معن بشور *
إنّ الحديث عن إحياء القومية العربية، ينطوي على إقرار بتراجع هذه الحركة، وانحسار دورها، وتعثّر أدائها وأدواتها في آن، وبالتالي فهو حديث نقدي بالدرجة الأولى، غير أن النقد هنا لا ينطلق من مواقع الانكسار أو التشهير، بل من واقع الثقة بالأمة ومن منطلق التمسك بمبادئ حركتها القومية التي عاشت في ظل صعودها أبهى أيامها وأجمل عطاءاتها وأروع انتصاراتها.
ولكن السؤال الذي يجب أن يسبق الحديث عن إحياء الحركة القومية هو: هل تحتاج الأمة فعلاً إلى إحياء حركتها القومية؟ ألا يكفي هذه الحركة ما أخذته من فرص تاريخية كي لا تعود إلى ارتكاب الخطأ مرة أخرى؟
للإجابة عن هذا السؤال المزدوج، لا بد من الإقرار بأن الفشل أو التعثر أو الانحسار الذي أصاب الحركة القومية العربية لم يكن بسبب الأفكار التي حملتها، أو الأهداف التي سعت إلى تحقيقها، بل أساساً بسبب الممارسات التي وقعت فيها أنظمة ومنظمات، وربما أفراد، رفعوا شعارات هذه الحركة وتوسلوا أهدافها طريقاً للوصول إلى السلطة فباتوا أسرى لها، ولمنطقها، ولصراعاتها التي لم تبقِ ولم تذَرْ.
وأوضح الأدلّة على أن الفشل لم يكن في أفكار الحركة القومية العربية بل في الممارسات التي ارتكبت باسمها، أن العروبة، كهوية قومية ارتكزت إليها هذه الحركة، تبرز في كل لحظة تواجه فيها الأمة امتحاناً، بل يتأكد الانتماء إليها مع كل محنة نمر بها. فالهبّات الشعبية العربية التي رافقت الانتفاضة الفلسطينية الأولى عام 1987، ثم الانتفاضة الفلسطينية الثانية عام 2000، وتلك التي سبقت الحرب العدوانية على العراق عام 2003 ورافقتها، ورافقت عدوان تموز 2007 على لبنان وتصاعدت، كانت تعبيراً عن موقف واحد لأبناء الأمّة من محيطها إلى الخليج، وهي إذا لم تستطع أن تكون فاعلة حاسمة آنذاك فإن تأثيرها يزداد مرة تلو الأخرى، وأثرها على النظام الرسمي العربي يتعاظم تجربة بعد تجربة.
وفكرة الوحدة العربية التي تطمح الحركة القومية العربية إلى تحقيقها باتت اليوم مع عصر التكتلات الكبرى التي يشهدها العالم، هي طريقنا لمواكبة هذا العصر وتحدياته، بل إنها تعبير عن ريادة هذه الأمة في اكتشافها المبكر لقانون العصر: الوحدة شرط البقاء، والتكامل شرط النماء. ولعلها من المفارقات الكبرى في أيامنا هذه، أن أعتى أعداء الوحدة العربية، أي أصحاب المشروع الصهيو ـــــ أميركي، هم أنفسهم يدعون إلى شرق أوسط جديد هو نفسه المنطقة العربية الموحدة، لكن مع استلاب هويتها وثقافتها وخصوصيتها وتمكين الكيان الصهيوني من الهيمنة عليها، أي أن الإطار المطلوب في هذه المشاريع هو إطار وحدوي لكن المضمون صهيو ــــ استعماري.
وسلامة الفكرة القومية العربية تتضح كذلك مع فشل كل المشاريع التي حاولت أن تقوم بديلاً من المشروع القومي العربي، ولا سيما المشروع القطري، أو حتى الإقليمي، وقد جرى الترويج للمشروعين بعد النكسة الكبرى التي أصابت الحركة القومية العربية مع الانفصال المشؤوم عام 1961، والضربة التي تلقتها مصر وسوريا في حزيران 1967.
