وهيب معلوف *
ترافق الاحتلال الأميركي للعراق مع إعادة ظهور مفردة «إمبريالية» بحيث أصبحت من الأكثر وروداً بين مفردات القاموس السياسي لدى العديد من الكتّاب والباحثين. وبإمكاننا إيراد أمثلة متعدّدة عن نماذج مختلفة من الإمبراطوريات بدءاً بالرومانية والعثمانية، ومروراً بالصينية والروسية، ووصولاً إلى البريطانية والفرنسية. لكنّ ما الذي يميّز «الإمبريالية الأميركية» ـــــ التي يمكن إرجاع لحظة ولادتها الحقيقية إلى الفترة التي تلت انتهاء الحرب العالمية الثانية ـــــ عن بقية الأمثلة التاريخية المذكورة؟
يقارب المفكّر الاجتماعي البريطاني دايفيد هارفي السؤال معطياً الأولوية للتأمّل في معنى الأحداث التي حصلت في السنوات القليلة الماضية. فالولايات المتحدة، بدعم من بريطانيا، أوستراليا وإسبانيا وبموافقة دول عديدة أخرى، غزت العراق. إلا أنّها فعلت هذا وسط معارضة قوية من عدد من حلفائها التقليديين، وأبرزهم فرنسا وألمانيا، ومن خصومها التاريخيين وأبرزهم روسيا والصين.
حصلت اعتراضات شعبية على الغزو على مستوى العالم ولا يزال هناك «شعور من الذهول يغلب على كثيرين بالنسبة إلى الدوافع التي جعلت الإدارة الأميركية الحالية تختار هذا المسلك»، بحسب تعبير هارفي. ويخلص الأخير الى أن «الدلائل تشير الى وجود شيء عميق يعمل وسط كل هذا. إلا أن من الصعب رؤية ما هو. هذه المعاني الأعمق يجب نبشها من تحت سطح هائل من الخطابات المضللة والمعلومات الخاطئة».
«قصة منتجين للنفط» ـــــ فنزويلا وإيران ـــــ من المفيد أن تروى في هذا الإطار. فالانقلاب الذي أطاح الرئيس الفنزويلي هوغو تشافيز في نيسان 2002 استقبل بالحبور في واشنطن. اعتُرف بسرعة بالرئيس الجديد ـــــ وهو رجل أعمال ـــــ الذي اعتبر الأمل في إعادة الاستقرار والنظام الى البلاد، ما يشكل أرضية لتنمية مستقبلية مستدامة. إلا ان معظم الناس في أميركا اللاتينية لاحظوا يد وكالة الاستخبارات المركزية الأميركية في الموضوع، مستذكرين ما بات يسميه التشيليون الآن «11 أيلول الصغير» لعام 1973 عندما أُطيح الرئيس الاشتراكي المنتخب ديموقراطياً سيلفادور ألليندي عبر انقلاب دموي قام به الجنرال أوغستو بينوشيه. وسرعان ما قُلب الانقلاب على أعقابه بعد ثلاثة أيام ليعود تشافيز على إثر ذلك الى السلطة.
أوجه الشبه مع العراق لها دلالاتها المعبّرة. هناك ادّعت الولايات المتحدة رغبتها في بناء الديموقراطية، مع العلم انها أطاحت عام 1953 رئيس الحكومة الايرانية المنتخب ديموقراطياً محمد مصدق. غير أن ادعاء الرغبة في دمقرطة العراق كان واحداً بين جملة من التفسيرات المتضاربة التي قُدمت لتسويغ الأهمية القصوى للحرب. فإذا كان العراق يمتلك سجلاً مرعباً في استعمال الأسلحة البكتيريولوجية والكيميائية، فإن معظم ذلك حدث في ظل دعم الولايات المتحدة له في حربه ضد إيران...
كان تغيير النظام العراقي هو الهدف الأساسي، فيما استحوذ موضوع نزع الأسلحة على الصدارة فقط لاستدعاء سلطة الأمم المتحدة، نظراً الى أن ميثاق هذه الأخيرة لا يسمح بالضربات العسكرية الاستباقية. في المحصلة، قُدّم الأمر لتبدو الولايات المتحدة وبريطانيا كأنهما قد أصبحتا ملتزمتين دعوة أخلاقية لتحرير الشعب العراقي وزرع «التنوير الأميركي» في منطقة الشرق الأوسط.
