أسعد أبو خليل *
تأتي الحروب أحياناً بنتائج معاكسة لنتائج المواجهات العسكرية في الميدان. ويقال عن صراعات الحروب الأهلية في ‏جبل لبنان في القرن التاسع عشر إنّ الطرف المنتصر عسكرياً ينتهي أحياناً مهزوماً سياسياً، والعكس صحيح.
ويمكن ‏القول إن حزب الكتائب اللبنانية انتهى مهزوماً عسكرياً في تاريخ الحرب الأهلية. أتت الضرب القاضية في الثمانينيات ‏في عهد أمين الجميل الذي ابتدأ بالوعيد والتهديد، وانتهى باستجداء خصومه (بالإضافة الى استجداء النظام ‏السوري) لكي يتسنى له أن يحكم ـــــ أو أن يستأثر بالحكم ـــــ بـ(لا)سلام. ثم جاءت حرب الإلغاء لتقضي على آخر ‏فرصة للصعود العسكري للحزب الذي حلم في عهد بشير الجميل بالسيطرة على كل لبنان، مستعيناً براعيه الإسرائيلي ‏‏(حان الأوان للتوقف عن ترداد الأكذوبة المعروفة ـــــ والمخترعة من قبل الدعاية الكتائبية في مرحلة لاحقة ـــــ حول ‏خلاف بين بشير الجميّل وحلفائه الإسرائيليين. صدقية هذا الزعم كمثل الزعم بأن عاصم قانصوه اختلف يوماً مع ‏النظام السوري). لكن الحزب الذي بدا في طور الاحتضار قبل سنوات، يستطيع أن يفاخر اليوم بانتشار عقيدته ‏الأيديولوجية واعتناقها من قبل مختلف الطوائف في لبنان (مع أنّ الحزب لا يزال ضعيفاً جداً تنظيمياً على الرغم من ‏ادّعاءات وحفلات قسم يمين تجيدها الأحزاب الصغيرة في لبنان. كان حزب كامل الأسعد ـــــ الحزب الديموقراطي ‏الاشتراكي ـــــ يجيدها بامتياز في الوقت الذي كانت فيه زعامته الإقطاعية تتلاشى، وإن كان آل الحريري يسعون اليوم ‏لإنعاش الإقطاع السياسي الشيعي بعدما فشلت محاولتهم لتنصيب باسم السبع زعيماً أوحد على الطائفة الشيعية). ‏
مرحلة الصعود
والحزب هذا لم يكن يحلم بالصعود الذي ولجه في فترة الحرب الأهلية. حكاية البداية معروفة الآن: المؤسّس تأثّر ‏وأُعجب بتجربة النازيّة في الألعاب الأولمبية في برلين. عاد إلى لبنان وأنشأ أوّل محاولة فاشيّة جدّية (وكانت هناك ‏محاولة في مصر أيضاً) في المنطقة (بعد الصهيونية)، لكن البداية لم تكن واعدة. فالحزب كان من مؤيّدي الانتداب ـــــ‏ وكلمة «انتداب» محاولة مهذّبة لتمرير الاستعمار ـــــ الفرنسي الحنون، وإن كان الجميّل أدرك متأخّراً جداً أنّ هذا ‏الموقف لا يمكنه أن يُثمر سياسياً، فكانت تلك التظاهرة الشهيرة و«إصابة» الشيخ بيار في تظاهرة ضد الفرنسيين ‏‏(تذكّر تلك الإصابة بإصابة سامي أمين الجميّل قبل سنة عندما ادّعى أنّ جماهير أمل وحزب الله اعتدت عليه ـــــ ‏وكذّبه آنذاك أحمد فتفت (ما غيره) قبل أن يعود فتفت ويكذّب نفسه بعدما تلقى اتصالاً هاتفياً من أمين الجميل).
