نزار صاغيّة *
في 19/6/2007، أصدرت محكمة استئناف بيروت (الغرفة الجزائيّة) قراراً لافتاً في إحدى قضايا ‏آب 2001. فإذا صدّقت حكم البداية (القاضي هاني الحبّال) الصادر في شباط 2004 لجهة تبرئة ‏الشبان من التهم الموجّهة إليهم (وأبرزها الاشتراك في جمعيّة سريّة وتظاهرات الشغب)، فإنّها ‏بالمقابل أعلنت أنّ التحقيقات التي جرت في مديريّة استخبارات الجيش آنذاك صحيحة وصادرة عن ذي ‏صفة واختصاص، على رغم قرار محكمة التمييز الصادر برئاسة القاضي رالف رياشي في آب 2001 ‏بنزع يد المحاكم العسكريّة عن النظر في هذه الجرائم لعدم اختصاصها!
وإذا بدا قرار التبرئة حتميّاً ‏في ضوء ما رسب من خطب بشأن أحداث 7 آب (الأسود) ونظام الوصاية الاستخباري الأمنيّ، فإنّ ‏إعلان صحّة تحقيقات استخبارات الجيش عبّر بالمقابل عن انعطافة قضائيّة نحو تعزيز دور الاستخبارات ‏أو، بأقلّ تقدير، الحؤول دون إبطال أعمالها حتّى لو تجاوزت حدود اختصاصها المحدّد قانوناً. ومن ‏هذه الزاوية، جاء توجّه القرار معاكساً تماماً ليس فقط لحكم البداية المفسوخ، بل أيضاً لقرار محكمة ‏التمييز الآيل الى حصر العسكرة، اللذين صدرا ـــــ وهنا فداحة المفارقة ـــــ في عزّ الدولة الأمنيّة، ولقيا ‏آنذاك ترحيباً واسعاً من القانونيين والإعلام (على سبيل المثال، دريد بشراوي، النهار، 11 و23 ‏شباط 2004).
وما يزيد الاستغراب حدّة هو أنّ إعلان هذا التوجّه جاء في سياق إحدى قضايا 7 آب ‏‏(الأسود)، التي غالباً ما برزت كأحد أبرز الشواهد الصارخة على تجاوزات الدولة الأمنيّة. فما عدا ‏ما بدا؟ ومن تُراه كان يتخيّل أن تتحوّل قضية مماثلة الى مناسبة لتعزيز صلاحيّات استخبارات الجيش ‏أو أيّ من سائر الأجهزة الأمنيّة أو الاستخبارية المتهمة آنذاك بألف تهمة وتهمة؟ ‏
والجواب الأوّلي ـــــ وهو فرضية هذا المقال ـــــ هو أنّ وجهة هذا القرار عكست الى حدّ ما المناخ ‏السياسيّ والاجتماعيّ السائد منذ بدء أحداث نهر البارد، ومفاده مجاملة الجيش واستخباراته، وخصوصاً ‏إعلان تغليب هيبته على أي «اعتبار». فتماماً كما دأب الإعلام على تمجيد الجيش أو التعتيم على ‏الانتقادات التي وجّهتها إليه منظمات محلية ودولية (راجع أسعد أبو خليل، الأخبار، 9 تموز 2007)، ‏جاء هذا القرار بمثابة ردّ على انتقادات هذه المنظمات بشأن التحقيقات التي تجريها استخبارات الجيش ‏في نهر البارد، لا بل تبدو وجهة هذا القرار وكأنها تشكّل إحدى النتائج القانونيّة الأولى لخطـــــاب ‏«الهيبة» الذي يؤول حكماً في حال تفاقمه الى إلغاء الفوارق بين روح الامـــــتهان (التي تميّز بها الجيش ‏عموماً بين شباط 2005 وأيار 2007) والتعسّف في استعمال السلطة. فهل نسي اللبنانيّون أنّ الدولة ‏بلغت أسوأ أحوالها في منتصف التسعينيات حين تعمّم الحديث عن الهيبة، هيبة كل ما يدبّ من ‏أصحاب السلطة (بما فيها هيبة مجلس الوزراء والزعماء والقضاء والأجهزة) في مواجهة أيّ انتقاد، ‏وتبعــــــــاً لذلك استُبيحت كل... الضوابـــــط؟ ‏
وما يعزّز الفرضيّة المطروحة هو أنّ حيثيّات القرار أظهرت رغبة قويّة للمحكمة في إعلان الموقــف ‏المذكور بمعزل عن ضرورات القضيّة وظروفها.
