دينا حشمت *
منذ أن أضرب حوالى 17000 عامل في شركة الغزل والنسيج في منطقة المحلة الكبرى شمال القاهرة في شهر كانون الأول 2006، ونجحوا في إجبار الإدارة على الاستجابة لمطالبهم، يبدو كأن الحركة العمالية المصرية انطلقت بعد عقود طويلة من الخمول. فقد حثّ نجاح عمال المحلة عمالاً آخرين في قطاع الغزل والنسيج، وفي شركات الإسمنت، على طرح المطالب نفسها بصرف الأرباح السنوية المستحقة لهم. وغالباً ما نجح هؤلاء العمال في الحصول على حقوقهم، بعد اعتصامات أو إضرابات، بل حتى إضرابات عن الطعام متفاوتة المدة والحدّة. وكان من أشهر الاحتجاجات اعتصام عاملات شركة «المنصورة إسبانيا»، الذي دام لمدة 67 يوماً.
ولم تنقطع موجة الإضرابات حتى الآن. فلا يمر أسبوع من دون أن تعلن الجرائد (المستقلة) احتجاجاً جديداً في هذا المصنع أو ذاك، من الترسانة البحرية والنيلية إلى مصانع الزيت والصابون، في القطاع العام والخاص على حد سواء، في منشآت ضخمة يتجاوز عدد عمالها عشرة آلاف أو في شركات متواضعة الحجم، لا يعمل فيها أكثر من مئة عامل. فانتشرت الظاهرة وطالت العديد من الفئات، من الأطباء إلى عمال النظافة، ومن سائقي القطارات وموظفين الإدارات المحلية إلى المدرّسين. وحتى مدرّسو المعاهد الأزهرية، المعروفون بأنهم من القطاعات الأكثر «مسالمة» والأقل تمرّداً على الأوضاع السائدة، أحجموا عن تصحيح امتحانات نهاية العام، مطالبين بإدخالهم في نظام الكادر الخاص (وهو نظام لرفع الحد الأدنى للأجور) مثل المدرّسين الآخرين. وفي النهاية تُوّج هذا التحرك بالنجاح.
ترجع بذور هذه الاحتجاجات إلى نهاية التسعينيات، عندما اعتصم صغار الفلاحين المستأجرين في أراضيهم، رافضين تطبيق قانون المالك والمستأجر الجديد الذي أدى إلى تحرير قيمة إيجار الأراضي الزراعية. فشل ذاك التحرك فأسفر تطبيق القانون عن تحوّل مئات الآلاف من المستأجرين إلى جيش من العمالة اليومية التي تفتقر إلى الحد الأدنى للمعيشة. ولكن هذه الاحتجاجات تبدو كأنها هي التي مهّدت المناخ لكسر حاجز منع التظاهر في الشارع، وهو ما انعكس في حركة التضامن مع انتفاضة الشعب الفلسطيني الثانية سنة 2000، والتظاهرات المعارضة لضرب العراق سنة 2003، ثم ظهور حركة «كفاية» وكسر حاجز الخوف من انتقاد مؤسسة الرئاسة. وعلى الرغم من أن هذه الاحتجاجات الأخيرة فشلت في وقف مهزلة التعديلات الدستورية المتعاقبة، فالمؤكد أنها فجّرت طاقات احتجاجية ظلّت مكبوتة لمدة سنوات، وشجّعت العديد من القطاعات على المطالبة بحقوقها المسلوبة.