كان ‏حزب الكتائب ضعيفاً جداً في الفترة الاستقلالية الأولى، وإن كان يتمتّع منذ الخمسينيات بدعم مالي (أو أكثر) من قبل إسرائيل (آن الأوان أن تتوقّف تلك المزاعم عن ذلك المركب في عرض البحر في عام 1976، وكأنّ الحزب لم يكن ‏على اتّصال بإسرائيل قبل ذلك). وكانت إسرائيل تسعى لتدعيم موقف الحزب في الانتخابات النيابية (كلّ ذلك لم يعد ‏سرّاً ونُشر في الكتابات الأكاديمية الإسرائيلية المعتمدة على الوثائق الرسمية في أرشيفات الدولة). لكنّ التأجيج ‏الطائفي الحاد، بالإضافة إلى ألاعيب سياسة فؤاد شهاب المارونية (مرّ شهاب بفترة توتّر في العلاقة مع حزب الكتائب، لكن ‏شهاب كان مسكوناً بهاجس إضعاف ريمون إدّه)، عزّزا من موقع الحزب. وكان الحزب يستفزّ المقاومة الفلسطينية في ‏لبنان ليسوّغ عملية تسليحه التي لم تتوقّف منذ 1958. والحرب الأهلية، التي يمكن القول إنّها اشتعلت وطالت ‏بتخطيط وإرادة كتائبيّين واضحين، كانت مفيدة للحزب إذ إنّها عبّأت الرأي العام المسيحي، أو جلّه، وراء الشعارات ‏الطائفية الواضحة والشعارات العنصرية المبطّنة بعض الشيء. ‏
لم يكن الحزب يدري أنّ أعماله الحربية المرسومة، التي تلقّت دعماً عسكرياً قويّاً من نظام سليمان فرنجية، إضافة إلى دعم سعودي وثّقته في بداية الحرب جريدة المحرّر قبل أن تدمّرها «قوات الردع العربية»، ‏ستعبّئ رأياً عاماً مقابلاً مناصراً للقضية الفلسطينية (كان ذلك قبل مرحلة الاحتفاء اللبناني الشعبي بتدمير ‏مخيّم الفقراء في البارد). وكان الردّ اللبناني المناهض للكتائب قوياً، وإن كان ياسر عرفات قد مانع في دخول الحرب ‏بقوّة لحسمها لمصلحة قوات الحركة الوطنية. وكانت بعض القيادات الفلسطينية في داخل فتح (مثل أبو صالح وأبو أياد) ‏تلجأ الى تعزيز الموقف العسكري لقوات الحركة الوطنية من دون علم أو إذن عرفات. وإن قوات ما كان يسمى بـ‏‏«جبهة الرفض» ــــــ نحن نعيش اليوم في عصر «جبهة» القبول والانحناء ـــــ كانت حازمة في قرارها خوض الحرب ‏الى جانب القوات المعادية للمخطط الإسرائيلي في لبنان.
وكان يمكن قوات الحركة الوطنية المتحالفة مع الثورة ‏الفلسطينية في لبنان أن تقضي على حزب الكتائب وعلى القوات المتحالفة معها (من طراز الحزب الذي رفع شعار ‏‏«اقتل فلسطينياً تدخل الجنة» ـــــ لا ندري إذا ما كان هذا الحزب قد دخل رسمياً في 14 آذار وإن كانت جريدة «النهار» ‏تحرص على نشر بياناته أملاً في إنعاش حظوظه) لو لم يتدخّل النظام السوريّ آنذاك لمنع قيام نظام متطرّف كان يمكنه أن يجرّ سوريا إلى مواجهة مع إسرائيل (إذ إنّ هذا النظام التزم الشعار القائل إنّه هو من يختار «زمان ‏المعركة ومكانها» ـــــ والناس تنتظر على أحرّ من الجمر، وإن كنّا لم نفهم مصطلح «مكان المعركة»، هل يمكنها أن تكون في ‏البرازيل مثلاً؟).‏
أمين وبشير
توجّت ظاهرة بشير الجميّل، وما مثّلته من توثيق وتعميق للتحالف مع إسرائيل في فترة زيارة السادات للقدس، ‏مرحلة الصعود لهذا الحزب، وخصوصاً أنّه لجأ إلى الإلغاء العنفيّ والتصفيات للقضاء على أيّة منافسة مسيحيّة. وأتى ‏تنصيب بشير الجميّل (أليس من المُعيب الحديث عن «انتخاب» بشير الجميّل؟) ليشكّل ختام المرحلة الذهبية، إذ بدأت آنذاك ‏مرحلة الانحدار حتّى التلاشي. فلم يتقبّل الرأي العام المناهض للكتائب فكرة وصول الجميّل إلى سدّة الرئاسة ـــــ طبعاً هناك اليوم من ينفي وجود المعارضة اللبنانية لبشير لأنّ المُراد اليوم أن يُعزى كلّ ما جرى من ‏حروب واغتيالات وصراعات إلى سوريا، فقط سوريا، لأنّ إسرئيل في سرد 14 آذار للحرب الأهلية لم تُرِد للبنان إلا ‏الخير (كما تريده لفلسطين، كما ذكرت صحيفة «المستقبل» في 15 تموز 2007 عندما تحدّثت عن «تكثيف» إجراءات ‏‏»حسن النيّة» من إسرائيل وأميركا للشعب الفلسطيني).
