وهيب معلوف*
لعلّ ريتشارد رورتي، الفيلسوف البراغماتي الأميركي الذي توفي مطلع حزيران الماضي، كان بين مجايليه من الفلاسفة الأميركيين الأكثر ألمعــــيـــــة، وبالتأكيد الأكثر شهرة على مستوى العالم، نظراً إلى الترجمات الواسعة التي حظيت بها مؤلفاته. وكـــــــان أيضاً نموذجاً للمثقف العام من خلال مساجلاته ومداخلاته في الحيز العام وكتاباته الصحفية التي توجهت إلى الجمهور بمعناه الأوسع. في «مقالات عن التربية العامة، تطرف قوى السوق، والحرب على العراق»، يلاحظ المؤرخ الأميركي، كايسي بلايك أنه «برز رورتي واحـــداً من أكثر مثقفينا بلاغة والتزاماً (...) كنموذج للمثقـــــــــف الذي يحضّ مواطنيه ليرتفعوا إلى مستوى القيم الأخلاقية التي يدعون التزامها».
في السياسة، صنف رورتي نفسه على أنه «ليبرالي إصلاحي»، وكان معجباً بنوع خاص بدعوة الفيلسوف البراغماتي الأميركي جون ديوي إلى «العمل الاجتماعي» وحضه على أن يحول المثقفون اهتمامهم من «مشاكل الفلسفة» إلى «مشاكل البشر». ولعل وصيّته السياسية تتجلّى أكثر ما تتجلّى في دعوته اليسار الأميركي إلى الخروج من أزمته الراهنة عبر استلهام أفكار جون ديوي والشاعر والت ويتمان والعودة إلى تجربة اليسار الأميركي الإصلاحي في مطلع القرن العشرين.
شكلت قيامة اليسار الأميركي أولوية حاسمة بالنسبة إلى رورتي، نظراً إلى اعتقاد راسخ لديه بأن اليمين سيظل دائماً حزب الأمر الواقع، وبأنّ اليسار فقط لديه الروح والإمكانات للجهر بأن القيم الأميركية لا تزال غير متحققة. يقول في هذا الصدد: «اليسار، تعريفاً، هو حزب الأمل. ويصرّ على أن أمّتنا لا تزال غير متحققة». وما دام اليسار مكتفياً بالتفرج والحنين إلى الماضي، فإنه يكفّ عن كونه يساراً، بحسب رورتي. فاليسار الأميركي بدأ، منذ الستينيات، يغرق في السلبية مخلياً المكان ليسار أكاديمي جديد سمح لـ«السياسات الثقافية» بأن تحل محل «السياسات الحقيقية»، وأسهم مع اليمين في جعل القضايا الثقافية في صلب النقاش العام، بدلاً من تحويل الجهد نحو اقتراح قوانين جديدة تخاطب الحاجات الملحة للبلاد.
أما الفرق الأساسي بين اليسار الأميركي الإصلاحي القديم والجديد، فهو أشبه بالفرق بين الأفراد الفاعلين والمبادرين، وأولئك المتفرجين: الأول أطلق مبادرات سياسية لمعالجة الظلم الاجتماعي، فيما انكفأ الأخير إلى سلبية «السياسات الثقافية» المتشائمة. فهوس اليسار الأكاديمي بـ«الآخر»، مدفوعاً بـ«سياسات الهوية الاثنية»، إنما هو علامة من علامات فشل هذا اليسار بالمشاركة الفاعلة في الحياة العامة.
ويأسف رورتي لكون اليسار الجديد ـــــ بعد أن أسهم في إنهاء الحرب على فييتنام ـــــ قد انكفأ رافضاً رفع الصوت في وجه الفوارق الاجتماعية والاقتصادية التي ازدادت على نحو مطرد منذ نهاية الستينات. «هذا اليسار الثقافي»، يقول رورتي: «يتخصص في مواضيع مثل «سياسات الاختلاف»، أو »الهوية» أو «الاعتراف»، و«يفكر في وصمة العار أكثر مما يفكر في المال، وفي الدوافع النفسية ـــــ الجنسية العميقة والباطنية أكثر من الجشع السطحي والبيّن».
في الموضوع الاقتصادي والاجتماعي، رأى رورتي أن السياسات المتبعة منذ أواخر التسعينات تسير بـ«الديموقراطيات الصناعية القديمة» ـــــ الولايات المتحدة وأوروبا ـــــ إلى فترة أشبه بفترة حكم ويمار في ألمانيا. وهي فترة من المرجح جداً أن تنشأ فيها حركات شعبوية سياسية تقوم بالانقلاب على أنظمة الحكم الدستورية. وحجة رورتي هنا أن أعضاء النقابات العمالية سيكتشفون عاجلاً أو آجلاً أن الحكومات لا تفعل شيئاً لمنع انخفاض الأجور أو تصدير فرص العمل، بالإضافة إلى أن الموظفين ذوي الدخل المحدود ـــــ البيروقراطيين، المحامين، بعض أساتذة الجامعات وغيرهم ـــــ لن يدفعوا الضريبة من أجل تزويد غيرهم بالتقديمات الاجتماعية.