والدليل على ذلك هو أنّ موقف المحكمة إزاء ‏صحّة التحقيقـــــــات جاء غير مؤثّر في وجهة الحكم في أساس القضيّة بل من زوايا معيّنة جاء مناقضاً لها ‏بحيث سارعت فور إعلان الموقف (صحّة تحقيقات الاستخبارات) الى تجاوز مضمونها والاعترافات ‏الواردة فيها وصولاً الى تبرئة الشبان المتّهمين. ‏
وما يعزّز هذا الاعتقاد هو أنّ الحجج القانونيّة للمحكمة بدت واهية: فبعدما أقرّت المحكمة بأن ‏المحكمة العسكريّة غير صالحة وبأنّ للقاضي حقّ إبطال التحقيقات إذا شابتها مخالفات جوهرية ‏أو إذا أجرتها أجهزة غير مختصة، رأت بالمقابل تبعاً لقراءة خاصة لنصوص قانونيّة معينة أن ‏استناد النيابة العامة في المحاكم العدلية (المرجع الصالح أساساً) إلى هذه التحقيقات هو بمثابة تبنٍّ ‏لها على نحو يمنع إبطالها، وتالياً يكون للقاضي، حسب المحكمة، حق إبطال التحقيقات الصادرة عن ‏النيابة العامة (المرجع الصالح) إذا قامت بممارسة الضغط أو العنف لانتزاع الاعترافات، فيما ليس له ‏ذلك إذا تبنّت النيابة العامة (نفسها) تحقيقات أجرتها أجهزة أخرى غير صالحة كاستخبارات ‏الجيش حتى لو شابها ألف عيب وعيب!!
ومن النافل القول إن هذه الحجة «سفسطائية» تقارب ‏نتائجها العبث، بل هي بمثابة إفتاء في تحصين التحقيقات المراد إجراؤها خلافاً للأصول بحيث تجريها ‏أجهزة غير مختصّة بالتواطؤ مع النيابات العامّة! وبكلام آخر، بإمكان الاستخبارات أن «تفظّع» في ‏تحقيقات تخرج عن اختصاصها، ومن ثمّ ترتضيها النيابة العامة إذعاناً وإلا فتواطؤاً، فيجد قاضي ‏الحكم نفسه ملزماً بإعلان التحقيقات صحيحة!! والعبثيّة تبلغ بالواقع مداها في ظروف القضية ‏الحاضرة طالما أن المحكمة أقرّت بوجود مؤشّرات عدة لانتزاع «اعترافات تحت الضغط، أبرزها ‏أسباب التوقيف وتطابق الاعترافات والإجابات التي بدت متشابهة وكأنّها معدّة لتكون كذلك»، لا بل ‏حسبنا في هذا المجال استذكار كتاب أدونيس عكرة «المحظور» (عندما صار اسمي 16، خمسة ‏عشر يوماً في الاعتقال) الذي وصف تفصيلاً التحقيقات التي أُخضع لها في الطابق السفلي في ‏وزارة الدفاع، حيث بقي معصوب العينين ليس فقط خلال استجوابه بل أيضاً (وهنا قمة الفظاعة) عند ‏التوقيع على محضر الاستجواب! ‏
‏‏والى جانب ذلك، وبعدما فرغت المحكمة من مجاملة استخبارات الجيش، أبدت في حيثيّة أخرى لا ‏صلة لها بمعطيات القضية ملاحظات تستبطن الى حد ما لوماً لحيادية الجيش إزاء تظاهرات ‏المعارضة. فبعدما صرّحت بأنّ التظاهر الذي قام به شبّان آب 2001 أتى في سياق ممارسة حريّة ‏التعبير وإبداء الرأي ولا يشكّل إذاً جرماً جزائيّاً، أعلنت بالفم الملآن أنّ التظاهر يشكل بالمقابل جرماً ‏«إذا ظهرت بشكل واضح نية المشاركين استخدام حق التظاهر وسيلة ضغط لا وسيلة ‏تعبير حضارية (!!)، بغية إرغام السلطة على العدول عن قرارها (!!)، من خلال القيام بأعمال ‏شغب أو من خلال تحويل التظاهرة من وسيلة للتعبير عن الرأي في موقف معين الى تظاهرات ‏متنقلة أو أعمال شغب تستمر إلى حين تغيير السلطة قرارها». ولا يحتاج المرء إلى كثير من الفطنة ليدرك ‏أن التظاهر المحظور بات وفقاً لهذه الحيثية مرادفاً للتظاهرات المتنقلة والمستمرة التي قامت أو ‏تقوم بها المعارضة الحالية بغية الضغط على السلطة لتعديل قرارها، على مرأى الجيش الذي ‏ارتضى ألا يحرّك ساكناً! ‏
وبمعزل عن مدى سداد تأويل المحكمة للنص القانوني الموضوع في زمن الانتداب (وهو يظهر ‏تراجعاً بالنسبة إلى قاضي البداية في اتجاه تضييق حق التظاهر حماية للسلطة من الضغوط، ويستحق ‏نقاشاً في بعض جوانبه)، يظهر أن القرار تجاوز بفتاويه معطيات القضية بل تجاوز «تنقيط» الجيش، ‏مجاملة هنا ولوماً مبطّناً هنالك، تماشياً مع الخطاب الرسمي السائد ليعلن ما يشبه .... «برنامج عمل ‏مستقبليّاً»، أو بكلمة أكثر تواؤماً مع لغة العصر «خريطة طريق». ‏
* محامٍ وباحث قانوني