإصرار. فقد جاء في نداء سلطان باشا الأطرش زعيم الثورة (1925) مطالباً بوحدة البلاد السورية (ساحلها وداخلها والاعتراف بدولة سورية عربية واحدة). كذلك دعت الكتلة الوطنية في مؤتمر حمص (1932) إلى «إنشاء دولة ذات حكومة واحدة، بما فيها جميع أراضيها المجزأة»، وقد تخلت فرنسا في ما بعد عن لواء اسكندرون لتركيا ضمن صفقة جرت بينهما على حساب سورية. وعلى الرغم من وجود الانتداب الفرنسي، ظل الشعب السوري يتطلع إلى الوحدة العربية. وبقيت أهداف القومية العربية حية في ضميره، لم تستطع الحدود المرسومة من الخارج أن تمنعه من التطلع إلى العرب خارج الحدود. ومن هذا المنطلق كانت سورية في طليعة الدول العربية الموقعة لميثاق تأسيس جامعة الدول العربية، رغم ملاحظاتها في ذلك الوقت بأن الصيغة التي أتت بها الجامعة لا تلبي تطلعات الشعب العربي في قيام كيان سياسي مستقل، فيما سارعت الأنظمة العربية الأخرى إلى قبول الصيغة التي قيل عنها وقتذاك إنها «عبارة عن رأس انكليزي راكب على جسم عربي». وهي لم تكن، في الواقع، سوى التفاف بريطانيا والغرب عموماً، على تطلعات الشعب العربي، حيث لاقى ذلك استجابة من الأنظمة العربية التي رأت فيها مخرجاً يضمن لها الاستقرار في الحكم. وكانت الجامعة على مدى السنين أداة لتكريس التجزئة وترسيخ القطرية.
لكن انضمام سورية في ذلك الوقت إلى الجامعة العربية، كان تأكيداً لانتمائها القومي من جهة، ولقطع الطريق أمام طروحات سياسية أخرى، كالهلال الخصيب وسورية الكبرى، وهما مشروعان هاشميان رفضتهما كل من السعودية ومصر ولبنان أيضاً. إلى جانب هذا، كان انضمام سورية إلى الجامعة، يظهر تأكيدها لهويتها العربية في مواجهة طروحات ايديولوجية أخرى، كالقومية السورية (التي طرحها الحزب السوري القومي الاجتماعي) والدولة الإسلامية التي طرحتها الحركات الإسلامية، تلك التي لا تعترف بحدود وتتطلع إلى إقامة الخلافة الإسلامية. ومنذ تأسيس الدولة السورية على النحو الحاصل منذ الاستقلال، كانت الحياة السياسية السورية تمارس من خلال «دولة قطرية» في إطار توجهات «وحدوية»، وكان التيار الجماهيري الوحدوي حازماً في الخمسينيات والستينيات من القرن الماضي، حين تبلور في «فعل» وحدوي تجلى في وحدة سورية ومصر التي ما لبثت أن انهارت تحت وطأة أخطاء السلطة من جهة، والمؤامرات الخارجية من جهة ثانية، بما في ذلك الموقف العدائي من بعض الأنظمة العربية خاصة (العربية السعودية). ومنذ ذلك الوقت تصاعدت ممارسات الأنظمة العربية المختلفة (بدرجات مختلفة) نحو تأكيد قطريتها وسيادتها الوطنية داخل حدودها، وكانت معظم هذه الأنظمة تمتنع عن تنفيذ قرارات (وتوصيات) جامعة الدول العربية والمجلس الاقتصادي والاجتماعي واللجان المختلفة، بحجة سيادتها الوطنية، فيما تسارع إلى تنفيذ توجهات أو اتفاقيات زيد من ارتباطها بالمنظمات والمؤسسات الدولية والشركات المتعدية الجنسية. ومن هنا تبلور لدى هذه الأنظمة ممارسات وإجراءات من شأنها تكريس «الدولة القطرية»، الأمر الذي أفرز آليات (تاريخية ــ قطرية) تحتضن في جنباتها تفاعلاً تاريخياً واجتماعياً وسياسياً يميل إلى ترسيخ النزعة القطرية والهوية الوطنية في إطار تكوين مشاعر عامة وبلورتها بطريقة لاواعية في هوية الدولة.
