هشام صفي الدين *
«يجب على ثلث العرب المقيمين خارج إفريقيا النزوح إليها والالتحاق بالثلثين المقيمين داخلها والانضمام إلى الاتحاد الإفريقي. إنها المساحة الوحيدة التي نملك».
العقيد معمر القذافي ـــــ الجامعة العربية، 2001
عشية انعقاد القمة التاسعة لاتحاد إفريقيا في العاصمة الغانية أكرا، وقبل أن يستضيفه أحد زملائي في برنامج صباحي على إحدى إذاعات الراديو حيث أعمل، يتّكئ المفكر والشاعر النيجيري المخضرم تشين ويزو على عصاه الخشبية ويحدجني بنظرة اتهام، ثم يسأل:
ـــــ بماذا ينعت العربُ السودَ إجمالاً؟
ـــــ فأجيب: عبيد.
ـــــ وماذا تعني كلمة عبيد (بالإنكليزية)؟
ـــــ فأجيب مرة أخرى: سلايف (Slave) أي إنسان مملوك.
ـــــ شكراً، هذا ما أردت سماعه، يردّد الناقد الستيني ثم يختفي خلف باب الاستديو.
اتهام العرب بنظرة دونية نحو السود ليس بجديد وإن تركز على الممارسات في دول الخليج العربي ولبنان. لكن النقاش أو الحديث عن استعمار وهيمنة عربية في إفريقيا على أيدي الأفارقة العرب، وهو ما يزعمه تشين ويزو ومثقفون أفارقة آخرون، غائب أو مغيّب في الأوساط السياسية والإعلامية وحتى الثقافية العربية. وهذا الغياب غالباً ما قد يُعزى إلى أن تاريخ الفتح العربي والإسلامي والإيديولوجيا الداعمة له، بخلاف تاريخ الفتح الغربي المسيحي، لم يكن عنصرياً أو إلغائياً بل اتسم بالتسامح.
إن إعادة قراءة التاريخ من منظار تشين ويزو ترسم صورة مغايرة لهذا التاريخ في إفريقيا، والأهم أنها صورة تصف الحاضر أيضاً. ويكتسب كلام ويزو أهمية في ظل الحديث عن ضم جميع دول إفريقيا تحت راية حكومة وحدة وطنية، وهي فكرة يروّج لها بشدة الرئيس الليبي معمر القذافي ولم تُقرّ حتى الآن.
ويعتبر ويزو أن حكومة وحدة، كما يتصورها القذافي، هي قناع لترجمة هذه الأطماع العربية. «لقد أمضى القذافي عقوده الأربعة في الحكم وهو يحاول إخضاع أنحاء متفرقة من إفريقيا في تشاد ونيجر ومالي، وقام بزعزعة الاستقرار فيها حيثما استطاع كي يُحكم قبضة العرب على الأراضي الإفريقية... لقد جاء العرب إلى إفريقيا عام 640 ميلادي مستعمرين عندما غزوا مصر وما زالوا قوة مستعمرة حتى يومنا هذا... والدعوة إلى إنشاء ولايات متحدة إفريقية ستفتح المجال أمام استيطان العرب في ما تبقى من إفريقيا السوداء... ولو سلكنا هذا الطريق فسنجد أنفسنا نمضي المئة عام المقبلة نكافح ضد الكولونيالية العربية».
قد يلتمس القارئ أو المستمع العربي في كلام تشين ويزو المغالاة والتطرف وحتى العنصرية، وأنه يصبّ في خانة الفكر الغربي المعادي للإسلام والعروبة. لكن الناقد النيجيري من أكثر المفكرين المعادين للإمبريالية الغربية (يصفه تشومسكي بتشين ويزو الخارج عن القانون)، وأهم أعماله «الغرب وبقيتنا ـــــ 1975» يؤرّخ للهيمنة الغربية على العالم النامي وبخاصة إفريقيا.