فشل المشروع القطري
هذا المشروع القطري، الذي قدم مشروعاً بديلاً من المشروع القومي، لم ينجح حتى في توفير الحد الأدنى من متطلبات السيادة والاستقلال والأمن والنمو للأقطار...
لقد شهدنا مدى العقود الأربعة الماضية بشكل واضح كيف كان الاستقلال الوطني للكيانات العربية، بما فيها الكيانات الكبرى، مهتزاً، وكيف انتُهكت السيادة الوطنية إمّا عبر احتلال الأرض أو عبر احتلال الإرادة كما نرى في العديد من أنظمتنا.
ولقد شهدنا أيضاً، في ظل المشروع القطري، غياب مشروع جدّي للأمن القومي العربي، ناهيك عن الأمن الوطني نفسه، فأخذ أمن أقطارنا يتعرض من الداخل والخارج في آن لسلسلة من الزلازل والأعاصير المتدحرجة التي يصعب وقفها من دون جدار قومي وتضامن عربي صلب في مواجهتها.
وشهدنا كذلك، في ظل المشروع القطري أو الكيانات المرتبطة به، تعثّراً واضحاً في حركة النمو والتقدم الاقتصادي والاجتماعي، على رغم أن الأمة ككل تمتلك من الإمكانات البشرية، والموارد الطبيعية، والسوق الكبرى، والكفاءات الإنسانية، والمواقع الاستراتيجية، ما يؤهّلها إلى أن تكون في طليعة الأمم المتقدّمة على الصعيدين الاقتصادي والاجتماعي إذا ما توافرت شروط التكامل والتعاون والتنسيق بين أقطارها وكياناتها.
وعلى المستوى الثقافي والتعليمي، وجدنا في ظل المشروع القطري اختراقات خطيرة لبنيتنا الثقافية وقدراتنا العلمية، حيث يجري كل يوم تدمير ممنهج للجذور الثقافية والعقائدية للأمة، وضرب مرتكزاتها الأساسية، ولا سيما العقيدة واللغة والمخزون الحضاري، بالإضافة إلى نشوء ما يشبه الشبكة الدولية الهادفة إلى استدراج العديد من أدمغتنا وطاقاتنا العلمية إلى بلدان الغرب في ظل ضرب كل البنى والقدرات والإمكانات الوطنية الجاذبة لها لكي تبقى في أوطانها، ولعل عجز أي قطر بمفرده عن تخصيص الأموال والإمكانات اللازمة لمؤسسات البحث العلمي، مثلاً، هو دليل ساطع على استحالة التطور العلمي المطلوب في غياب منظومة علمية وتكنولوجية عربية كبرى.
فالمشكلة إذاً لم تكن في مبادئ الحركة القومية العربية وتطلعاتها، بقدر ما كانت في الممارسة، ما يقود إلى أن الحاجة إلى إحياء هذه الحركة، عبر تجاوز تلك الممارسات، تبدو اليوم أكثر من ضرورية.
فبالإضافة إلى ما استعرضناه آنفاً من فشل المشروع القطري... فإن الحاجة إلى إحياء هذا المشروع القومي تكمن كذلك في ضرورة الخروج من حال التمزّق والفدرلة والحروب الأهلية المعلنة أو الكامنة الممتدة من المحيط إلى الخليج.
مخطّطات تمزيق المنطقة
... في هذا المجال نتوقف أمام وثيقتين إحداهما تعود إلى ما قبل 25 عاماً (وتحديداً عام 1982) والثانية إلى ما قبل أيام.
الوثيقة الأولى هي كتاب صدر عن مؤسسة الدراسات الفلسطينية عام 1983 بعنوان «تطوّر العقيدة العسكرية خلال 35 عاماً» من إعداد أ. سمير جبور وإشراف أ. محمود سويد، وقد أعدَّ د. هاني سليمان تقريراً عنه نُشر في العدد الخامس من مجلة «المنابر» في حزيران 1986.
