للفلسطينيين سبب آخر للقلق والخوف والتوجّس يضاف إلى الواقع السيّئ والرديء الذي يعيشونه سواء في الداخل أو في الشتات، فقد أعلن تنظيم «القاعدة» وجوده رسمياً في ساحة الصراع الأساسية مع إسرائيل، أي في الداخل الفلسطيني، الأمر الذي يثير العديد من الأسئلة وعلامات الاستفهام، فهل كان من المفاجئ والغريب أن تصل «القاعدة» إلى فلسطين المحتلة أم كان الأمر حتمياً وربما حتى متأخراً بعض الشيء في ظل الأجواء القاعدية التي سادت فلسطين ـ خلال الأعوام القليلة الماضية؟ وما العلاقة بين المشروع الوطني الفلسطيني ووصول القاعدة إلى فلسطين؟ وهل صحيح أن مجرد وصول هذه يعني حتماً ضعف هذا المشروع وترهّله على اعتبار أن «القاعدة» تعيش وتقتات على شظايا الوحدة وانكسار أو غياب الحد الأدنى من التوافق على المشروع الوطني؟
فلسطين في حسابات «القاعدة»
عبد الستار قاسم *

الوضع الأمني والاقتصادي في فلسطين مهيّأ تماماً لاستقبال تنظيمات غير تلك الموجودة في الساحة الفلسطينية، ذلك لأن تجربة التنظيمات الفلسطينية لا تعطي أملاً كبيراً لعدد لا بأس به من الفلسطينيين. كثر هم الفلسطينيون الذين يرون في التنظيمات الفلسطينية القائمة حالياً غير فاعلة وقاصرة عن تحقيق الأهداف المعلنة مثل عودة اللاجئين وإقامة الدولة الفلسطينية المستقلة، وتتعزز هذه الرؤية عندما تتم مقارنة أعمال هذه التنظيمات بتنظيمات أخرى مثل حزب الله والقاعدة.
هناك انطباع قوي وشبه شامل لدى الفلسطينيين بأن حزب الله يمثّل النموذج الثوري الحقيقي على الساحة العربية، وأنه يختلف في تركيبته وتنظيمه وأدائه ووسائله عن الفصائل الفلسطينية. وهناك من الفلسطينيين من يرى في تنظيم القاعدة معبّراً عن الأسلوب الصحيح الذي يجب اتباعه في مواجهة أهل الغرب الذين، وفق أغلب الفلسطينيين، يذيقون الأمة كأس الذل والهوان. من بين الفلسطينيين من يرغب في نسخ تجربة حزب الله، أو أن يصبح عضواً في تنظيم يقيمه حزب الله، ومنهم من يرى أن طريقة المواجهة التي تتّبعها القاعدة هي الأمثل.
  • فلسطين في فكر القاعدة
    تعتبر القاعدة فلسطين ساحة قتال رئيسية يجب العمل فيها مباشرة ضد الكيان الصهيوني. تعتبر القاعدة إسرائيل كياناً مصطنعاً وغازياً إحلالياً يحتل أرض المسلمين، ويسيطر على مقدسات إسلامية، وعلى مسرى الرسول محمد عليه الصلاة والسلام، وعلى أولى القبلتين وثالث الحرمين. ترى القاعدة أنه يجب مقاتلة إسرائيل بهدف إزالتها نهائياً وطرد اليهود من فلسطين، ورؤيتها في ذلك لا تستند فقط إلى استعادة الحقوق، بل بشكل رئيسي إلى قاعدة شرعية توجب على المسلمين القتال من أجل دحر الذين يقاتلون المسلمين ويطردونهم من ديارهم ويظاهرون على طردهم.