وعندما لجأ الغرب إلى تقسيم المنطقة العربية إلى دول زرع في كل دولة، بذور الاختلاف داخلها، وفي علاقتها مع جيرانها. وكانت إحدى بذور الاختلاف داخل سورية، التنوع في النسيج الاجتماعي (تنوع إثني وعشائري وطائفي ومذهبي) على أمل استخدام هذا التنوع من أجل استمرار الاختلاف داخل الدولة، ومنع التلاحم والانصهار بين أطياف المجتمع. لكن ما حصل كان مغايراً لما يريده الأجنبي، فقد التحمت أطياف ومكونات الشعب السوري في ملحمة وطنية رائعة، لم تستطع أي من المؤامرات أن تحقق الشروخ المطلوبة لاستمرار تسييد الأجنبي على الدولة السورية، فكان ذلك مصدراً لقوة وجود الوطنية السورية في إطارها القومي العربي.
وانعكس التنوع في أطياف ومكونات الشعب السوري على المجموعات السياسية العاملة في المراحل التالية للاستقلال. فقد توزعت هذه المجموعات في اتجاهات إيديولوجية ــ سياسية، منها ما هو رئيسي ومنها ما هو ثانوي، على النحو الآتي:
ـــ اتجاه قومي عربي ينزع إلى الوحدة العربية الشاملة.
ـــ اتجاه إسلامي يطمح إلى إقامة الدولة الإسلامية.
ـــ اتجاه قومي سوري يرغب في إقامة الدولة السورية على أرض سورية الطبيعية.
ـــ اتجاه أممي يعمل تحت شعار «يا عمال العالم اتحدوا» يعبّر عنه في الحركة الشيوعية.
وكان هناك بعض الحركات الإثنية (كما هي الحال في الحركة الكردية)، كذلك كان هناك تيار يعمل ضمن أهداف الدولة السورية الوطنية.
وعندما كان الاتجاه القومي العربي هو الغالب في خمسينيات القرن الماضي، فرض التوجه القومي العربي، كما فرض الوحدة مع مصر، لكن استخدمت النزعة الوطنية الضيقة لتأليب الشعب على نظام الوحدة، وحققت القوى المعادية انفصال سورية عن مصر (كعقوبة) مباشرة للتوجهات القومية العربية. إلا أن تولي حزب البعث العربي الاشتراكي (وأنصاره من القوميين العرب) السلطة في سورية منذ عام 1963، أعاد إلى سورية وجهها القومي العربي التقدمي، على حساب التوجهات السياسية الأخرى، وقد تعايشت مختلف مكونات المجتمع السوري في بوتقة واحدة يجمعها العيش المشترك والآمال والطموحات المشتركة. وعلى هذا جرى ضبط إيقاع حركة المجتمع، وإيجاد التوازنات التي من شأنها أن تحد من إمكانية التنازع وخلق بؤر حادة من الخلافات بين أطياف المجتمع الذي توحد تجاه المخاطر الخارجية التي تبلورت في العدوان الإسرائيلي (1967) وفي مشروع الشرق الأوسط (الجديد منه والكبير) والذي كانت تطمح الصهيونية والولايات المتحدة من خلاله إلى فرض واقع جديد في المنطقة العربية تكون «إسرائيل» محوره الأساسي تحت شعارات الديمقراطية وحقوق الإنسان والإصلاح الاقتصادي الذي يتمثل في الانتقال إلى اقتصاد السوق والالتحاق بالعولمة والانخراط بالتبعية للاقتصاد العالمي.
إلا أن التوازنات التي سعى الحكم إلى تعميمها في المجتمع السوري، جرى اختراقها وخلخلتها. فعلى الصعيد السياسي، لم تستطع الجبهة الوطنية التي شكلت بقيادة حزب البعث العربي الاشتراكي وعضوية فئات سياسية كانت قد انبثقت منه، إلى جانب الحزب الشيوعي السوري، أن تملأ الفراغ السياسي، وأن توجد الحياة السياسية التي تمكن المواطن السوري من ممارسة حقوقه السياسية. واستمرت السياسات الاستئثارية والإقصائية والأمنية تعمل بفعالية داخل المجتمع السوري، مولدة لأسباب الإحباط واليأس لدى قطاعات واسعة من الناس.
وعلى الصعيد الاقتصادي والاجتماعي، بدأت مفاعيل السياسات الاقتصادية الليبرالية تظهر على نحو مؤلم تبدى في البطالة (خاصة بين الشباب) وفي اتساع دائرة الفقر والعوز.