وفي هذا الإطار، فإن ظاهرة الإضرابات الأخيرة ليست بالجديدة تماماً. فقد يتذكّر البعض إضراب المراقبين الجويين الذي شلّ مطار القاهرة الدولي في شهر أيار 2005، في توقيت صعود حركة «كفاية» نفسه. ومثلما تلحّ هذه الحركة على أن «التغيير» أصبح قضية حياة أو موت بالنسبة إلى المجتمع المصري، فإن مطالب المراقبين المضربين لم تكن متمثلة فقط في عودة زملائهم المفصولين من دون وجه حق، وفتح مفاوضات لزيادة أجورهم وحوافزهم، بل إنهم كانوا يتطرقون إلى مشاكل أخطر وأعمّ، ألا وهي تلك المرتبطة برعاية وسائل الأمان في المطارات المصرية. فكانوا ينبّهون إلى أن تقليص عدد المراقبين المسؤولين عن متابعة الحركة الجوية يشكّل خطراً على سلامة الركاب وربما ينذر بكوارث محقّقة.
وإن لم تحدث هذه الكارثة بعد في مجال الطيران، فإن مثيلاتها وقعت في قطاعات أخرى كثيرة. ولعلّ القارئ اللبناني يحتاج إلى التذكير ببعض هذه الكوارث، عكس القارئ المصري الذي فقد بالضرورة أحد الأحباء أو الأقارب أو المعارف في إحدى هذه الكوارث التي أصبحت بالتالي تشكّل جزءاً من وجدانه ومن حياته اليومية، فهناك أولاً غرق عبّارة السلام في شباط 2006، الذي أودى بحياة 1061 مواطناً (يكاد يكون العدد نفسه لضحايا حرب تموز في لبنان!)، ثم حوادث القطارات المتكررة التي أودى أشهرها ـــــ حريق قطار الصعيد صبيحة عيد الأضحى 2002 ــــــ بحياة 361 مواطناً حسب البيانات الرسمية، ثم حوادث الطرق، وآخرها تلك التي أدت الى مصرع 13 شخصاً وإصابة العشرات عند تصادم أوتوبيسين في مدينة شرم الشيخ، كان أحدهما من أتوبيسات «شرق الدلتا» التي تربط ما بين مدن البلاد.
ولعلّ هذه الأوتوبيسات، على سوء حالتها وعدم صيانتها، تسير «بالبركة»، من دون فرامل تعمل ولا زجاج يُغلق، وهي هياكل تقع منها حرفياً بعض قطعها في الطريق وتُصدر أجزاؤها المفكّكة صريراً مزعجاً طوال «الرحلة»... وتتعرّض للعطل في أي لحظة. لعلّ هذه الأتوبيسات تعبّر أفصح تعبير عمّا وصلت إليه جميع المرافق الحيوية من تفكيك.
فالدولة منذ ما يزيد على ثلاثين عاماً طبّقت وصفات صندوق النقد الدولي، فخفضت الدعم، وقلّلت من نسبة إنفاقها على قطاعات مثل التعليم والصحة، فاتحةً المجال أمام تأسيس المئات من المدارس والمستشفيات الخاصة. وعلى الرغم من أن انتفاضة الخبز في 18 و19 كانون الثاني/يناير 1977 كانت قد أجبرت النظام على إبطاء تطبيق هذه السياسات، ومع أنه ظهرت عدة إضرابات عامة في قطاعيْ النقل (1986) والحديد والصلب (1989)، فإن العجلة لم تقف، بل بالعكس استمرت. وبسبب سياسة التقشّف (إلى جانب ظاهرة الفساد)، لم تُصَن أي من المرافق الأساسية، كشبكات توزيع الماء والصرف الصحي، مثلاً، والمواصلات... إلخ.