    لا تعترف القاعدة بتجزئة العالم الإسلامي، وهي بالتالي تنظر إلى فلسطين كقطعة جغرافية من ولاية الشام، ولا تنظر إليها كوحدة سياسية يجب أن تتحول إلى دولة مستقلة. فلسطين بالنسبة إليها عبارة عن أرض إسلامية لا أرض فلسطينية، ولا يملك الفلسطينيون حق التنازل عنها أو عن أي جزء منها. هذا ينطبق أيضاً على العرب الذين لا حق لهم، حتى لو أجمعوا، في التنازل عن فلسطين أو عن أي جزء منها.
  • القاعدة ضد الاتفاقات
    تقول القاعدة بأنها تشن هجماتها ضد الذين يذلّون الأمة الإسلامية وينتهكون حرماتها وينهبون ثرواتها ويقتلون أبناءها وعلى رأسهم الولايات المتحدة. أميركا، بالنسبة إلى القاعدة، هي رأس الأفعى، وهي التي تستأجر الحكام العرب، وهي التي تقدم كل الدعم لإسرائيل، وإذا ضعفت فإن الحكومات العربية ستضعف، وكذلك إسرائيل. إسرائيل هي حليفة الأنظمة العربية، والطرفان يعملان على تطويع المسلمين لخدمة مصالح الغير.
    تقف القاعدة ضد اتفاق أوسلو على اعتبار أنه تنازل عن المقدسات واعتراف بكيان غير شرعي، وتقول بأنه وما تمخض عنه من اتفاقات حرام شرعاً ولا يجوز لمسلم أن يقبله أو يتعامل معه بإيجابية. اتفاق أوسلو، بالنسبة إلى القاعدة، لا يمكن تشبيهه بصلح الحديبية لأن ما يقوم به رسول بوحي من الله لا يمكن أن يؤتى به لتشبيهه بأعمال البشر الاجتهادية، ولا يمكن تشبيه ياسر عرفات بالرسول محمد عليه السلام، ولا المفاوضين الفلسطينيين بالصحابة الأجلّاء.
    القاعدة ليست رومانسية في ما يتعلق بالذين فاوضوا إسرائيل ووقّعوا معها الاتفاقات، وهي ترى أنهم غارقون في الخيانة حتى آذانهم. هي لا تحسن الظن بالمفاوضين الفلسطينيين والموقّعين، وترى أنهم أصحاب ارتباطات قديمة مع أميركا ومع إسرائيل ودول غربية، وأنهم كانوا من أصحاب الحظوة لدى أهل الغرب في الفترات التي سبقت مؤتمر مدريد. هي ترى أن عدداً من المفاوضين يحملون جنسيات غربية، وبعضهم الآخر كان يحصل على تسهيلات تجارية وامتيازات مالية ودعم إعلامي من الغرب ومن إسرائيل، أي أن هؤلاء كانوا ينتظرون لحظات ضعف الفلسطينيين والمسلمين عموماً من أجل تنفيذ برامجهم التي تصبّ في مصلحة إسرائيل. وقد نبّهت القاعدة مراراً شفاهةً وكتابةً عبر خطابات قادتها المعدّة مسبقاً، وعبر مواقعها على الإنترنت إلى خطورة ما يقوم به المفاوضون الفلسطينيون، واعتبرتهم هم أنفسهم خطراً على القضية الفلسطينية.
  • الدخول إلى فلسطين
    لهذا حاولت القاعدة أن تدخل فلسطين، وبالتحديد الضفة الغربية وغزة، وأن تقيم فيها امتداداً تنظيمياً. لا بد من أنها تتصل بفلسطينيين من هنا وهناك عبر وسائل مختلفة عسى أن تجد من بينهم من يحمل معها عبء التنظيم والقيام بعمليات عسكرية ضد أهداف صهيونية. وهي لا بد تحاول أن تتصل بأناس من الأرض المحتلة/1948 لتكون أكثر قدرة على المناورة والتجهيز والتنفيذ. تقديري أنها تبحث وتتفحّص وتقوّم، وأظن أن تركيزها على الفلسطينيين في الأردن أكثر من تركيزها على الموجودين داخل فلسطين، وذلك بسبب سهولة الاتصال.