وبرز على نحو مفجع مفعول مقولة «تحرير التجارة هو قاطرة النمو»، حيث شرعت الأبواب للمنتجات الأجنبية (خاصة التركية) التي اكتسحت الأسواق، وأخرجت من العملية الإنتاجية آلاف المعامل والورش، خاصة في مجال الغزل والنسيج والتريكو والجلديات والأثاث والمصنوعات من خلال هذين العاملين: السياسي والاقتصادي والاجتماعي، جرت خلخلة التوازنات المجتمعية، فوجدت قوى الظلام والتكفير، بتخطيط محكم من الدوائر الاستخبارية (وبالتحديد الأميركية والصهيونية والتركية والفرنسية والبريطانية) بمعاونة بعض الدول العربية (وبالتحديد قطر والسعودية والأردن) وجدت هذه القوى الفرصة مناسبة لإطلاق شعاراتها بمنهجية متصاعدة تبدأ بتظاهرات الاحتجاج لتنتهي إلى حمل السلاح، وبمساعدة الضخ الإعلامي - الوهابي، ثم استدعاء لغة التكفير لتضفي على المشهد ذلك المشهد الرباني، وسط بيئة مجتمعية يغلب عليها الجهل، قابلة للانخراط في عمل تسيره الأوهام والأفكار الرجعية والخزعبلات، تحت عنوان الحل الإسلامي الذي سيخلصهم من واقع أليم، لينقلهم إلى جنة الحوريات الموعودة. ولضمان النجاح في هذه الخطة الجهنمية، استُدعيت أخطر النوازع الطائفية والعشائرية والمذهبية والإثنية والجهوية، لتكون أدوات تمزيق وحدة المجتمع السوري وتخريب نسيجه الوطني. وتصاعدت حمى المواجهات العسكرية لتدفع ملايين السوريين خارج بيوتهم في حركة هجرة ونزوح قلما شهدتها دولة من دول العالم، ودُمِّرَت بيوت السكن في المدن والقرى، كذلك أُلحق التخريب في مشاريع البنية التحتية، واستولت قوى الظلام على آبار النفط والغاز وعملت على تخريب منشآتها، وقامت بتخريب ممنهج لمصادر الطاقة الكهربائية وشبكة توزيعها، وذهب خلال ذلك كله مئات الآلاف من السوريين بين شهيد وجريح.
لكن أخطر من القتل والتدمير والتخريب، كان المساس بوحدة سورية وطناً وشعباً، بإحداث ذلك الشرخ العميق في المجتمع.
لقد جاءت الحركات التكفيرية، في ظل ظروف التهميش والإقصاء، والممارسات الأمنية، لتستغل ذلك كله وتحاول أن تحيل المجتمعات إلى حاضنات للجهاد والمجاهدين، مستفيدة من غض النظر الذي مارسته السلطات تجاه النشاط الدعائي الذي كانت تقوم به بعض القوى الوهابية، كذلك كان للدروس الدينية التي كان يلقيها بعض الدعاة في المساجد والندوات، أثر كبير في ترجيح نشر الفكر الوهابي الرجعي الذي يتجاوز الإطار الوطني ومؤسسات الدولة وسيادتها إلى آفاق ما قبل الوطنية، بما في ذلك من إثارة للنزعات المذهبية والطائفية والقبلية. فكان مجموع ما حصل قبل الأحداث وما جرى خلالها المناخ المناسب لنشر الفوضى، التي أرادتها الولايات المتحدة (فوضى خلاقة) وأرادتها الحركات التكفيرية (فوضى عارمة)، وكلاهما، الفوضى الخلاقة والفوضى العارمة، ومن يقف خلفهما، يهدفان إلى هدف واحد، وهما وجهان لعملة واحدة. والهدف هو تفكيك وتفتيت وتدمير وتهديم مجتمعات المنطقة العربية إجمالاً، وخاصة سورية، لإعادة بناء أشكال جديدة من الصيغ، بعيدة كل البعد عن آمال وطموحات الشعب في سورية وسائر الشعوب العربية، مما يلتقي حتماً ضمن مجموعة من الأهداف التي تركزت حول مسألتين أساسيتين:
الأولى: إضعاف الدولة، بما في ذلك إشاعة الوهن والتفكك في المجتمع، ونشر ثقافة الفساد والإفساد.
