علاء اللامي *
ضاعفت الإدارة الأميركية جهودها في الأسابيع الأخيرة ومارست ضغوطاً متنوعة على حكومة المالكي حتى حسمت هذه أمرها وأقرت مشروع قانون النفط والغاز الجديد، وأحالته على مجلس النواب للمصادقة عليه فيصبح قانوناً ساري المفعول. حكومة المالكي أبدت قدراً من الفطنة التكتيكية، فاستبقت الأحداث والمداولات حول القانون الذي كان مدار نقد وتفكيك جذريين من قبل الخبراء والسياسيين العراقيين ذوي التوجهات الاستقلالية والمناهضة للاحتلال، فأجرت عليه تعديلات مهمّة كي تسهّل عملية «تبليعه» لنوّاب المجلس. من ذلك مثلاً استبدالها لعبارة «عقود المشاركة في الإنتاج»، المفضوحة عالمياً، بعبارة أخرى تؤدي الغرض عينه ولكن بمفردات أخرى هي «عقود تطوير واستثمار حقول النفط والغاز». وحذفت الملاحق الأربعة التفصيلية الخاصة بالقانون وأحالتها كمهمات إدارية وتخطيطية على هيئة أخرى هي «المجلس الأعلى للنفط والغاز»، وهو هيئة قائمة على المحاصصة الطائفية والعرقية وغير منتخبة يراد عبرها الالتفاف على دور البرلمان!
لقد قيل الكثير عن سلبيات مشروع القانون موضع الحديث وثغراته، ومن أهم ما قيل:
ـــ إنّ هذا القانون صيغ على أساس مبدأ «المجازفة الاستثمارية» المأخوذ به في بلدان يصعب العثور فيها على خامات النفط والغاز لندرتها أو وعورتها الجغرافية، وليس في بلد أشبه بجزيرة تعوم على بحر من النفط كالعراق.
ـــــ إنّ القانون يمس مساً خطيراً بالسيادة الوطنية من خلال إعطاء حق الحجز والتصرف بالخامات والثروات الوطنية لآجال طويلة تبلغ 35 عاماً وأكثر، لشركات واحتكارات نفطية عالمية عملاقة.
ـــــ إنّ القانون يجعل «الشركة الوطنية للنفط»، التي لم يصدر قانون إنشائها حتى الآن، مساوية للشركات الأجنبية في القدرة التنافسية على أرض بلادها، ولا يمنحها أية أولوية في مقابل شركات أجنبية عملاقة ومتقدمة اقتصادياً وتكنولوجياً.
ـــــ إن نسب الأرباح التي ستحققها الشركات الأجنبية عالية جداً وتتجاوز 8.5 مليارات دولار سنوياً، بافتراض نسبة أرباح الشركات 10% فقط، وإنتاج عقود المشاركة 4 ملايين برميل يومياً بأسعار اليوم، أي حوالى 61 دولاراً للبرميل، كما أكد الخبير النفطي العراقي فؤاد الأمير.
ـــــ إن القانون يضع ثلثي الحقول النفطية العراقية ومكامن الغاز تحت تصرّف الشركات الأجنبية دفعة واحدة وبشروط مجحفة وخطيرة ومن دون مبرر اقتصادي حقيقي.
ـــــ إنّ هناك بدائل أخرى لعقود المشاركة في الإنتاج التي لا تطبّق إلا في 12% من العالم، ومنها ما يسمّى بعقود «الخدمات والتطوير»، وهذه البدائل رُفضت من دون تبرير مقنع.
الواقع أن الانتقادات والنقاط السلبية التي سجلت على مشروع القانون الذي كتب مسودته الأولى ثلاثة خبراء عراقيين معروفين (استقال منهم اثنان بعدما عُدّل المشروع جذرياً بما يتلاءم مع مطالب الإدارة الأميركية)، هي انتقادات وفيرة ودامغة الحجج. ولكننا سنتطرق بعجالة إلى السياق السياسي لهذه العملية الاستعمارية اللصوصية الكبرى، تاركين الشأن الاقتصادي والنفطي لذوي الاختصاص.
