جوزيف مسعد‎ ‎‏*‏
احتارت قيادات «فتح» تاريخياً في اختيار جزء من الشعب الفلسطيني يمكنها التفريط ‏بحقوقه من أجل الوصول إلى اتفاق يمكنها بموجبه أن تخدم مصالح إسرائيل وأن ‏تحمي مصالحها المادية والسلطوية. وإذا كانت «فتح» قد فرّطت بحقوق فلسطينيّي ‏إسرائيل تاريخياً، فقد سعت بعد توقيعها اتفاق أوسلو للتفريط بحقوق فلسطينيّي الشتات «تفهّماً» منها، كما قال ياسر عرفات في مقالة نشرها في جريدة «النيويورك تايمز»، ‏‏«لحاجات إسرائيل الديموغرافية». وقد أبدت «فتح» اهتماماً أيضاً بالتفريط بحقوق ‏فلسطينيّي القدس الشرقية واللاجئين القاطنين في الضفة الغربية وغزة.‏
ونتيجة لهاث محمود عباس وعصابته في الأيام الأخيرة لخدمة مصالح أميركا ‏وإسرائيل والحفاظ على سلطة عصابتهم الفاسدة، تقرّر التفريط بحقوق فلسطينيّي غزة ‏الوطنية بالكامل، والتفريط بحقوق فلسطينيّي الضفة الديموقراطية التي جيّرها عباس ‏لسلطته الانقلابية. ‏
فها هو محمود عباس يجتمع التارة تلو الأخرى مع شريك السلام أولمرت رافضاً ‏الاجتماع مع رفقاء المقاومة من حماس. وهذا ليس مستغرباً، فلم يشارك عباس في أي ‏مقاومة فعلية ضد العدو الإسرائيلي، اللهمّ إلا إذا اعتبرنا رسالة الدكتوراه، التي زعم ‏أنّه كتبها وأنكر فيها محرقة هتلر، أنّها «مقاومة»! أما جهوده من أجل السلام، اقرأ ‏الاستسلام، فهي بالفعل جهود جبارة لا ينكرها عليه صديق ولا عدو. ‏
فيشعر عباس وعصابته بألفة برفقة قيادات إسرائيل لا يشعرون بها مع قيادات حماس. ‏فها هو إيهود أولمرت يعبّر في مؤتمر صحافي لـ«كبير المغفّلين الفلسطينيين» صائب ‏عريقات عن توقه إلى تذوّق طعام زوجة عريقات التي «وصلت رائحة طبخها الطيبة إلى ‏مكاتبنا» من أريحا إلى القدس المحتلة. كم ابتهج «كبير المغفّلين» بهذا الإطراء من ‏مجرم الحرب أولمرت، وكم تاق ويتوق إلى استقباله في بيته الذي لم تدنّسه قيادات «حماس» ولم تذق طعام زوجته اللذيذ. فإن وصلت رائحة طعام «مسز عريقات» من ‏أريحا إلى القدس، فإنّ رائحة تآمر عصابة قيادات «فتح» يمكن اشتمامها من رام الله ‏إلى أقاصي الأرض.‏
أما عباس فعجرفة خطابه الأخير وسوقيّته مستمدّة لا من قوّته وشعبيّته المستقلّتين ‏على المسرح الفلسطيني، بل من الدعم الإسرائيلي والأميركي المقترن بدعم اللوبي ‏الصهيوني في الولايات المتحدة ودعم محمود درويش في رام الله. وقد عبّر الأخيران ‏علناً عن دعمهما انقلاب عباس وعن إدانتهما لـ«حماس» لدفاعها عن الديموقراطية ‏الفلسطينية.‏
في محاولته تجريد حماس من شرعيتها الديموقراطية وإضفاء صبغة الشرعية على ‏انقلابه غير القانوني، يستفيد عباس من مواهب الثنائي المرح (الذي خسر ثالثه ‏بانشغال محمد دحلان باستثماراته المشتركة مع خالد سلام الهارب أيضاً خارج البلاد) ‏المكوّن من نبيل عمرو وياسر عبد ربه (والأخير هو الرفيق الدائم لمحمود درويش) ‏في التسويق الإعلامي.‏
نحن إذاً في سياق تآمري يصبو إلى إنهاء القضية الفلسطينية وطيّ صفحة مقاومتها ‏إلى الأبد. ألم يعلن محمود درويش في مقابلته مع «هآرتس» بأنّ العرب قد قبلوا ‏بإسرائيل مع ترسانتها النوويّة؟ أين ذهب إذاً مثقّفو فلسطين ‏ذوو التوجّه الديموقراطي والعلماني في الضفة؟ صحيح أن جزءاً كبيراً منهم قد تحوّل بعد أوسلو إلى مثقّفي ‏كومبرادور، ولكن هل يُعقل أن عصابة قيادات فتح قد اشترتهم جميعاً ولم يبقَ منهم ‏من يقاوم الاحتلال المقترن بدكتاتورية عباس والعصابة الداعمة له؟
يتوقّف مستقبل فلسطين اليوم ومستقبل شعبها بكلّ أجزائه على الدور الذي سيؤديه ‏هؤلاء المثقفون. فهم من سيحوِّل مستقبل فلسطين من صراع المقاومة المُشرعَن ‏ديموقراطياً من كل القوى الفلسطينية المقاوِمة، علمانيةً كانت أو دينيةً، للاحتلال ‏الإسرائيلي ذي النزعة العرقية والدينيّة، إلى صراع بين الدكتاتورية المشرعنة علمانياً ‏والمتواطئة مع الاحتلال والديموقراطية المشرعنة إسلامياً والمقاومِة للاحتلال. فإن بقي ‏محمود درويش منضوياً تحت راية راعيه المؤسّساتي (اقرأ العصاباتي) ياسر عبد ‏ربه، فهذا من شأنه، حيث إننا لم نطلب منه هجرة علمانيّّته، كما زعم أحد يمينيّي ‏جريدة «النهار»، بل طلبنا منه أن يرفض توظيفها في خدمة انقلابيّي «فتح». أمّا بقيّة ‏مثقّفي فلسطين، فليس أمامهم إلا مواجهة عصابة قيادات «فتح» وانقلابها على ‏الديموقراطية أو الاندثار إلى الأبد.‏
‏* أستاذ السياسة وتاريخ الفكر العربي الحديث
في جامعة كولومبيا في نيويورك