والثانية: إضعاف القوات المسلحة، وصرفها عن هدفها الأساسي في مواجهة العدوان الإسرائيلي.
ولا شك في أن ذلك يلبي إلى جانب ما تريده الجماعات التكفيرية، أهداف الاستراتيجية الأميركية ــ الصهيونية، وهو لا شك يصبّ بالنهاية في مصلحة «إسرائيل» لتمكينها لأن تكون القوة الأساسية والمركزية في المنطقة.

كيفية المواجهة

إذا كان ذلك أصبح واضحاً، فكيف يمكن مواجهته؟ الجميع أصبح مهدداً بوجوده وبوطنه وبوطنيته، وعلى الجميع تقع مسؤولية المواجهة، التي يجب أن تنطلق من مواجهة الحقيقة التي قد تكون غائبة عن البعض. هذا البعض الذي لا يزال يعيش حالة الشغف والرغبة العمياء في الانتقام والثأر والوصول للسلطة، وهي حالة مرضية تصل إلى حد «الإنكار» المغلفة بمشاعر الأنانية والنرجسية التي لن تصل بصاحبها إلا إلى الدمار، الذي لن يصيبه وحده، بل سيصيب كل من حوله، فيقضي على الحاضر ويرهن المستقبل للمجهول.
انطلاقاً من هذه الحقيقة، ليس أمام السوريين سوى العمل من أجل البقاء، من أجل أن تبقى سورية في حدودها المعترف بها دولياً، ليس أمام السوريين سوى العمل من أجل الحفاظ على نسيجهم الوطني، والمحافظة على تماسك المجتمع بمكوناته المختلفة. وهذه المهمة العظيمة تحتاج إلى استنهاض الجميع، حكومة ومن حولها من الموالاة، ومعارضات على اختلاف أطيافها، فضلاً عن المهمشين والمبعدين قسراً أو برضاهم، الجميع مدعو الآن إلى العمل من أجل وحدة الأرض السورية والشعب السوري. الجميع مدعو إلى الحفاظ على عناصر قوة سورية المتمثلة بالقوات المسلحة (الجيش السوري الوطني بتاريخه ووطنيته)، وعلى روح سورية المتمثلة بشعبها، وتاريخه وقيمه ووطنيته، ونزعته المقاومة من أجل البقاء. ابتداءً من الاتفاق على المضي بالعملية السياسية، لتهيئة الأوضاع الملائمة للقضاء على الإرهاب، ووضع حد للحرب العبثية، والخروج من المحنة التي وضع بها الشعب السوري بجميع مكوناته وأطيافه، فيعود الشعب إلى وطنه، وتعود الدولة إلى شعبها، عندها، فقط، يمكن مواجهة الاستحقاقات التاريخية المتمثلة بإعادة اللحمة إلى النسيج الوطني بجميع مكوناته، والانتقال إلى معالجة ما خلفته الأحداث الكارثية، ويأتي في مقدمتها معالجة أوضاع النازحين والمهجرين، وإعادة دورة الإنتاج إلى الاقتصاد الوطني، وتحقيق إصلاح جذري للخطاب الديني، وإشاعة ثقافة جديدة في المجتمع، أساسها احترام التمسك بالوحدة الوطنية والحرية والكرامة وإقامة نظام تحكمه قواعد المساواة والتكافؤ والعدالة الاجتماعية، لنثبت للعالم جدارتنا بنيل شرف الوطنية السورية والانتماء القومي واسترداد مكانتنا بين شعوب العالم.
وعندما تتحقق وحدة شعب سورية، على هذا النحو، سوف تذلل العقبات والمواقف الإقليمية والدولية، ستضطر الدول الإقليمية إلى احترام إرادة الشعب السوري، وسوف تضطر دول العالم النافذة إلى الاعتراف بقدرة هذا الشعب ورغبته في الحياة فترضخ لمشيئته وتحترم استقلاليته، إن لم نثبت للعالم جدارتنا بالعيش المشترك وبنزوعنا إلى الحرية وبناء دولتنا على أسس العدالة والمساواة واحترام حقوق الإنسان وإقامة الدولة الديمقراطية المدنية، إن لم تثبت ذلك فلن ننال احترام العالم. فهل نفعل؟!
* باحث اقتصادي