وبغض النظر عن موقف ويزو من الكولونيالية الغربية، فإن إدانته انتشار العرب في إفريقيا تستند إلى قراءته للفكر والفعل السوسيولوجيين والسياسيين الإسلاميين العربيين ماضياً وحاضراً. فما هي حجج تشين ويزو؟
الماضي: الزنجوفوبيا في التراث الإسلامي العربي
يقول تشين ويزو إن مفهوم المساواة بين الأعراق والإثنيات في الإسلام (لا فرق بين عربي وأعجمي إلا بالتقوى) لم يتعدَّ تطبيقه عهد النبي. ففي العصور الوسطى، يحتوي الفكر الإسلامي الكلاسيكي على أدلّة شتّى تؤسس للعنصرية العربية نحو السود وتشرّع بطريقة غير مباشرة لاستعباد من يملك بشرة سوداء. وتصف هذه الأدبيات السود إجمالاً بأوصاف سلبية (كتلك التي استخدمها المستشرقون لوصف شعوب الشرق بمن فيهم العرب).
فابن خلدون يعتبر السود ذوي عاطفة جيّاشة وأنهم «أقرب إلى الحيوانات الغبية منهم إلى الكائنات العاقلة».
ويقول الدمشقي إن «المناطق الاستوائية يقطنها مجتمعات من السود الذين يمكن تصنيفهم في عداد الوحوش المفترسة. بشرتهم وشعورهم محروقة وهم معاقون جسدياً وأخلاقياً، وأدمغتهم تكاد تغلي تحت أثر حرارة الشمس».
أما الطبري فيسرد ما لا يقل عن ستّ روايات نبوية تثبّت ما يعرف بـ«لعنة حام» المذكورة في سفر التكوين التي تقول حسب أحد التفاسير بأنّ السود من نسل حام والبيض، بمن فيهم العرب، من نسل سام، وأن نوح كان يصلي من أجل أن لا ينمو شعر أولاد حام خلف آذانهم ومن أجل أن يتمكن أبناء سام من استعباد أبناء حام أينما وجدوا. ويروي ابن حنبل حديثاً منسوباً إلى الرسول محمد مفاده أن الله خلق الجنس الأبيض من الكتف الأيمن وأنه خلق الجنس الأسود من الكتف الأيسر وأن الذين ولدوا من الكتف الأيسر في زوال والذين ولدوا من الكتف الأيمن لهم الجنة.
وقد أدى الجغرافيون والرحالة العرب دوراً إضافياً في صياغة الإيديولوجيا العنصرية العربية. فالمقدسي مثلاً يقول إن «الزنج هم شعب ذو سحنة سوداء، وأنف أفطس، والقليل من القدرة على الاستيعاب أو الذكاء. وحتى الفلاسفة المستنيرون كابن سينا يقولون إن «العبودية من خصائصهم الطبيعية».
هذا في التراث الفكري، أما في العمل السياسي فيشير تشين ويزو إلى أن شمال إفريقيا كان خالياً من العرب قبل الفتح الإسلامي، وأن الغزوات المتتالية للقبائل العربية قامت بتحويل حوالى ثلث القارة إلى أرض عربية ممتدة من الصحراء الغربية في الغرب إلى السودان والصومال في القرن الإفريقي. ولم يتوقف هذا التوسع بشكل قاطع إلا في القرن التاسع عشر عقب الغزو الأوروبي لإفريقيا الذي أدّى إلى استعمار الدول العربية نفسها.
الحاضر: إعادة إحياء تعريب إفريقيا
عقب نجاح حركات التحرر الإفريقية في منتصف القرن الماضي في طرد المستعمرين الأوروبيين، استعاد العرب المبادرة ولو المحدودة لإحياء مشروع تعريب إفريقيا. ويستند تشين ويزو في زعمه هذا إلى الخطاب السياسي لبعض القادة العرب وتاريخ الصراعات التي نشبت على طول الجبهة الفاصلة بين إفريقيا العربية وتلك السوداء.
في الخطاب السياسي، يقول ويزو إن الرئيس المصري جمال عبد الناصر، مثلاً، يصف إفريقيا في كتاب له بأنها في عمق أعماق الغاب وأنها مرشحة لتلقّف حضارة مصر عبر الإسلام والعروبة.
ويتصدّر السودان (كما ليبيا) لائحة البلدان التي دعت إلى تعريب إفريقيا وأسلمتها. والقيادات السياسية التي توالت على الحكم في السودان كانت واضحة في هذا المجال. ففي عام 1968، يقول رئيس الوزراء السوداني آنذاك محجوب إن «السودان جغرافياً تقع في إفريقيا لكنها عربية التطلّع والقدر... نحن نعتبر أنفسنا رأس حربة العرب في إفريقيا». ويقول الرئيس السوداني جعفر النميري عام 1969 «السودان هو الرافعة للولوج العربي إلى قلب إفريقيا السوداء».