في هذا الكتاب خطاب غير منشور لآرييل شارون يتحدث عن نوعين من الأخطار الخارجية التي تهدّد الكيان الصهيوني: أولهما المواجهة العربية وثانيهما التوسّع السوفياتي، أمّا بالنسبة إلى العامل العربي فقد حدّده شارون بأمرين: الأيديولوجيا القومية لأنظمة الحكم الراديكالية العربية، والثاني وجود منظمة التحرير الفلسطينية والتحدي الذي تطرحه.
نستطيع القول اليوم إن المخطط الصهيوني نجح في ضرب بعض الأنظمة الراديكالية التي تحمل أيديولوجيات قومية كالعراق أو في ترويض بعضها الآخر. ونجح كذلك في تحقيق انقسام فلسطيني وصل إلى ذروته مع أحداث غزة، لكن ما ينبغي أن نتوقف عنده في هذا الخطاب هو الحديث عن خط «الأيديولوجيا القومية» لبعض الأنظمة، التي تستهدفها الحركة الصهيونية لما تنطوي عليه من مخاطر، وهنا نستطيع مثلاً أن نفهم طبيعة الضغوط والتهديدات التي تُمارس ضد سوريا منذ سنوات.
أما المقالة الثانية البالغة الأهمية، التي يتضمنها الكتاب، فهي دراسة للصحافي عوديد ينيون وهو موظف سابق في الخارجية الإسرائيلية في الستينيات.
يقول هذا الصحافي منتقداً عدم إعطاء الأردن للفلسطينيين بعد عام 1967 «لكي نحيّد الفلسطينيين»، حسب قوله، ومنتقداً كذلك الانسحاب من سيناء التي يشبه تكوينها الجيولوجي تكوين الدول الغنية بالنفط، وبالتالي فإن تخلينا عن سيناء ــــ والكلام ما زال لينيون ــــ سوف يؤدي إلى اختناق نفطي قوي خلال المستقبل القريب.
من هنا يدعو الكاتب الصهيوني إلى احتلال سيناء مجدداً، معتبراً أن مصر باتت جثة هامدة في أعقاب انهيارها (يقصد كامب ديفيد) وفي أعقاب الانقسام الإسلامي ـــــ المسيحي الذي سيزداد تأزّماً في المستقبل (هذا الكلام قيل في مطلع الثمانينيات). ويستطرد الكاتب «إن تجزئة مصر إقليمياً إلى وحدات فرعية جغرافية منفصلة هي هدف إسرائيل السياسي في الثمانينيات، أمّا الدول مثل ليبيا والسودان والدول الأبعد فهي لن تبقى على صورتها الحالية بل ستقتفي أثر مصر في انهيارها وتفتيتها، فمتى تتفتت مصر تفتت الباقون».
إن رؤية دولة قبطية ـــــ مسيحية في صعيد مصر، إلى جانب عدد من الدول الضعيفة التي تتمتع بسلطة إقليمية وتغيب فيها السلطة المركزية، كما هو الوضع حتى الآن، هي مفتاح التطور التاريخي الذي أخّرته معاهدة السلام.
ولا ينسى إينيون أن يذكّر أيضاً بأن «تفتيـــــــــت سوريـــا والعراق إلى مناطـــــــــق ذات خصوصية إثنيــــة ودينية واحدة، على غرار لبنان، هو هدف من الدرجة الأولى بالنسبة إلى إسرائيل في الجبهة الشرقية».