شكّل عهد أمين الجميّل محاولة متعثّرة انتهت بالفشل الذريع، ‏وهي كانت تعتمد على نشر نموذج القوّات اللبنانية الصغير على كلّ لبنان بدعم أميركي ـــــ إسرائيلي ــــــ سعودي (كان أمين ‏الجميّل يمثّل «سوموزا لبنان» بنظر وليد جنبلاط في ذلك الوقت). ويمكن القول إنّ سقوط تجربة أمين الجميّل شكّل ‏بداية النهاية لتجربة حزب الكتائب، وخصوصاً أنّ القوّات اللبنانية نجحت في فترة ما بعد بشير بطرح نموذج مسيحي ‏أكثر تطرّفاً من كتائب أمين الجميل، مثلما يحاول سامي أمين الجميّل اليوم أن يطرح حركته «لبناننا» كنموذج أكثر ‏تطرّفاً من القوّات اللبنانية. ‏
التفوّق الجينيّ
لكنّ انتصار العقيدة الكتائبيّة تبلور في ما يسمّى بـ«إصلاحات» الطائف، مع أنّ اللقاء الشهير الذي قيل لنا إنّه طوى ‏مرحلة الحرب الأهلية جاء في وقت كان فيه الحزب في طور الاحتضار. ففكرة نهائيّة الكيان، التي كرّسها الطائف ‏في الدستور اللبناني، تطلّبت التزامات أو تنازلات عقائدية من صلب عقائد الأحزاب القومية العربية في تشكيلاتها ‏المختلفة، بالإضافة إلى عقيدة الحزب القومي السوري. ولم يُشرح لنا سبب تقديم هذا التنازل العقائديّ الذي لا معنى له. ‏إذ من يستطيع أن يضمن أنّ التطلّعات الكيانيّة للشعب اللبناني غير خاضعة للتغيير، وهي تغيّرت بصورة كبيرة على ‏امتداد عقود قليلة. حتى في مجال النظام الاقتصادي، فقد التزم الدستور الرؤية الكتائبية، على الرغم من برنامج الإصلاحات ‏الاقتصادية الاشتراكية التي مات كمال جنبلاط (والذين قاتلوا في صفوف الحركة الوطنية) دفاعاً عنها.‏
وهناك عدّة عناصر من العقيدة اللبنانية وجدت مكانها اليوم في الثقافة السياسية اللبنانية: من الحقد العنصري ضد ‏العنصر الفلسطيني والسوري، إلى نظريّة تفوّق العنصر اللبناني التافهة التي سخر منها صحافي في النيويورك ‏تايمز ذات يوم في عزّ «ثورة الأرز» عندما وصف بعض اللبنانيين بأنّهم ينظرون إلى أنفسهم وكأنّهم «أوروبيون تائهون». ‏وباتت صحيفة «النهار» وصحيفة «المستقبل» نسختين غير معدّلتين عن جريدة «العمل» أثناء الحرب. فتخصّصت «النهار» في التسعينيات، مثل الصحف اليمينيّة المعادية للمهاجرين في الغرب، في اختلاق أرقام «مروعة» عن عدد ‏الوافدين السوريين والفلسطينيين، وذلك لتخويف الشعب اللبناني من الخطر الوافد من الشرق (أمّا عن الخطر من ‏الجنوب فتتخصّص «النهار» والـ«إل.بي.سي» في أخبار تحرّكات ومواقع المقاومة في الجنوب لعلّ هناك من يجد فائدة ‏‏ جمّة في تلك المعلومات). أما «المستقبل» فهي تتخصّص في إثارة عنصريّة مفضوحة في صفحة الجرائم حيث تتلقّط ‏أيّ خبر عن أيّة فعلة شنيعة، إذا ما كان مرتكبها سورياً، ولو بالشائعة (وتسخر تلك الجريدة الرائدة في ثورة الأرز ‏من أخبار انتحار خادمات من سريلانكا أو إثيوبيا، ربما لأنّ أولاد الأثرياء يجدون فكاهة ما في ‏أخبار موت الفقراء).‏