لعلّ قطاع النقل هو الذي يتجلّى فيه هذا التفكيك على أوضح نحو. فإلى جانب الحوادث المروّعة التي أشرنا إليها، هناك عدة حقائق مرتبطة بالأداء اليومي و«الطبيعي» لهذه المواصلات. فلقد حلّت وسائل النقل الخاصة، من ميكروباصات وما شابه، فعلاً محلّ أتوبيسات النقل العام. أما بالنسبة إلى السكة الحديد، فحالة القطارات أصبحت مزرية تدعو للرثاء، فقطار «الدرجة الثالثة» (الذي غيّر المسؤولون تسميته من دون أن يغيّروا شيئاً من شكله وأدائه) يسير هو الآخر «بالبركة»، بفرامله المتهالكة، على قضبان قديمة، من دون زجاج على نوافذه، ومن دون نظام للإشارات آمن يُعتمد عليه. وفيما تتردد أنباء عن إنشاء خطوط جديدة تماماً، ينشئها القطاع الخاص لخدمة التجمعات الصناعية الجديدة، فإننا لم نرَ حتى الآن أي بوادر تنفيذ لهذه الخطط. ومع أن الحكومة ظلّت تطمئن الرأي العام إلى أن «لا خصخصة للسكة الحديد»، وتناقش الخطط الخماسية الواحدة تلو الأخرى، فإن مؤسسي «رابطة سائقي القطارات» التي قادت معظم إضرابات السكة الحديد الأخيرة، ما زالوا يعبّرون عن قلقهم، ويتساءلون عن معنى أن يشغل منصب وزير النقل السيد محمد منصور، أحد أهم رجال الأعمال المصريين، صاحب توكيل فورد وجنرال موتورز، ورئيس غرفة التجارة الأميركية ـــــ المصرية السابق، والرئيس الحالي لمجموعة «منصور»، أحد أهم تكتلات القطاع الخاص؟ فكيف تسترجع السكة الحديد المصرية، وهي لا تزال تندرج في القطاع العام، عافيتها في ظل هذه الإدارة؟
وإن كان سائقو القطارات من أحرص القطاعات في الدفاع عن مصالحهم، وهددوا مراراً بشلّ حركة القطارات من الإسكندرية إلى أسوان ما لم تستجب الإدارة لمطالبهم، فإنهم مثل المراقبين الجويين، يطرحون أسئلة ملحّة تخصّ قواعد السلامة والأمان، على غرار معارضتهم نظام «الحوافز بالكيلومتر» الذي يشجّع السائقين على القيادة لأطول مدة ممكنة، فيصلون إلى حالة من الإرهاق تمثل خطراً على حياة الركّاب. وعبّر أخيراً سائقو مترو الأنفاق في القاهرة عن هموم شبيهة، محذرين من وقوع كارثة في المترو (الذي لم يشهد بعد كارثة بمثل فجاعة كوارث القطارات) إن لم توقف الإدارة الاستعانة بمراقبين غير مؤهّلين لقيادة القطارات. وهدّدوا بالإضراب عن العمل وشلّ حركة المترو في القاهرة الكبرى. وهم بهذا يأخذون على عاتقهم مسؤولية سلامة المليون راكب الذين يستخدمون المترو يومياً، بينما يتهرّب الوزراء ــــــ رجال الأعمال من مسؤولياتهم. فهؤلاء الوزراء هم خير مثال على توجّهات الحكومة الحالية التي تتوّج ثلاثين سنة من السياسة الانفتاحية بالخراب والتفكك المفزع.
ويبدو أنه مع زيادة التفكك، تراخت أيضاً قبضة الدولة على كل أوجه الحياة (ما لا يعني أن القمع تراجع) في المصانع والأحياء والأرياف. فأصبح المواطنون يعتصمون من أجل الحصول على «رغيف العيش»، أو ضد انقطاع الماء، أو ضد نقلهم من منطقة سكنهم (معركة أهل قلعة الكبش في السيدة زينب). يتواصل صوت الأهالي مع تحذيرات العمال المتكررة، معبّراً عن الرفض نفسه لأن يتحكم منطق الأرباح بحياة الملايين. فما تطرحه الاحتجاجات العمالية الحالية في مصر هو اختيارات مصيرية لمستقبل البلاد. وما أنجزته من نجاحات، ولو ضئيلة، ينذر بتوسّع الظاهرة، وبالمزيد من الاعتصامات والإضرابات.
* صحافية مصرية