    سمعنا عبر وسائل الإعلام أن إسرائيل اكتشفت خلايا تابعة للقاعدة في فلسطين سواء في أراضي 48 أو 67، لكننا لم نسمع تفاصيل. هناك أقوال بأن بعض عناصر تنظيم القاعدة قد قُبض عليهم من قبل أجهزة الأمن الصهيونية، وحوكموا وحُكم عليهم بالسجن، لكن لا يوجد وضوح حتى الآن في هذه المسألة، ولم يتسنَّ لنا التحدث مع محامين اطلعوا على إفادات المعتقلين. على الرغم من ذلك، محاولات القاعدة ستستمر، وأرى أنها ستنجح في النهاية.
    مشكلة القاعدة الأساسية في التنظيم، التي هي مشكلة حزب الله أيضاً، تكمن في التراث التنظيمي الفلسطيني المهلهل. اعتاد التنظيم الفلسطيني أن يكون علنياً، وأن يناضل عبر شاشات التلفاز ووسائل الإعلام، وهي عادة مكّنت إسرائيل من التعرف بأسرار التنظيمات الفلسطينية، ومن القبض على العديد من الخلايا وتفكيكها وسجن أعضائها. في فلسطين، كثير من الناس يُنظّموا عبر الهاتف أو جهاز الفاكس أو الإنترنت التي تخضع جميعها للرقابة الإسرائيلية. فمثلاً، قُبض على خلية بنابلس قيل إنها تابعة لحزب الله لأن أعضاءها كانوا يسيّرون أعمالهم التنظيمية من خلال الهاتف. وإذا كانت خلايا للقاعدة قد فُكّكت وقُبض على أعضائها فذلك بسبب غياب الحرص الأمني.
  • خصوبة الأرض
    الأرضية خصبة في فلسطين لتنظيم القاعدة لأن هناك من بين المتديّنين وغير المتديّنين الذين يؤمنون بأن منهج القاعدة هو المنهج الوحيد والصحيح للقضاء على إسرائيل ولمواجهة الهيمنة الأميركية. وعلى الرغم من الحملات الشديدة التي تشنّها جهات متعددة ضد القاعدة، إلا أن العديد من الناس يجهرون بتأييدهم لها، ويعبّرون عن استعدادهم للانخراط في صفوفها. بتقديري أن هذا ناجم من أمرين: أولهما هو أن التنظيم يلبّي تطلعات بعض الناس ويعبّر عن فلسفتهم في المواجهة، وثانيهما أن التنظيم يشفي غليل بعض الناس أحياناًَ، وخاصة عندما يضرب مصالح غربية.
    تقديري أن تنظيم القاعدة سينجح في النهاية في تشكيل خلايا في فلسطين، إن لم يكن مباشرة عبر الاتصال المباشر مع القيادة، فبصورة غير مباشرة تُستلهم من طريقة عمل القاعدة في بلدان عدة، أي بصورة غير مركزية. وإذا نجح في ذلك فإنه سيستهدف إسرائيل ما أمكن، والقيادات الفلسطينية التي تقيم علاقات معها. من المتوقع أن يكون رموز أوسلو وقادة الأجهزة الأمنية، وقادة الفصائل الممالئة لأوسلو أهدافاً. ولن تكون المواقع الأجنبية مثل القنصليات ومراكز البحث والترويج للثقافة والفكر الغربيين خارج دائرة الاستهداف. على كل حال، تنظيم القاعدة يتمدد في مختلف أنحاء الوطن العربي، ولن تكون فلسطين الحلقة الأخيرة في تمدده.
