نزار صاغيّة *
في 20-6-2007، أصدر مجلس شورى الدولة في غرفته المؤلّفة من الرئيس خليل أبو رجيلي والمستشارين طلال بيضون وطوني فنيانوس قراراً بوقف تنفيذ القرار الصادر عن المديرية العامة للأمن العام بمنع المحامي أديب زخور من تمثيل موكّلتيه (وهما خادمتان أجنبيّتان لجأتا إلى بيت الأمان، أي إلى بيت حماية ضحايا الاتجار بالبشر) في تحقيقات تتّصل بدعوى جزائيّة أقامها بالوكالة عنهما ضدّ لبنانيّين «متّهمين» بالاعتداء عليهما، علماً أنّ القرار القضائي صدر بعدما أدخل مجلس شورى الدولة نقابة المحامين في بيروت في الدعوى، بناء على طلب المدّعي، بهدف الاستماع إليها وإشراكها في سماع الحكم.
يشكّل هذا القرار بالواقع صفحة «حلوة» تضاف إلى السجل الأبيض للأحكام القضائيّة، وخصوصاً في مجال الدفاع عن حقوق الفئات المستضعفة، وهو سجلّ تزداد أهميّته وأهمية إبرازه بقدر ما تزداد عثرات القضاء، وخصوصاً عثراته ذات الدويّ الإعلاميّ، وذلك حفظاً للأمل بصحوة قضائيّة هي من دون ريب حجر الأساس في أيّ مشروع وطنيّ جديّ.
ويتمتّع القرار بميّزات عديدة، ومنها:
الميّزة الأولى مفادها تعزيز حصانة المحامي في الدفاع عن حقوق موكّليه، وهي ملازمة لميّزته الثانية المتمثّلة بضمان حقّ الموكّلتين ـــــ ومعهما مجمل النساء اللواتي لجأن إلى بيت الأمان ـــــ بالدفاع عن أنفسهنّ بواسطة المحامي الذي يخترنه من دون قيد أو فرض، علماً أنّ لجوءهنّ إلى بيت الأمان المخصّص باتّفاق بين الأمن العام ومنظّمات إنسانية لإيواء ضحايا الاتجار بالبشر، وأكثر تحديداً لإيواء النساء الأجنبيّات اللواتي تعرّضن للاتجار الجنسيّ أو الجسديّ (عمل سخرة كرهاً من دون عوض) يشكّل دليلاً واضحاً على ضعفهنّ ومدى حاجتهنّ إلى المؤازرة القانونية، وخصوصاً في الظروف اللبنانية حيث تكثر إجمالاً التدخّلات لدعم «أسيادهنّ»، أصحاب النفوذ والمال.
فالقرار الذي أُوقف تنفيذه جاء في سياق كتاب وجّهه الأمن العام إلى رابطة كاريتاس (بصفتها مسؤولة عن إدارة بيت الأمان)، يعلن فيه رفض التعاون مع المحامي الحاضر، وذلك بحجّة أنّ أسلوبه في الدفاع عن موكّلتيه أدّى إلى استفزاز المحقّقين أثناء التحقيقات(!) وعرقل عملهم والقيام بموجباتهم. وطلب الأمن العام استبداله بمحامٍ آخر بهدف تسيير عمل المرفق العام والمحافظة على الأمن العام(!) وتفادي أيّ إشكال قد يقع مع المحقّقين، وصوناً لحقوق الأشخاص الذين تجري معهم التحقيقات.
وتالياً، فإنّ الأمن العام أقصى بكتابه المحامي، ونزع عنه الحقوق الناجمة من الوكالة المعطاة إليه، ونصّب نفسه مرجعاً صالحاً لتقويم أساليب المحامين بالدفاع، بل لاستبعادهم إذا لم ترُقْ له هذه الأساليب.
وإذا عرفنا أن الأمن العام يتولّى التحقيقات المتّصلة بهذه الفئة، فإنّ تعميم هذه الصلاحية يؤدّي إلى كوارث حقيقية بما يتّصل بحقوق هؤلاء في الدفاع عن أنفسهم، وهذا هو بالذات ما طعنت المراجعة فيه سنداً إلى قانون تنظيم مهنة المحاماة. وهذا هو بالذات ما نقضه مجلس شورى الدولة ضمناً بوقف تنفيذ القرار المطعون فيه مذكّراً مديرية الأمن العام بأنّ لسلطانها حدوداً!
وإذا ذهبنا أبعد من القرار الذي توصّل إلى النتيجة المذكورة على أساس مبدئيّ (وهو تمتّع المحامي بالحصانة) من دون حاجة إلى تفصيل حجج الأمن العام وتفنيدها، فإنّ التحليل اللغوي والمنطقي لهذه الحجج ـــــ وخصوصاً لتهمة «الاستفزاز» وما تسبّبه بنظر الأمن العام من مخاطر وما تسوّغه من تدابير قانونيّة ـــــ يظهر دلالات لا تقلّ أهمية عمّا تقدّم.
