صباح علي الشاهر*
لعل من النادر أن تجد من لا يتحدث عن تدخل دول الجوار في الشأن العراقي. قد تجد من لا يعدُّ هذا التدخل تخريباً، لكنك لن تجد من يستطيع الزعم بعدم وجود هذا التدخل الذي أضحى فاقعاً ومصرحاً به علانية وجهراً، كأنه من الأمور الطبيعية والمسلَّم بها.
الكل تقريباً لا يتحدثون عن التدخل فقط، بل عن الدور التخريبي الذي تقوم به «دول الجوار». والأغلبية تعني بدول الجوار دولة بعينها، أو بضع دول، وقلما تجد من يضع الإصبع على الجرح المفتوح على اتساعه. علّة هذا الموقف واضحة بيِّنة، فالكتّاب والمحللون يكتبون ويحللون عبر منافذ إعلامية تابعة لهذه الدولة أو تلك، أو لهذه الجهة المرتبطة بهذه الدولة أو تلك، أو الممولة من هذه هذه الجهة أو تلك. وبالتالي فهم عندما يتحدثون إنما يراعون موقف الدولة المالكة للوسيلة الإعلامية، أو الداعمة والممولة لها. إنهم ينظرون بعين واحدة، وبنصف عين أحياناً، أما المنخرطون في المخطط فينظرون بعمى كلي.
بادئ ذي بدء دعونا نقر بحقيقة كبرى، ألا وهي أن التدخل التخريبي الأول، الذي تتصاغر أمامه كل التدخلات، إنما هو الاحتلال، وما جلبه الاحتلال من عملاء، وخطط، ومشاريع. الانطلاق من هذه المسلمة الأولى والأساسية هو المعيار الذي يحدد مقدار نزاهة من يتحدث عن التدخلات في العراق. من لا يقر هذه الحقيقة فليس فقط أعمى، بل هو في حقيقة الأمر، حتى لو لم يكن يدري، وحتى لو كان منطلقاً من مصالح حزبية أو فئوية أو نفعية خاصة، يسهم في «الفوضى الخلاقة» التي انتهجها وينتهجها المحتل الأمريكي ـــــ الصهيوني.
هل ثمة تدخل من دول الجوار في الشان العراقي؟
نعم، ثمة تدخل، ولا جدال. تدخل وصل لأمداء مخيفة، جعلت من ساحة العراق ساحة لتصفية حسابات إقليمية، وحتى ثأرية، ليس بين الدول أو الفئات فقط، بل حتى بين الزعماء والأمراء، والأشخاص. بات العراق، مع افتقاد السلطة الحقيقية، والقانون، والسيادة، مجالاً خصباً لمزاولة الوساخات والسفالات، ولا نبالغ إذا قلنا كل ما لا يخطر على بال. دول الجوار، صغيرها وكبيرها، لا تتدخل فقط في الشأن العراقي، بل تسهم بتخريب البلد وتدميره، وإفساد الحياة السياسية، وقبل هذا وبعده إفساد الفرد والمجتمع. أصبح العراق لعبة هذه الدول وشغلها الشاغل، فهي تعقد المؤتمرات، وتنفق الملايين، وتؤسسس المنظمات، والتنظيمات، والجبهات، والشركات، والمؤسسات الوهمية والحقيقية، وتكرّس الفرقة والتناحر، سواء بتشجيع الطائفية بحجة مكافحة الطائفية، أو تكريس التناحر بتأليب هذه الفئة على تلك، أو هذه المجموعة على الأخرى.
إن دولة صغيرة كالكويت، التي عملت على احتلال العراق وأسهمت به، قامت بما لا يتناسب مع حجمها دولةً صغيرة. لقد جندت ما تستطيع من عملاء، وأطلقتهم بحماية المحتل الأميركي والبريطاني، لتخريب المؤسسات وحرقها، ولتصفية من تطالبهم بثأر، ومن ثم للسيطرة على المفاصل الإدارية والخدمية في محافظة البصرة، ودفعتهم لشراء البساتين والعقارات، وتأسيس الشركات، التي تنوعت بين شركات اختصت بالنقل والملاحة والاتصالات، وأخرى بالإعلام، وأخرى بالبناء والتشييد، وكل المجالات تقريباً. لقد أطلق العاملون لمصلحة الكويت دعوة إقليم الجنوب، ونظموا لها المؤتمرات، وصرفوا ببذخ على شراء ولاء رؤساء العشائر.
كان من المؤمل وفق المخطط أن تتم السيطرة على البصرة، بفعل الملايين التي صُرفت، التي خلقت من منفيين قُدامى، يعيشون على المساعدات الاجتماعية في السويد وإسبانيا وبريطانيا وغيرها، مليونيرات لا يملك كل منهم شركة أو شركتين، بل العشرات من الشركات في كل المجالات، ويملكون المؤسسات الصحفية، ويديرون شبكات واسعة من المنظمات الاجتماعية، المهنية والخدمية. كان المأمول أن يفلح هؤلاء في إعلان إقليم الجنوب وعاصمته البصرة، لولا أن الأمور تغيّرت بعد إجراء الانتخابات، حيث فشل جميع أتباع الكويت ووكلائها بالفوز، ولم يحصلوا على أي مقعد نيابي، وفقدوا أيضاً كلياً ما لهم من نفوذ في مجالس المحافظة.
بعد هذا الفشل الذريع تحوّل المندحرون للحديث عن النفوذ الإيراني في البصرة، وأصبحوا من المناهضين للتقاسم الطائفي. لقد تكفلت الأحداث بإجهاض الحلم الكويتي، وتأكد للكويتيين أن تحقيق إقليم الجنوب كمنطقة نفوذ كويتية إنما هو عشم إبليس بالجنة، فضعف اهتمامهم هذا، وإن لم ينته، وازداد نشاطهم الاقتصادي، وهو الأمر الذي يجيدونه ويحسنونه. لقد امتد نشاطهم الاقتصادي إلى كربلاء والنجف والكوفة عبر وكلائهم، وليس بإمكان أحد الاعتراض على مثل نشاط كهذا، فيمكن للكويتيين الإفادة والاستفادة، وهذا هو الميدان الحقيقي للنشاط الذي سيؤتي أكله حتماً. ولم يقتصر النشاط الكويتي على هذه المدن المقدسة، بل انطلق إلى مشاريع كبرى في إقليم كردستان.
الهدف من وراء هذا الاستعراض البالغ الإيجاز للتدخل الكويتي، هو الإشارة إلى أن الذين كانوا أدوات للتدخل الكويتي، يتحدثون الآن عن تدخل واحد أوحد، ألا وهو التدخل الإيراني، فيعمون عن رؤية التدخل الآخر الذي جعلهم فعاليات إعلامية أو اقتصادية، أو سياسية. أمثال هؤلاء إن كانوا يحاربون تدخلاً ما، فإنهم لم ينطلقوا من منطلق العمل على قطع دابر التدخلات ـــــ كل التدخلات ـــــ في الشأن العراقي. إنهم يحاربون التدخل المنافس الذي دفعهم خارج القرار والتأثير في البصرة، التي أرداوها تطبيقاً لمشيئة ولي نعمتهم، عاصمة إقليم الجنوب.
* كاتب عراقي