وسط كل هذا، كان من الصعب عدم الوصول الى الاستنتاج أن «شيئاً مهماً جداً كان يُخفى تحت مسلسل كامل من الأضاليل»، على حد تعبير هارفي. فما الذي كان يجري حقيقة؟ إذا كانت الأسباب المعلنة تفشل في الإقناع، فماذا، إذاً، يمكن أن تكون الأسباب غير المعلنة؟
الإجابة عن هذا السؤال تكمن في تحليل ما يسميه هارفي «الحركية الداخلية للمجتمع المدني الأميركي». البعد الأول لهذه «الحركية الداخلية» هو في التاريخ المديد من الحكومات المأزومة في الداخل التي تحاول حل مشاكلها أكان عبر المغامرات العسكرية الخارجية أم عبر اختراع الفزاعات الخارجية لتعزيز التضامن في الداخل. وهذه فكرة تستحق التوقف عندها في حالة الحرب على العراق باعتبار ان الولايات المتحدة في العام 2002 كانت، وعلى أكثر من صعيد، تمر بمرحلة خطيرة لم تشهد لها مثيلاً لعدة سنوات خلت: الانحسار الاقتصادي المستمر ابتداءً من مطلع العام 2001، ارتفاع معدلات البطالة المترافق مع بدء الشعور بعدم الأمان الاقتصادي، خسارة أموال تعويضات نهاية الخدمة ما بين ربع قيمتها وثلثها، ما وجّه ضربة جدية لتوقعات الطبقة الوسطى بالنسبة إلى فترة التقاعد. وأخيراً، وليس آخراً، تشكيك نصف الشعب الأميركي، على الأقلّ، عشية 11 أيلول، في شرعيّة الرئيس بوش الذي نصب رئيساً إثر قرار اتخذته المحكمة العليا بفارق صوت واحد لمصلحته على حساب منافسه آل غور. والشيء الوحيد الذي أنقذ الجمهوريين سياسياً كان التضامن الوطني القوي الذي تشكل على إثر أحداث 11 أيلول الإرهابية. كانت تلك فرصة مؤاتية جداً للإدراة الأميركية ـــــ خصوصاً أنّ «الحرب على الإرهاب» لم تعط النتائج الباهرة المتوقعة ـــــ لتحويل التركيز الى العراق كواحد من الأعمدة الأساسيين لـ«محور الشر» وإقناع الرأي العام الأميركي بأنّ ثمّة علاقة بين نظام صدّام حسين و«القاعدة»، ما يستدعي عملاً عسكرياً لإطاحة النظام المذكور.
لكنّ كلّ ذلك يتعدّى كونه مجرّد انتهازيّة سياسيّة سطحيّة. ويتبدّى ذلك متى علمنا أنّ أحد المحافظين الجدد ـــــ بول وولفوفيتز تحديداً ـــــ كان يروّج لتغيير النظام العراقي بواسطة العنف منذ عام 1992، وأن المحافظين الجدد كفريق كانوا يروّجون للتغيير نفسه منذ العام 1995. إلا أن الأخيرين اعترفوا في تقرير لهم صادر في 1999 بأن جعل ضربة عسكرية للعراق مقبولة عالمياً وداخلياً يتطلب «حدثاً كارثياً ومحفزاً أشبه ببيرل هاربور جديدة». وجاءت أحداث 11 أيلول لتقدم أبلغ حجة ممكنة للمحافظين الجدد للعمل على غزو العراق.
إلا أن هناك بعداً آخر لهذه «الحركية الداخلية» علينا أن نفهمه. فالولايات المتحدة هي عبارة عن مجتمع هجرة فريد مؤلف من قوى متعددة الجنسيات تسيّرها الفردية التنافسية التي «تثوّر باستمرار الحياة الاجتماعية، الاقتصادية والسياسية»، ما يجعل هذه القوى «صعبة إن لم يكن مستحيلة الإدارة إلا عبر فساد السلطة المالية».