وكلام القيادات السودانية الحالية لا يختلف عما سبقه، فحسن الترابي يقول «نريد أن نؤسلم أميركا ونعرّب إفريقيا».
أما في الفعل السياسي، فإن الحرب الأهلية في تشاد والاضطرابات والنزاعات في مالي ونيجر وعلى طول الصحراء، هي وجه من وجوه هذه السياسات، بالإضافة إلى الاضطهاد للّغة والثقافة غير العربيتين (كالأمازيغيّة) وقد كانت ليبيا طرفاً فاعلاً في معظم هذه الصراعات.
أما في المنطقة الشرقية الجنوبية (حوض النيل)، فحروب السودان ونزاعاته، بما فيها دارفور، لا يمكن فصلها تماماً عن الصراع بين إفريقيا العربية وتلك السوداء غير العربية أو المسلمة. واستغلال الغرب لقضية دارفور لا ينفي وجود هذا الصراع.
وقد يُتّهم تشين ويزو وغيره من المناهضين للسياسات العربية في إفريقيا بتجاهل واقع اختلاط أعراق هذه البلدان وأجناسها، وبأن الحروب في ما بينها لا يمكن حصرها ضمن الثنائية العربية الزنجية. والقبائل المتنازعة أحياناًَ تدين بالإسلام ومنها من يؤمن بأصول عربية. إلى هذا، فإن ملامح السياسيين السودانيين مثلاً أقرب إلى ملامح السود منها إلى الملامح العربية الأصلية.
قد يكون في هذا الاتهام شيء من الصحة، لكن ويزو يشير إلى أن الانتماء إلى إفريقيا العربية أو السوداء يتعدى لون البشرة ليرمز إلى هوية مستقاة من حضارة ولغة وإرث اجتماعي وديني. وهكذا فإن الملامح الخارجية لا تمنع من يملكون بشرة سمراء (وحتى سوداء) من اعتناق الفكر الاستعماري العربي الإسلامي والنأي بأنفسهم عمّن هم أكثر سواداً وأقل
عروبة.
وبحسب هذا التحليل تتشابه حركات الاستعمار العربي والغربي من حيث الأهداف والمبادئ، وإن اختلفت النتائج بمقدار اختلاف ميزان القوى بين الاثنين.
ما سبب هذا التشابه؟
نجد رداً على هذا السؤال (رداً غير مباشر) في كتابات تشين ويزو عن الديانات التوحيدية. فالأيديولوجيا العربية الإسلامية والغربية المسيحية هي في جوهرها، بحكم طبيعتها التوحيدية المشتقة من اليهودية، أيديولوجيا لا تعترف أو تتقبل التعددية، وتقوم (في الحالتين المسيحية والإسلامية) بفرض ثقافتها عبر اللغة والحمية الدينية على الآخر متى استطاعت (تدمير أصنام الكعبة عقب فتح مكة / بناء الكنائس فوق ركام المعابد الوثنية في بلدان الفتح الأوروبي).
وفي إفريقيا، وقعت المجتمعات السوداء ضحية الدين الإسلامي العربي (في الشمال والشرق) والمسيحي الغربي (في الجنوب والغرب). والسؤال هنا يصبح عن أي حضارة في يومنا هذا يدافع تشين ويزو؟ فالمد الإسلامي يكاد يلامس المد المسيحي في معظم أنحاء القارة. ويسلّم تشين ويزو أن الشعوب الإفريقية في حالة فقدان للهوية والذاكرة، وأن القيادات والنخب الإفريقية فشلت سابقاً وحاضراً في الحفاظ على هوية إفريقيا السوداء وتراثها وحمايتهما من الاستعمار بمختلف أشكاله، وخاصة الشكل المعاصر، وهو استعمار العقل الذي يتجلى، مثلاً، في حمى تبشيرية مسيحية وأخرى إسلامية أقل انتشاراً (وبدعم سعودي غالباً)، وذلك حديث آخر.
* كاتب لبناني مقيم في غانا