صباح علي الشاهر *
ربما لم يعد أحد يتذكر كيف كان المناضل السياسي العراقي قبل بضعة عقود. استحضار هذا الزمن لم يعد يخطر على بال أحد. هناك من يريد طي ذاك الزمن وطي صورة مناضليه لحساب هذا الزمن وصورة سياسيّيه.
لا نريد السباحة عكس التيار، وليس في واردنا إحياء ما مضى ولن يعود، ولا إعادة الجذوة والاتقاد لمن أزاح نفسه عن المشهد السياسي قبل أن تزيحه الأحداث، لكننا نكتفي بالقول رحم الله أيام زمان، ومناضلي أيام زمان!
منذ دخل رأس المال العربي لاعباً جباراً في السياسة العربية، اقتداءً برأس المال الغربي، وحال السياسة والسياسيين العرب عجب. ومنذ انفتاح خزائن المال العربية المحكمة الإغلاق سابقاً على السياسة والسياسيين، ونحن ننحدر صعوداً في الارتزاق والنفعية وهبوطاً في القيم، وبالمحصلة كلتا الحالتين انحدار، وانحدار مريع.
قديماً كان السياسي العامل وسط ناسه وجماهيره يستمد القوّة والعون والدعم، بما فيه الدعم المادي البسيط الذي يأتي كاشتراكات أو تبرعات، من جذوره النابتة في الأرض، ومن نسغه الناقل لملحها، ملح الأرض التي كان النضال يجري فوقها، وبين ناسها. وقتها كانت البوصلة تحدد الأهداف بشكل صارم لا لبس فيه، وكان المعيار واضحاً شديد الوضوح، وبالتالي فقد كان التقويم، تقويم السياسي والعمل السياسي، ميسوراً وسهلاً، حتى لأبسط فرد من الشعب. أما اليوم فقد اختلط الحابل بالنابل. خُلقت صناعة جديدة تضاف إلى صناعات الفبركة، صناعة لها أصولها وقواعدها، ألا وهي صناعة صنع الوجوه السياسية. لم يعد مهماً أن يكون لك ماضٍ شريف، ولا حتى حاضر، وسواء كنت ذا وعي أو عديم الوعي، ذا قدرة أو عديم القدرة، سيُوكل أمرك إلى صانعي النجوم، ليصنعوا منك نجماً، يطلقوك في سماء السياسة، تزفّك قنوات التلفاز، وصحافة البذخ، إلى القراء والمشاهدين، ليشغلوا بك الناس وقتاً، حتى يتبين في ما بعد أنك لست سوى فقاعة صابون.
في الستينيات من القرن الماضي، تنبه دهاقنة المال الريعي المتراكم، الذي لم يتراكم نتيجة جهد أو كد أو نشاط إنساني متميز، على أن لا تأثير ولا حظوة لهم لدى النخب المثقفة المؤثرة على الرأي العام العربي. تفطنوا فجأة إلى أهمية الإعلام، فدخلوه بقوّة. كانت البداية مع الإعلام المقروء، ثم الإعلام المسموع والمُشاهَد. تميز هذا الدخول بالإدهاش والإبهار والبذخ المُفرط على الوسيلة الإعلامية، وعلى العاملين في هذه الوسيلة، وشهدت حقبة الستينيات من القرن الماضي وكذا حقبة السبعينيات الانحدار المريع لأقلام يسارية وقومية كانت تدّعي التقدمية ومحاربة التخلف والتبعية، وتتشدق بالصمود والتصدي. لقد تحوّل هؤلاء إلى دعاة للاستسلام والخنوع، بدعوى الواقعية والعقلانية، ولم يكن من الصعب على المتفحصين إدراك أن هذا الموقف الانهزامي الخانع إنما هو النتيجة الحتمية لمفعول البترودولار الذي لا يُقاوم.
حقق المال الريعي نجاحاته الأولى في حقل الإعلام، باستقطاب أعداد غفيرة من الكتّاب والإعلاميين الذين حُيّدوا، وجُمّد موقفهم الخاص لحساب موقف الناشر ومالك الوسيلة الإعلامية، علماً أن الناشر ومالك الوسيلة الإعلامية كان صاحب أو وكيل المال الريعي. لقد تحققت الخطوة الأولى التي سرعان ما تبعتها الخطوة الثانية التي لم تجعل من المُتعذر على أي نشاط إعلامي بكل ألوانه منافسة إعلام رأس المال الريعي فحسب، بل حتى البقاء والاستمرار من دون دعم مادي ما، من جهة ما قادرة. في ظل هيمنة الأخطبوط الإعلامي، لم يعد النشاط الفردي والمستقل ممكناً، ليس فقط بسبب التكلفة العالية، بل أيضاً على صعيد النشر والتوزيع أيضاً. في هذه المرحلة اشتُريت مؤسسات صحافية وإعلامية ناجحة وذات تاريخ، وخُلقت أخرى، وبذا وُضِعت القاعدة الأساسية المُكلَّفة بخلق نجوم السياسة، أولئك الذين سيغطون مرحلة مضطربة بشدة في تاريخ المنطقة.
ومن أجل إظهار نجوم السياسة المُخلّقين، كان لا بد من إيجاد تنظيمات سياسية، هي بدورها كالمؤسسات الإعلامية، ينبغي أن تكون باذخة البهرجة، فاحشة الثراء، وكريمة الصرف والإنفاق إلى حدود لم تكن معهودة، ولا مُتخيّلة حتى.
لم يعد السياسيون يجتمعون في المقاهي، أو النوادي، أو المؤسسات، أو البيوت، بل في فنادق الدرجة الأولى. وكلما كان الفندق أكثر نجوماً، كلما كان أفضل وأحسن. ولم يعد السياسي يتنقل كما أغلبية خلق الله مع بقية المسافرين في وسائل النقل، بل أصبح يتنقل مع رجال الأعمال و«البزنس»، وفي الدرجات الأولى. وإذا سكن في فندق لا يسكن كما خلق الله، بل يحجز جناحاً. ولم يعد السياسي يذهب للناس، بل يستدعي الناس إليه، وهو لا يكتفي باستضافتهم على فنجان قهوة أو قدح شاي، بل يولم لهم الولائم السلطانية العامرة، فالإنفاق ممدود غير محدود، والمُمَوِّل مستعد لتغطية كل النفقات.
قد يتصور البعض أن هذا الأمر ما هو إلا التطور الطبيعي عينه، فلم يعد الزمان عينه، ولا الناس أنفسهم، ولا السياسة عينها، ولا رجالها أنفسهم. مثل هذا القول في أحسن الأحوال ليس سوى قراءة مُلتبسة، فمن أفسد الإعلام يريد إفساد السياسة والسياسيين، يريد أن يصبح من المتعذر على الفقراء والمستضعفين مزاولة السياسة. فمثلما الإعلام، والفن، وحتى الرياضة، من اختصاص دهاقنة المال، فإن السياسة كذلك، ينبغي أن تتحول إلى سياحة سبع نجوم، وينبغي أن يتحول السياسي من مناضل إلى سائح.
* كاتب عراقي