لكنّ أسطورة التفوّق الجينيّ اللبنانيّ (وهي تستند علمياً، على ما نظنّ، إلى الفوائد البيولوجية للمطبخ اللبناني) باتت ‏منتشرة في أكثر من وسيلة إعلاميّة، وفي مختلف قطاعات الرأي العام اللبناني. فأخبار «اكتشافات» أدوية لداء ‏السرطان (من قبل أفذاذ من لبنان) لم تعد محصورة بجريدة «النهار»، بل انتشرت في كل وسائل الإعلام. وهذه السنة ‏احتفل كل لبنان بخبر (لا أساس له طبعاً من الناحية العلمية) عن طالب لبناني في فرنسا توصل الى «اكتشاف» دواء شافٍ... للسرطان. (ما سبب هذه الإنجازات اللبنانية المستمرّة في حقل مكافحة السرطان ـــــ وحسناً فعل وزير الصحة ‏شبه المستقيل عندما منع من العمل مشعوذاً لبنانياً استغلّ آلام المئات زاعماً قدرة له على شفاء مرضى السرطان).‏
أمّا العداء العامّ للشعب الفلسطيني، فانتشر في كلّ الطوائف، وما الابتهاج اللبناني العام بقصف مخيم ‏نهر البارد في كلّ وسائل الإعلام إلا خير دليل، وإن كان اللبنانيّون (واللبنانيات) مثل الإسرائيليّين (والإسرائيليات) يبرّرون عنصريتهم ضد ‏الشعب الفلسطيني عبر الإكثار من استعمال أوصاف الإرهاب.
كم تغيّر لبنان: لبنان الذي تظاهر بنوه بالآلاف في ‏الستّينيات عندما توفّي معتقل فلسطينيّ تحت التعذيب، صار اليوم يطالب بتدمير مخيّم فلسطيني آهل، في الوقت الذي ‏تعرض فيه «ميليشيا» آل الحريري في الشمال خدماتها في القتل والقنص. فكأنّ هذا الـ«لبنان» هو وطن آخر، وهذا دليل آخر ‏على تقلّب اللبنانيين في أهوائهم. وكلام زعماء مختلف الطوائف في لبنان اليوم على المخيّمات الفلسطينية لا يختلف ‏البتّة عن خطاب مؤسّس حزب الكتائب اللبنانية أثناء تضييق الحصار على المخيّمات الفلسطينية. ‏
الصيغة الفريدة
تتجلّى ظاهرة أخرى لهذا التعلّق المتطرّف بالكيان، والتغزّل بالصيغة اللبنانيّة. كانت الثقافة السياسية اللبنانية ‏أكثر رحابة في فترة ما قبل الحرب الأهلية لأنّ أفكاراً تتخطّى الكيان اللبناني الضيّق (اللصيق فكرةً ودوراً بسند الكيان ‏الصهيوني منذ إنشائه من قبل حلفاء لفكرة الدولة اليهودية على أرض فلسطين) من منظور عربي أو سوري أو أممي ‏كانت متداولة بحريّة، ولم يكن يُنظر إليها على أنها مناقضة للفكرة الوطنية. لا أحد ينظر الى دعاة الوحدة الأوروبية في ‏فرنسا أو في ألمانيا على أنهم خونة أو مناقضون لفكرة العيش المشترك. أما في لبنان فالدستور ألزم كل المواطنين (والمواطنات) بفكرة نهائية الكيان، مع أنّها فكرة ضعيفة لأنّه لا يمكن ضمان ديمومة الفكرة أو ديمومة الكيان في عالم ‏متغيّر ينزع نحو الاندماج في أكثر من منطقة. وفكرة نهائية الكيان لا تعبّر عن ثقة بأزلية الوطن (وهي فكرة ‏غير واقعية)، بل عن تشكيك وجوديّ عميق يحتاج للتعامل معه إلى توكيد عكسه يومياً. وشعار 10425 الذي رفعه ‏بشير الجميّل (والذي أخطأ حسن نصر الله في ترديده، وإن فعل ذلك لتأكيد ضرورة تحرير الأرض) لم يكن من أجل ‏تحرير الوطن، بل من أجل إخضاعه برمّته للسيادة الإسرائيلية التي أتت ببشير رئيساً على لبنان. ‏