    * كاتب فلسطيني


    نتيجة طبيعية لواقع رديء ومهترئ
    ماجد عزام *

    «تم بحمد الله تشكيل مجموعة الجيش الإسلامي التابع لتنظيم القاعدة في أرض الرباط ضد الاحتلال الغاصب وعبّاد الصليب، تلبية لله ولكلام الشيخ المجاهد أسامة بن لادن والشيخ أيمن الظواهري والشيخ المجاهد أبي مصعب الزرقاوي، سنستهدف كل عدو للإسلام والمسلمين وسنضرب بيد من حديد كل الحملات الصليبية الأميركية والصهيونية ونفجّر بأجسادنا كل مواقعهم ونزلزل الأرض من تحت أقدامهم وسنعرض على شاشات التلفاز صوراً لمجموعاتنا المقاتلة حتى يعرف أعداؤنا أننا لا نتهاون وأننا جدّيون بأفعالنا».
    هكذا تم الإعلان الرسمي بوصول القاعدة إلى فلسطين، وتحديداً إلى قطاع غزة، عبر تأسيس مجموعة عسكرية تابعة مباشرة للقاعدة تأتمر بأمرها، في بيان التأسيس الذي صدر في الثامن من أيار 2006، ولم يتم التعاطي معه بجدية واهتمام. ومنذ عام ونصف عام، سادت في فلسطين، وتحديداً في غزة، أجواء قاعدية بامتياز إلى أن أُعلن الشهر الماضي جيش الإسلام أو كتائب التوحيد والجهاد ذراعاً للقاعدة عبر تبنّي خطف الصحافي البريطاني آلان جونستون ووضع لائحة طويلة عريضة من المطالب والشروط لإطلاقه تتضمن إطلاق سراح أبي قتادة الفلسطيني ــ أحد منظّري القاعدة ــ المعتقل في لندن، وكذلك إطلاق سراح المواطنة العراقية ساجدة الرشادي المتهمة بمحاولة تنفيذ عملية انتحارية في أحد فنادق عمان، وتتضمن القائمة المطالبة بإطلاق سراح المعتقلين في سجون الاحتلال الأميركي والبريطاني في العراق وغوانتانامو من دون أي تطرق أو إشارة إلى القضايا والملفات الوطنية المتعلقة بالشعب الفلسطيني وقضيته العادلة.
    يجب أن لا نستغرب وصول القاعدة إلى فلسطين حيث إن الأمر كان مسألة وقت فقط أو ربما حدث أخيراً بعض الشيء وفق أحد الاجتهادات ووجهات النظر. ومنطقياً ومنهجياً وفي السياق العام فإن وجود أو وصول القاعدة إلى أي بقعة من العالمين العربي والإسلامي يبدو أمراً حتمياً في ظل الواقع الرديء والمهترئ والمتضمن تسلطاً واستبداداً سياسياً وأزمة اقتصادية واجتماعية وتبعية للخارج، وخاصة للولايات المتحدة، وعجزاً عن الوقوف في وجهها لا بل التساوق مع الخطوط والمشاريع التي أراد مجانين الإدارة الأميركية تسويقها بل فرضها بالقوة على المنطقة، وقبل كل ذلك، حرباً لا تلين على التيار الإسلامي المعتدل ودفعه إلى الزاوية ومنعه من ممارسة أدنى حقوقه السياسية والدستورية، وباختصار من حاصر وعزل وأضعف الإخوان المسلمين بصفتهم التيار الأبرز في الشارعين العربي والإسلامي حصل في النهاية على القاعدة، وفي أسوأ الأحوال وفي أحسنها على شعب محبط يائس لا يجد غير العنف وسيلة لتفجير الغضب واليأس والإحباط والقنوط.
    هذا في الشأن العربي الإسلامي العام، أما الأمر في فلسطين فيبدو مختلفاً بعض الشيء في ظل انخراط فئات المجتمع المختلفة وطبقاته في الصراع مع إسرائيل وفي المقاومة بأشكالها المختلفة تحت راية أو لافتة المشروع الوطني الفلسطيني الذي يتحدث في حده الأدنى عن إقامة دولة فلسطينية عاصمتها القدس في الأراضي المحتلة عام 1967، وعن حل عادل لقضية اللاجئين الفلسطينيين وفق القرار 194 الصادر عن الجمعية العامة للأمم المتحدة.