فـ«الاستفزاز» يحصل إجمالاً إذا تصرّف أحدهم بشكل مفاجئ مخالف للّياقات المتعارف عليها، ويزداد احتمال حصوله في ظروف القضايا التي يتجابه فيها خادم (أجنبيّ) مع سيّد (وطنيّ)، وخصوصاً إذا سعى الخادم (أو من يمثّله) إلى التصرّف كندّ للسيّد، كندّ جدير بالاحترام وبممارسة جميع الحقوق الممنوحة له قانوناً من دون تمييز! فاستفزاز كهذا لا يؤدّي فقط إلى المساس بلّياقات، بل يظهر كأنّه تمرّد يهدف إلى زعزعة «النظام السائد»، بما فيه من أفكار وآراء مسبقة قوامها الطبقية والعنصرية.
وبالطبع، لا يمكن الجزم ـــــ ولا حتى الادّعاء ــــ بأنّ الأمن العام استخدم تعبير «الاستفزاز» بهذا المعنى في القضية الحاضرة، لكن من المؤكّد أنّ التعبير ـــــ في حال قبوله وتعميمه ـــــ يحتمل في سياق المنطق السائد استخداماً كهذا في هذه القضية أو في قضايا مماثلة على نحو يهدّد بقلب الأدوار، بحيث تتحوّل «الخادمة» المدّعية (سلعة الاتجار) إلى «مستفِزّة»، والسيّد المدّعى عليه (المتّهم بالاتجار بالبشر) إلى معتدى عليه بجرم الاستفزاز (Crime de lèse Majesté). ويبرّر ذلك إخراس «الخادمة»، وبالنتيجة تجريدها من حقّ الدفاع مع كلّ ما قد يستتبع ذلك من ضياع للحقوق.
وما يزيد هذه التساؤلات مشروعيّة هو أنّ قرار الأمن العام لمّح إلى أنّ أسلوب المحامي «الاستفزازي» شكّل مساساً بالأمن العام، بما يفضح الميل إلى اللغو والمبالغة(!)، وتعرُّضاً ليس فقط للمحقّقين بل أيضاً للأشخاص الذين تجري التحقيقات معهم (ومنهم حكماً الأسياد محلّ الاتّهام).
ولإدراك أهميّة هذا القرار، تكفي استعادة بعض التحقيقات في دعاوى نساء أخريات، وما يمكن أن تسفر عنه من تخويف (مقصود أو غير مقصود)، وتبعاً لذلك من قلب للحقائق وإضاعة للحق. وكمثال لذلك، ردّ قاضي التحقيق في بيروت أخيراً ادّعاء سيّدة أجنبيّة باغتصابها من قبل القيّمين على أحد مكاتب الاستخدام، مستنداً إلى التحقيقات التي بيّنت تناقضاً في أقوالها قبل أن تتدخّل الهيئة الاتّهاميّة بفضل مثابرة المحامي لتصحيح مسار الدعوى، مستعينةً بمراجع علم النفس. فبعدما أوردت مراجع تبيّن أن التناقض أو التردّد في الأقوال هو سمة ملازمة للرهبة التي يشعر بها عادة ضحايا الاغتصاب، رأت أنّه لا يقتضي إذاً إهماله فقط، بل أبعد من ذلك اعتباره دليلاً إضافيّاً على حصول الجرم («الأخبار»، صفحة العدل، 31 آذار 2007).
أما الميّزة الثالثة للقرار، فتتمثّل بإدخال نقابة المحامين في بيروت، وتالياً بدعوتها لاتّخاذ موقف من المراجعة خلافاً لدفوع الدولة والأمن العام الرافضة لإدخالها، بحجّة أنّ لها (أي للنقابة) بشخص نقيبها حقّ التدخّل فقط إذا رأت ذلك مناسباً! وبذلك، وضع مجلس شورى الدولة النقابة أمام مسؤولياتها في نصرة أحد أعضائها وفي الدفاع عن حق الدفاع، فكأنّه بذلك أراد إعطاء النزاع أبعاده الحقيقية ونقله من نزاع يداعي فيه محام (مهما تكن أهمية مبادرته) مديرية الأمن العام لانتزاع حقّ في قضيّة معيّنة، إلى نزاع تطالب فيه نقابة المحامين (بما تمثّل) هذه المديرية ضمان احترام حقّ الدفاع في تحقيقاتها كافة، بل كأنّه أراد بالنتيجة أن يضمن لقراره المفعول الذي يستحقّ بحيث لا يأتي حلّاً في قضيّة منعزلة، بل قاعدةً عامّةً تنسحب على جميع القضايا المماثلة. وهذا ما سارعت نقابة المحامين إلى تأييده، على نحو يشكّل نموذجاً لتضامن المهن القانونيّة في اتّجاه ترسيخ قيمها المشتركة، بل (وهذه هي حال القضية الحاضرة) في ترسيخ ما هو أساس وجودها، أي حقّ الدفاع للجميع من دون تمييز.
* محامٍ وباحث قانوني