ثم هناك الحديث الذي لم يتوقّف بيار الجميل (الجد المؤسس) عن ترداده في تصريحات يومية كانت تُعدّ له (اقرأ كتاب ‏لويس الحاج «من مخزون الذاكرة» الذي اعترف فيه بأنّ جريدة النهار كانت تشذّب تصريحات بيار الجميل للتخفيف ‏من حدّتها الطائفية). وورث وليد جنبلاط في طوره المستحدث هذا الدور وهذا الثناء على الصيغة الفذة. وكيف يمكن صيغة أن تكون فذة إذا كانت تحتاج إلى حروب وصراعات دورية لإثبات فذاذتها؟ والصيغة اللبنانية ليست فريدة، فهي ‏قائمة على ما سمّاه اللورد بلفور «إهمال حق تقرير المصير العددي» الذي شكّل صلب النظام الصهيوني ونظام ‏التفرقة العنصرية في جنوب إفريقيا. وكفى تطبيلاً لهذه الصيغة التي لا عبقرية لها إلا في تسعير الصراعات الطائفية ‏ودفعها نحو الحرب الأهلية دوريّاً.‏
يستطيع بيار الجميّل أن يرقد قرير العين. فالبزرة ـــــ لم نقل «السوسة» ـــــ التي زرعها قد أثمرت وانتشرت بين ‏الطوائف. ونستطيع القول إنّ وليد جنبلاط وسعد الحريري هما اليوم أعتى كتائبيّةً من المؤسّس نفسه. أمّا الياس ‏عطالله، فيبدو أقرب إلى فكر «حرّاس الأرز»، وإن كان أصرح طائفياً، وخصوصاً عندما يأخذ راحته في الحديث في ‏برنامج «نهاركم سعيد». ويخطئ من يظنّ أنّ أسطورة الكيان اللبناني قائمة على أسس متينة بمجرّد التغنّي بها ‏والتلويح برايات الأرزة. لكن العقيدة الكتائبية، التي بدأت محرّكاً لمنظّمة يمينيّة متطرّفة شبه معزولة، أثبتت ديمومة ‏واستمرارية لم تكن متوقّعة. والطائفية (التي أصرّ كمال يوسف الحاج على أنّها «بنّاءة») تجعل من المبدئيّة شبه مستحيلة ‏لأنّ المصلحة الطائفية ومصلحة زعماء الطوائف تطغى على ما عداها. وهذا ما يفسّر التقلّب الذي يصيب أهواء ‏الطوائف (فمن الخطأ الظنّ أنّ وليد جنبلاط هو وحده المتقلّب والخالي من المبدئية. فما هو إلّا ظاهرة من صلب ‏المجتمع الطائفي اللبناني).
لا يشكّل انتشار العقيدة الكتائبية في المجتمع اللبناني خطراً على سلامة الشعب ‏الفلسطيني في لبنان وعلى سلامة العمّال السوريّين (تصوّرهم جريدة المستقبل عملاءَ للنظام) وحسب، بل على السلم ‏الأهلي في لبنان أيضاً. وإذا كانت العقيدة الكتائبيّة شكّلت تهديداً وخطراً على سلامة المسيحيّين في لبنان، فإنّها ستكون فتّاكة ‏إذا ما تحوّلت إلى عقيدة (غير رسميّة) جامعة للوطن.‏‎ ‎
* أستاذ العلوم السياسيّة في جامعة كاليفورنيا
(موقعه على الإنترنت: angryarab.blogspot.com)