    نظرياً يمكن القول إن الأجواء القاعدية بدأت في التشكّل خلال العامين السابقين فقط، وهي، أي الأجواء، تناسبت عكسياً مع مناعة المشروع الوطني الفلسطيني والوحدة الوطنية الفلسطينية وقوتهما ومتانتهما وصلابتهما، ولذلك لم يكن صدفة أبداً الإعلان بوجود القاعدة كأمر واقع وتنظيم على الأرض في ذروة الاقتتال الداخلي الفلسطيني الذي أضعف المشروع الوطني، وللأسف الشديد قد يكون قتله من الناحية السريرية، والأمر منوط فقط بالإعلان الرسمي بوفاة المشروع الذي سيترافق حتماً مع تحول القاعدة إلى التنظيم الأكبر في قطاع غزة.
    بتفصيل أكثر وبتحديد أدق للأسباب التي أدت إلى تشكل الأجواء القاعدية في غزة وصولاً إلى الإعلان الرسمي بوجود التنظيم هناك، يمكن الإشارة إلى الهدنة أو التهدئة التي أعلنتها فصائل المقاومة مع جيش الاحتلال الاسرائيلي بداية عام 2005 واستمرت صامدة حتى نهاية العام نفسه، على رغم الخروق الاسرائيلية والردود عليها، وخاصة من طرف الجهاد الإسلامي وكتائب شهداء الأقصى، وعلى رغم أن حركة المقاومة الإسلامية حماس لم تعلن إنهاء الهدنة إلا منتصف عام 2006 عندما نفذت عملية أسر الجندي جلعاد شاليت بالتعاون مع جيش الإسلام، ثم سرعان ما عادت إلى التهدئة في تشرين الثاني من العام عينه قبل أن تعلن انهيارها إبان الأسبوع الماضي مع استعداد للعودة إليها من جديد شرط أن تكون شاملة وضمن سلة متكاملة سياسية وأمنية.
    عندما حدثت التهدئة لم ينظر إليها قادة الأجنحة العسكرية للفصائل وكوادرها بارتياح، وفي ظل استمرار الجهاد الإسلامي وكتائب الأقصى في الرد على الخروق الاسرائيلية، ظهرت المشاكل داخل الجهاز العسكري لحماس على رغم انضباط الجهاز وخضوعه التام للجناح السياسي، وازداد الأمر سوءاً بعد الانتخابات التشريعية التي أدت إلى وصول حماس للسلطة وتشكيل حكومتها الأولى، الأمر الذي كبّل عملياً أيدي الجناح العسكري للحركة وأُجبرت أطراف أو عناصر غير منضبطة فيه إلى التعاون مع عناصر مستقلة للقيام بفعاليات وأنشطة مقاومة للاحتلال الإسرائيلي، غير أن القتال الدامي بين فتح وحماس وحاجة العناصر المستقلة إلى خطاب إسلامي جهادي وخلفية فكرية وإيديولوجية لخطابها، دفع هذه العناصر في مرحلة أولى في اتجاه القاعدة عبر خطابها قبل أن تتطور طرق التواصل وآلية العلاقات لتصل إلى درجة الإعلان الرسمي بذراع أو جسم تنظيمي للقاعدة في فلسطين.
    إلى ذلك، يمكن الإشارة إلى الحصار القاسي الذي تعرض له الشعب الفلسطيني وما زال منذ وصول حركة حماس إلى السلطة غداة الانتخابات التشريعية التي أُجريت مطلع عام 2006، الحصار الذي كان محصلة للاصطفاف الدولي خلف المواقف الأميركية والإسرائيلية من حماس وحكومتها ومنهجها، ما أدى إلى تزايد حدة النقاش في وجود حماس في السلطة وتطرف الأفكار المطروحة إلى درجة التفكير في حلّ السلطة وهدم المعبد على رؤوس الجميع، وهذا التطرف بالتأكيد أوصل البعض إلى الاقتناع بأن القاعدة ومنهجها وخطها هي السبيل الأمثل للرد على جريمة تجويع الشعب الفلسطيني وإذلاله لمعاقبته على خياره الديموقراطي وتصويته لمصلحة حماس وخيار المقاومة في الانتخابات التشريعية.