لم يأتِ مشروع القانون من فراغ، ولا كان مفاجأة عنَّت لبوش وإدارته، بل هو مشروع قديم ومدروس جيداً طرحت خطوطه الأولى قبل حرب احتلال العراق. فقد كتب الخبير النفطي العراقي كمال القيسي أخيراً: «عام 2002، عقدت سلسلة من الاجتماعات بين الشركات النفطية الأميركية وإدارة بوش، صرح في أعقابها مدير الاستخبارات المركزية آنذاك، جيمس وولسي، قائلاً إن نفط ما بعد الحرب سيستخدم ورقة تفاوض لنيل دعم الفرنسيين والروس للحرب. أما بعد احتلال العراق وبالتحديد بعد شهرين من هذا الحدث أي في أيار 2003، فقد عقد اجتماع سري في لندن بين وزير خارجية أستراليا وممثلين عن الحكومة الأميركية حول وضع استراتيجية للسيطرة على حقل «الحلفاية» العراقي، ووزعت نماذج من عقود للاطلاع عليها. في عام 2004، أصدر المركز الدولي للضريبة والاستثمار المكون من 110 شركات عالمية نفطية عملاقة، تقريره «النفط ومستقبل العراق» الذي أوصى بالاستثمار الأجنبي المباشر في الاقتصاد العراقي والأخذ بعقود مشاركة الإنتاج في القطاع النفطي نظراً إلى كونها تمثل النموذج القانوني والمالي!» (مأخوذ عن موقع «البديل العراقي» 18 تموز 2007).
سياسياً أيضاً، لا بدّ من تسجيل أن الإدارة الأميركية، ومن طريق إشرافها على ما يسمّى بالعملية السياسية في ظل احتلال العراق، تمكّنت من تحشيد وتوريط قوى سياسية لا يستهان بعدد مقاعدها في مجلس النواب ستصوّت لمصلحة المشروع، أو أنّها، في أسوأ الأحوال، ستضمن النصاب القانوني لتمريره، إذا حدثت مقاطعة من قبل القوى الاستقلالية.
إنّ من الخطورة بمكان الركون إلى احتمال هزيمة المشروع أثناء التصويت. فبالإضافة إلى الحيل البرلمانية المعتادة، ومنطق الصفقات مع الكتل الرئيسية التي ربطتها الإدارة الأميركية بروابط مصلحية كبيرة، هناك الوضع السياسي الهش والسيّال، والعنف الأعمى الذي يجتاح البلد. وثمة أيضاً الخطط السرية التي لم تتكشف بعد والتي ستلجأ إليها الإدارة الأميركية لتمرير القانون.
وهمٌ خطيرٌ آخر لا بدّ من عرضه، وهو التحجّج بكون العراق بلداً محتلاً، وأنّ ما يصدر من قوانين فيه ستذهب بذهاب الاحتلال، غير إنّ مجرد تشريع القانون والمصادقة عليه من قبل مجلس النواب الحالي، والتوقيع على عقود الاستثمار بموجبه، يعني كارثة كبرى لا يمكن العراق الخلاص منها حتى برحيل الاحتلال أو تغير النظام القائم، ولنا مثال قريب في قضية حقول «غرب القرنة» في العراق نفسه: لقد سبق لنظام صدّام حسين أن عقد اتفاقيّتين من نوع «عقود المشاركة في الإنتاج» مع روسيا والصين بهدف دفع البلدين لكسر الحصار المضروب على العراق، وحين فشلت الخطة، وتراجع نظام صدام وألغى الاتفاقيّتين، رفضت روسيا الإلغاء وما زالت تطالب بحقّ استثمارها للحقول المذكورة في الهيئات القانونية الدولية. وليس من المستبعد أن تكسب القضية، كما يقول الخبراء، لأن القانون الدولي لا يعتدّ كثيراً بحجّة تغيّر طبيعة الأنظمة القائمة.
وهكذا أمام العراقيين خيار واحد لا غير، وهو وأد مشروع القانون وعدم السماح بتمريره ولا حتى بمناقشته في مجلس النواب ما بقي الاحتلال، وأي خيار آخر سيكون مخاطرة جسيمة ولعباً بمستقبل العراق وثرواته الوطنية ومستقبل شعبه.
* كاتب عراقي