مع انتهاء الحرب الباردة، لم يعد بإمكان الولايات المتحدة الحديث عن أي تهديد سوفياتي لأمنها، فدخلت فترة التسعينيات من دون عدو واضح وكان يفترض بالطفرة الاقتصادية في تلك الفترة أن تؤسس لمستوى غير مسبوق من الرضى والاكتفاء لدى معظم شرائح المجتمع المدني. غير أن التسعينيات أفضت الى واحد من أكثر العقود سوداوية في تاريخ الولايات المتحدة: منافسة لا ترحم، ثراء سريع وصارخ لمنظري «الاقتصاد الجديد»، عمليات تزوير مالية وفضائح على نطاق واسع، أعمال شغب في لوس أنجلس وأخرى إرهابية في أوكلاهوما جسدت نزوعاً داخلياً نحو المعارضة والعنف كان قد بقي مكبوتاً لزمن طويل، مراهقون في مدينة كولومباين يطلقون النار على زملائهم في المدرسة ويقتلونهم، إلخ... باختصار، كان المجتمع المدني الأميركي بعيداً كل البعد عن المدنية ويبدو آخذاً بالتفكك والانهيار على نحو مثير للقلق.
التأييد الذي حظي به جورج بوش خلال حملته الانتخابية في العام 2000 يمكن رده الى وعده بأن يوفر بوصلة أخلاقية صلبة لمجتمع مدني بدا منفلتاً من عقاله. وجاءت أحداث 11 أيلول لا لتوفر الباب السياسي لفرض قضية وطنية والدعوة الى التضامن الوطني فحسب، بل لتفرض أيضاً النظام والاستقرار على المجتمع المدني في الداخل. الحرب على الإرهاب، متبوعة بتوقع الحرب على العراق، هما اللذان سمحا للدولة بـ«مراكمة مزيد من السلطة». وعليه أُسكتت كل معارضة في الداخل بحجة أنها غير وطنية وأصبح العدو الخارجي الشرير عاملاً أساسياً في ترويض الشياطين التي تتربص بالداخل.
إذاً، للحركية الداخلية للمجتمع المدني الأميركي علاقة وثيقة بقرار السياسة الخارجية ودور مهم، ولو مخفي، في تسعير النزاع العسكري مع العراق. غير ان التدخلات العسكرية ليست إلا «رأس جبل الجليد الامبريالي»، بحسب تعبير هارفي. فإذا كان اندفاع الإدارة الأميركية الحالية نحو التدخل العسكري في العراق يتعلق الى حد كبير بإحكام السيطرة على مصادر النفط، فإن سلطة الدولة المهيمنة كالولايات المتحدة تُبسط على نحو يضمن ترتيبات مؤسساتية دولية يصب العمل من خلالها في مصلحة القوة المهيمنة. وعليه، فإنّ الدافع لما يسميه هارفي «التراكم عبر السلب» ليس إلا الفتح القسري للأسواق على مستوى العالم عبر ضغوط مؤسساتية يمارسها صندوق النقد الدولي ومنظمة التجارة العالمية بدعم من الولايات المتحدة، وذلك من أجل حرمان الدول التي ترفض إلغاء حماياتها الجمركية من التصدير الى الأسواق الكبيرة للولايات المتحدة.
وإذ يعتبر هارفي أن الصين هي القوة الوحيدة القادرة على تحدي الهيمنة الأميركية، فإنه يعتقد أيضاً بوجود قوى داخل الإدارة الاميركية نفسها غير مقتنعة بمشروع المحافظين الجدد وباعتقادهم أن تحرير الأسواق يولد الحرية والرفاهية. أما منطق الرأسمالية المنفلتة من عقالها من دون أي تدخل من الدولة فقد كانت له نتائج عكسية على الاقتصاد الاميركي، إذ إنه عوضاً عن حركة استثمارية في اتجاه الداخل، يحصل الآن عكس ذلك، على غرار ما حدث لاقتصاديات تايلاند، أندونيسيا والأرجنتين التي شهدت هروب رؤوس أموال وانهيارات.
في محصلة الأمر، لا بد من أن يسعى منطق رأس المال الى «تغيير في النظام» في واشنطن كحاجة ضرورية من أجل بقائه. وفي حال عدم حصول ذلك، يستبصر هارفي صراعاً دولياً تضطر فيه الولايات المتحدة الى استعمال سيطرتها النفطية للحد من نفوذ الصين، ما يؤدي الى إشعال شرارة صراع جيوسياسي في آسيا الوسطى قد يمتد الى بقية العالم. عندئذ تصبح هزيمة مشروع المحافظين الجدد حتمية داخل الولايات المتحدة لمصلحة دور تدخلي أكبر للدولة يتخلى عن سلطات رأس المال المضارب ويحد من السلطات الاستثنائية للأوليغارشيات والاحتكارات، وخصوصاً المجمّع الصناعي ـــــ العسكري وهيمنته على وسائل الإعلام.
* باحث لبناني