عبد الإله بلقزيز *
نجح الفرنسيون في ما لم ينجح فيه غيرهم: جمع اللبنانيين مع بعضهم حول طاولة حوار. لا قيمة هنا لبعض التفاصيل المخفضة لسقف التوقع من قبيل مستوى التمثيل، وغياب جدول أعمال للحوار، وعدم إلزامية ما يصدر عنه من «إجماعات» أو تفاهمات أو «توصيات» مضمرة، وسوى تلك من الأسباب التي ربما دعت الى تحجيم قيمة الحوار أو حسبانه محض تمرين سياسي ـــــ أو بيداغوجي ـــــ للّبنانيين على حوار بَعُد عهدهم به منذ اختار كل فريق منهم أن يكلم نفسه في مونولوج سياسي مديد!
لا قيمة لكل تلك التفاصيل لأن اللبنانيين ما قبلوا ان يلتئم جمعهم في حوار وطني (حتى على مستوى الصف العاشر في التمثيل لا الثاني فحسب) بجدول أعمال أو بغيره، وما تجاوبوا مع من دعاهم الى مثل ذلك الحوار وعرض عليهم استضافته ورعايته، قبل ان تبادر فرنسا الى جمعهم في ضاحية سان كلو الباريسية. وإذا كان مما يستفاد من ذلك أن فرنسا الساركوزية بدت أعمق فهماً للإعضال اللبناني وأقرب الى تحسس حقائق نسيجه الاجتماعي والسياسي المركّب من فرنسا الشيراكية ـــــ الشديدة الانحياز لفريق لبناني دون آخر ـــــ فإن الأهم من ذلك ان نجاح مبادرتها (في عقد اللقاء على الأقل) تغذى من حال من الفراغ السياسي على صعيد المبادرات الإقليمية والدولية، ومن وجود حاجة لبنانية داخلية الى من يسوق اللبنانيين الى الحوار بعدما عز عليهم اجتراح إمكانه، وبعدما تعادلت كفة الربح والخسارة بينهم من تجربتهم في ممارسة فعل الإضراب السياسي والنفسي عنه!
سيقول كثيرون إن فرنسا لن تستحصل من المبادرة سوى بعض «الخراج السياسي» الرمزي ما دامت لا تملك أن تحمل اللبنانيين على إنتاج حل سياسي لنازلة الانقسام بينهم ـــــ وفيهم ـــــ على كل شيء في البلد، وما دام منتهى طموحها اليوم هو ترميم الشروخ النفسية بين المتحلقين حول مائدة «التفاوض» وإعادة ضخ الحياة في شرايين لسان المخاطبة المباشرة لديهم.
وهذا، قطعاً، صحيح من غير تحفظ. غير انه سيكون من باب سوء فهم سياسة فرنسا إن ركن المرء الى الاعتقاد بأنها إنما فعلت ما فعلته في ضاحية سان كلو لمجرد تنفيس الضغط النفسي اللبناني الجماعي. ذلك أن فرنسا دولة كبرى وليست عيادة للتحليل النفسي. وهي ـــــ لذلك السبب ـــــ لا يمكن أن تغامر برعاية حوار سياسي بين ممثلي أشد شعوب الأرض انقساماً وخصومة إن لم يكن في جدول التوقعات لديها نسبة من النجاح تبرر لها مثل تلك المغامرة.
من النافل القول ان الذي تنتظره فرنسا من لقاء سان كلو ــــ وتتوقعه ــــ ليس بحجم تسوية سياسية تضع فصلاً ختامياً لحالة الشجار اللبناني المديدة.
ففرنسا، العارفة ببواطن الأمور والأوضاع في لبنان، تدرك ان أفق مثل هذه التسوية ليس مفتوحاً اليوم لأسباب عديدة تتعدى إرادة اللبنانيين أنفسهم، ناهيك بما بينهم من تباعد في الرأي والموقف حيال مسائل خلافية غير قابلة للتسوية الفورية: تبدأ بمستقبل سلاح المقاومة ولا تنتهي بحكومة الوحدة الوطنية والانتخابات الرئاسية. إن ما تنتظره هو أن يكرَّس دورها من جديد في «الشرق الأوسط»، وفي لبنان خاصة، بعدما التبس أمر هذا الدور في السنوات الأخيرة من عهد جاك شيراك وبات عليه أن يطل من خلال جدول أعمال أميركي! وهي قطعاً تراهن على ان يقع تسليم إقليمي وعالمي بدورها بقدر ما تصيب نجاحاً في استثمار قوة الدفع التي أطلقها لقاء سان كلو.
يدرك الفرنسيون، على نحو حاد، مقدار ما تمثله مبادرتهم من إزعاج شديد للسياسة الاميركية في لبنان والمنطقة (الأمر الذي لم يستطع السفير الأميركي في بيروت أن يخفيه). فهم ـــــ في نظر واشنطن ـــــ محكومون بالقرار 1559 وبالشراكة مع الأميركيين في هذه القرارات. وهذه قرارات تدعو الى تجريد «حزب الله» من سلاحه لا الى مفاوضته ولو من وراء حجاب. ولا شك في أن الفرنسيين يدركون أيضاً ان إخفاقهم في إقناع قادة الصف الأول بالمشاركة في حوار باريس هو الثمن الذي كان عليهم دفعه لتحدي الإرادة الأميركية في شأن سعت إلى احتكاره، وهو ثمن لم يكلفها كثيراً دفعه من أجل أن تحقق حداً أدنى هو ــــ اليوم ــــ في مقام الحد الأعلى.
قد تنجح فرنسا، وقد لا تنجح، في انتزاع دورها المستقل من براثن «الشراكة» الأميركية ـــــ الفرنسية في إدارة الوضع اللبناني وفي إرغام أميركا على التسليم لها بحصتها المستقلة (والأرجح أنها لن تنجح في ذلك في عهد بوش). غير ان نجاحها الكبير سيكون، من دون شك، إن حالفها التوفيق في إعادة بناء صورتها المشروخة في لبنان، فانتقلت من دولة منحازة الى دولة محايدة، ومن دولة شريك في الأزمة الى دولة شريك في البحث عن تسويات وحلول لتلك الأزمة. وهذا خيار بات في وسعها اليوم بعدما نجحت ـــــ نسبياً ــــ في تبديد شكوك المعارضة فيها وفي دفع تلك المعارضة الى التجاوب مع مبادرة الحوار.
كان الدور الفرنسي محط خلاف بين اللبنانيين منذ ثلاثين عاماً. قسم تحالفه وتغطيه وقسم تناوئه وتستعديه. وهي اليوم أمام خيارين: أن تستأنف السياسة نفسها فتخسر الكثير، أو أن تعيد تصحيحها على نحو يشعر معه لبنان أنه أمام دولة صديقة لا أمام وصي أو عدو.
* كاتب عربي