هنا تحديداً تقرر القاعدة الناخبة المدينية أن النظام القائم قد فشل في حماية مصالحها، وتبدأ بالتفتيش عن مرشح رئاسي قوي لتصوت له. إلا أن مرشحاً كهذا لا بد أن يقوم، بعد تسلمه للسلطة، بالتحالف مع الأغنياء وكبار رجال الأعمال، تماماً كما تحالف أدولف هتلر مع الصناعيين الألمان. وكرئيس، سوف يكون كارثة على أميركا والعالم، إذ سوف يقتصر برنامجه الرئاسي على استحضار الذكرى المجيدة لحرب الخليج الأولى من أجل القيام بمغامرات عسكرية جديدة تحقق ازدهاراً داخلياً على المدى القصير.
لكن أين هو اليسار الأميركي وسط كل هذا؟ يسأل رورتي. لماذا السياسيون اليمينيون هم وحدهم الذين يتحدثون إلى العمال عن تداعيات العولمة؟ ولماذا لم يستطع اليسار الأميركي تعبئة جمهوره والاستفادة من النقمة المتصاعدة للمهمّشين الجدد؟ يخلص رورتي إلى أن عدم تصدي اليسار للعولمة النيوليبرالية المنفلتة من عقالها سيؤدي إلى صعود الشعبوية السياسية في «الديموقراطيات القديمة»، متمنياً أن يكون ذلك صعوداً لقوى شعبوية يسارية لا
فاشية.
إزاء كل هذا، يطرح رورتي على «اليسار الثقافي» ـــــ إذا أراد هذا الأخير إجراء عملية تحوّل باتجاه استعادة دوره الوطني ومواجهة تحديات العولمة ـــــ الاقتراحين التاليين: أولاً أن يضع حظراً على عادة التنظير الفلسفي، وثانياً أن ينسج علاقات مع بقايا اليسار الإصلاحي القديم، وخصوصاً مع النقابات العمالية.
في محصلة الأمر، يدعو رورتي اليسار إلى تعبئة كل ما بقي من عزة نفس لدى الأميركيين، داعياً إياه إلى حض الجمهور على التفكير بكيفية تحقيق البلاد التي حلم بها ويتمان وديوي. ذلك أن أحداً لم يطرح حتى الآن بديلا يسارياً عملياً لـ«الدين المديني» الذي كان ويتمان وديوي نبيَّيه، دين مديني ذو منهج علماني تقدمي متمحور حول «الاستفادة من العزّة الوطنية الاميركية» عبر «استبدال الحرية الفردية بالعدالة الاجتماعية هدفاً أساسياً للبلاد».
تأملات رورتي وآراؤه تكتسب اليوم راهنية كبرى، وخصوصاً أنه كان يستبصر حرباً جديدة على غرار حرب الخليج الأولى مترافقة مع صعود رئيس يميني قوي يكون كارثة على أميركا والعالم على حد سواء. والجدير بالذكر أن رورتي كان من أبرز المعارضين لغزو العراق، كما كان من أوائل الذين لاحظوا أن اليمين السياسي سيستفيد من أحداث 11 أيلول ليستبدل «معاداة الشيوعية» بـ«الحرب على الإرهاب العالمي»، ليس كذريعة للإبقاء على واقع حال الأمن القومي وحسب، بل أيضاً لتقويض المؤسسات السياسية في «الديموقراطيات القديمة». من هنا تخوفه من استغلال المجمّع الصناعي ـــــ العسكري الأميركي أحداث 11 أيلول لتوسيع نطاق سيطرته على حساب الحكومة الأميركية على نحو غير مسبوق.
وصيّة رورتي السياسية هي الدعوة إلى يسار أميركي جديد يحرّر أميركا من أميركا الراهنة ويحققها كما أراداها والت ويتمان وجون ديوي ـــــ «أميركا يحل فيها الأمل بمجتمع تنتفي فيه الفروق الطبقية والتمايزات الاجتماعية مكان الزعم التقليدي بمعرفة المشيئة الإلهية؛ أميركا يكون فيها النضال من أجل العدالة الاجتماعية المبدأ الذي يسود البلاد وروح الأمة».
* باحث لبناني