باركر: إدارة بوش مصمّمة على التمزيق
أمّا الوثيقة الأخرى التي برزت بعد ربع قرن على تلك الوثائق فهي محاضرة للسفير الأميركي السابق في لبنان السيد ريتشارد باركر قبل أيام في باريس، يقول فيها «إن الرئيس جورج بوش سيعمل خلال الفترة الباقية من ولايته الرئاسية على وضع أسس ثابتة لمشاريع «خرائط طرق» لمنطقة الشرق الأوسط تنطلق من تطلعات القسم الأكبر من ممثلي الأقليات الدينية أو المذهبية أو العرقية، التي تتركز كلها على ضرورة منح الحكم الذاتي لهذه الأقليات عبر إقامة أنظمة حكم ديموقراطية فيدرالية بديلة للأوطان والحكومات القائمة الآن».
ويضيف السفير الأميركي باركر الذي خدم في لبنان في مطلع الثمانينيات، أن إدارة الرئيس بوش التي لم تتراجع بعد عن خطة «الفوضى المنظّمة» في منطقة الشرق الأوسط، ليست بحاجة إلى أي قرار من مجلس الأمن الدولي لتنفيذ هذا السيناريو، انطلاقاً من كونه مسألة «وطنية داخلية» في كل دولة من منطقة الشرق الأوسط المكوّنة أصلاً من مجموعات محدودة من الأقليات الدينية والإثنية. ويشير الدبلوماسي الأميركي السابق إلى أن «الخطوة الأولى نحو مسار «خرائط الطرق» ستكون في إقامة اتحاد هاشمي بين «العراق الفيدرالي» والمملكة الأردنية، على أن ينضمّ إلى منظومته الدولية الفلسطينيّون بعد إعلانها تحت صيغة كونفدرالية، ما يفسح في المجال أمام توطين اللاجئين الفلسطينيين كبديل من حق العودة ومع التعويض المالي طبعاً. وبحسب الخطة الأميركية فإن الاتحاد الهاشمي المرتقب بين العراق والأردن سيعني وصلاً جغرافياً بين تركيا وإسرائيل، ما يسهّل نقل المياه التركية والنفط العراقي إلى إسرائيل حيث يُصدّر هذا الأخير إلى الخارج».
أما بالنسبة إلى مستقبل الوضع السياسي في لبنان، ذكر السفير الأميركي الأسبق ريتشارد باركر أن «لجان الكونغرس الأميركي أصبحت أدراجها متخمة بسلسلة من مشاريع اللامركزية الإدارية والسياسية الموسّعة التي لا تزال قيد الدرس، ناهيك عن مشاريع جاهزة للتنفيذ آخرها ذاك الذي قدمه أحد الأحزاب اللبنانية المؤثّرة والذي ينص على تحويل لبنان إلى 12 محافظة يتمتع كل منها باستقلال إداري وإنمائي واسع وجعل بيروت وضواحيها عاصمة المحافظات الموسّعة على أن يتم توزيع المحافظات مناصفة بين المسيحيين والمسلمين».
وشدد الدبلوماسي الأميركي على التأكيد «أن شكل الصيغة الجديدة للبنان بدأ يتبلور في عواصم القرار الدولي، التي ستنتظر الوقت المناسب لفرضه بأيدي اللبنانيين أنفسهم! لكن الخلاف الدولي ليس على نوعية هذه الصيغة لجهة كونها لامركزية إدارية موسّعة أو لامركزية سياسية موسّعة وفيدرالية أو كونفدرالية، بل بين تيار دولي لا يمانع في فرض إحدى صيغ هذه الحلول ولو كان مقابل «حمّام من الدم» وتيّار أوروبي يؤيّد التغيير على طاولة الحوار».
أمام هذه المخطّطات، تبقى العروبة العابرة للمذاهب والطوائف، والحركة القومية الديموقراطية الجامعة، درعاً وحصناً وسيفاً في آن واحد.
(فقرات من محاضرة أُلقيت لمناسبة الذكرى 55 لثورة 23 تمّوز/يوليو بعنوان «السبيل إلى إحياء القومية العربية»)
* كاتب عربي