رياض صوما*
من بديهيات العمليات العسكرية اعتماد قاعدة أو قواعد خلفية لإسناد كل عملية. وعندما اتخذ الأميركيون قرار شن الحرب على «الإرهاب الإسلامي»، التي تحولت إلى حرب على «الاستبداد»، ثم تحولت، بعد توسع مساحة الاعتراض على سياسات الإدارة الأميركية، إلى حرب على «المتطرفين»، دون تمييز، اتخذوا دولاً محددة في المنطقة قواعد إسناد لهذه الحرب. اختاروا باكستان لإسناد حربهم في أفغانستان. واختاروا الكويت والسعودية لإسناد حربهم في العراق. واختاروا لبنان لإسناد حربهم على سوريا. واختاروا الأردن ومصر لإسناد حربهم على المقاومة الفلسطينية.
كانوا يتوقعون في بداية الحرب هذه انهياراً سريعاً أو استسلاماً كاملاً للمستهدفين. والجميع يذكر بعد سقوط بغداد، وقوف جورج بوش مرتدياً بزة الطيارين على إحدى حاملات الطائرات الأميركية، معلناً بزهو انتهاء العمليات. كما يذكر الجميع زيارة كولن باول إلى دمشق حاملاً إملاءاته المعروفة. كما يذكر الجميع كذلك، إعلان رايس مراراً ولادة الشرق الأوسط الجديد، وآخرها خلال حرب تموز الأخيرة على لبنان. لكن حساب الحقل الأميركي، لم يوافق حساب البيدر.
فقد بدت مهمة تصفية خصوم سياسة جورج دبليو بوش على الأرض، أكثر تعقيداً مما بدا في الخطط المرسومة على الورق. أكثر من ذلك، مع استمرار التعثر في أفغانستان وفي العراق وفي فلسطين وفي لبنان وفي السودان وفي الصومال، إلخ... بدأت تلوح احتمالات الفشل الكامل.
وهذا ما يفسر تحول الرأي العام الأميركي، وتكرار تصويت الكونغرس لإقرار جدول زمني لسحب القوات من العراق، واستطراداً من باقي ساحات القتال في المنطقة. بل وصول موجة الاعتراض على استمرار الحرب إلى داخل صفوف الحزب الجمهوري.
ولا يبدو كلام قائد القوات الأميركية في العراق عن التخطيط لقتال يستمر عشر سنوات للقضاء على المقاومة سوى مكابرة مثيرة للشفقة. ويبدو كلام جورج دبليو بوش الأخير، عن منحه فرصة جديدة لتحقيق الانتصار، أكثر إثارة للشفقة. وقد دفع ذلك السيناتور لوغر، أحد قادة الحزب الجمهوري المتشددين، إلى التعليق على كلام الرئيس الأميركي، بأن هذا الأخير قد فقد صلته بالواقع. فما تعذر إنجازه خلال أربع سنوات، يستحيل إنجازه خلال 4 أشهر.
يعتقد البعض أن باستطاعة جناح تشيني دفع الإدارة إلى الهروب إلى الأمام وتصعيد المواجهة لتطال دمشق وطهران. لا يمكن استبعاد هذا الاحتمال نهائياً، لكن حجم الاعتراض الأميركي والعالمي عليه، وحجم مخاطره، تجعله يبتعد يوماً بعد يوم. وما يقطع الطريق عليه، اتزان الأداء الإيراني ومرونته، حتى الآن. وآخر مظاهره التفاهم الذي تم مع محمد البرادعي خلال زيارته الأخيرة إلى طهران، بشأن الملف النووي الإيراني، واعتدال رد جيش المهدي على الاستفزازات المتواصلة التي يتعرض لها من القوات الأميركية وعملائها، وإعلان دمشق استعدادها لتسهيل مهمة براميرتس ولجنة التحقيق الدولية، وعدم رفضها الحاد لعروض التفاوض الإسرائيلية، ودعوات حماس المتكررة لاستئناف الحوار الوطني الفلسطيني، مباشرة أو عبر تجديد الوساطات العربية، وكذلك ميل حزب الله في لبنان للفسح في المجال لكل مساعي التسوية.
لكن ميل كل هذه القوى المستهدفة من الأميركيين، لعدم التصعيد خلال الأشهر المقبلة، التي يستطيع خلالها الجناح المتشدد في الإدارة الأميركية اتخاذ قرار توسيع نطاق الحرب، لا يعني بالضرورة توقف المواجهات أو انحصارها جغرافياً. فبين الاسترخاء والهدوء، والانفجار الشامل، هناك مسافة كافية تسمح بدرجات مختلفة من التصعيد. إن رد بوش على قرارات الكونغرس الأخيرة كان إعلان تصميمه على متابعة المعركة. فإذا لم تسمح له المعطيات بدفع الوضع إلى حدود الحرب الشاملة، فإن بمقدوره رفع مستوى الضغوط على خصومه إلى مستويات أعلى. يمكنه توسيع نطاق الضربات الجوية على القواعد الخلفية للطالبان في باكستان، ودفع برويز مشرف إلى تصعيد مواجهته مع الإسلاميين. يمكنه زيادة الضغط على حكومة المالكي لقبول توسيع دور الميليشيات غير النظامية في العمليات المشتركة العراقية ـــــ الأميركية. ويمكنه تشجيع أولمرت وعبد الله ومبارك على تشديد الحصار على غزة، وتشجيع أبو مازن على تصعيد الخلاف مع حماس. كما يمكنه السعي من خلال حلفائه في لبنان، إلى زج الجيش في مزيد من الصدامات مع القوى المحسوبة على سوريا أو المعارضة.
إذا اعتمد جورج بوش هذا الخيار حلاً لتجاوز معارضة الكونغرس، وورقة أخيرة قبل موعد التقريرين العسكري والسياسي اللذين سيقدمان في أيلول المقبل، فإن المنطقة ستشهد خريفاً حاراً. ذلك أن القوى المستهدفة ستكون مضطرة للرد بأشكال مختلفة، ليس فقط في الساحات المباشرة للصراع في أفغانستان والعراق وفلسطين، بل في «قواعد الإسناد الخلفية».
لن تفعل ذلك دفاعاً عن النفس فحسب، بل من أجل الاستفادة من الارتباك الأميركي لتوجيه ضربات لحلفاء الإدارة الأميركية، وللإسهام في إسقاط الجمهوريين في الانتخابات المقبلة. وتدفع المنطقة ثمناً لذلك، وخاصة إذا أخذنا بعين الاعتبار طبيعة القوى المرشحة لملء الفراغ النسبي الذي سيحصل، خلال الانكفاء الأميركي المقبل.
فنحن لسنا في فييتنام، غداة الانسحاب الأميركي، حيث انتهت المعركة بشكل حاسم، وتسلمت السلطة قيادة جاهزة لتوحيد مجتمعها والسير به إلى الأمام. تعيش المنطقة توازناً يستبعد الحسم السريع للصراع، وتقود المواجهة قوى يستثير انتصارها قدراً من التوترات، يوازي تلك التي تسبب بها الاحتلال. إن انتقال المعركة إلى «القواعد الخلفية»، المفتوحة من حيث طبيعتها المذهبية، على المدى السني القاري، يحمل من التحولات ما لم تشهده المنطقة منذ سقوط السلطنة العثمانية. فهل تستمر بعض القيادات اللبنانية في أوهامها الريفية؟
* عضو المجلس الوطني للحزب الشيوعي اللبناني