    كذلك لا يمكن تجاهل حقيقة أن الظهور الرسمي للقاعدة في فلسطين هو محصلة طبيعية لغياب الخيار أو الطريق الثالث أو البديل لثنائية حماس ــ فتح والاستقطاب الحاد بينهما الذي وصل إلى الاقتتال الداخلي حتى درجة أو وتيرة منخفضة من الحرب الأهلية.
    وبالتأكيد فإن الخيار أو الطريق الثالث الذي يحتمي بالمشروع الوطني وخطوطه العريضة ويُقنع الشارع الفلسطيني بصدقيته وجدّيته وجدواه قادر على ملء الفراغ الذي تجتهد القاعدة الآن لاحتلاله.
    وفي هذا السياق يمكن الإشارة إلى الفوضى وحالة الفلتان الأمني الواسعة في الشارع كبيئة مناسبة للقاعدة للانطلاق والعمل وتعزيز أوضاعها التنظيمية والميدانية، وليس أدل على ذلك من عدم وصول القاعدة حتى الآن إلى الضفة الغربية، حيث إن الأسباب التي حالت دون انتقال الفوضى والفلتان والاقتتال إلى الضفة الغربية هي نفسها التي تحول دون انتقال القاعدة إلى هناك ويأتي على رأسها وجود الاحتلال الاسرائيلي في الضفة بشكل مباشر، ناهيك بغياب العسكرة عن المجتمع الفلسطيني في الضفة، والأمر نفسه انعكاس أو ترجمة لوجود منظمات مجتمع مدني قوية ومتماسكة في الضفة ما زالت تضع على رأس أولوياتها مقاومة دائمة وإبداعية للاحتلال، وأحد أبرز تجلّياتها التظاهرة الأسبوعية في قرية بلعين ضد الجدار الفاصل التي تحولت إلى عنوان لمقاومة الشعب الفلسطيني وصموده في الضفة الغربية.
    أخيراً يمكن الإجمال بأن الأجواء التي أدت إلى الظاهرة القاعدية نفسها في العالم العربي تكاد تتكرر أو تُستنبط في فلسطين بسبب تراكم الفساد والاستبداد والجمود الفكري والسياسي مع حصار وعزل وحتى خنق حماس وحكومتها حتى لو كان الثمن محاصرة شعب بكامله وتجويعه وإذلاله، وفي النهاية المعادلة هي نفسها: «من لم يرد الإخوان وحماس حصل في النهاية على القاعدة».
    للأسف الشديد، وجود القاعدة في غزة ما زال في بداياته والأمر مرشح للتصعيد، إذ حسب استطلاع قام به مركز الأبحاث التابع لجامعة النجاح في نابلس ونشر في 22 أيار 2007، فإن 82% من الفلسطينيين متشائمون من الوضع العام في هذه المرحلة، و92% لا يأمنون على أنفسهم وأملاكهم، و79% يعتبرون أن وضعهم الاقتصادي قد تطور نحو الأسوأ، و82% يعتقدون أن الأوضاع الأمنية تطورت نحو الأسوأ، وكل هذه الأمور هي قطعاً وحتماً أجواء مؤاتية للقاعدة لمزيد من الانتشار والصعود، وسيكون الضحية المشروع الوطني الفلسطيني بكامله، وستجد قوى المقاومة الفلسطينية نفسها، كما نظيرتها في العراق، في مواجهة نار الاحتلال من الأمام ونار القاعدة من الخلف إذا لم يتم التحرك بمسؤولية ووعي وجدية على مستويات مختلفة سياسية وفكرية واقتصادية وثقافية واجتماعية. وأما أن هذا الأمر مستبعد حدوثه في ظل الواقع الراهن المهترئ والرديء، فإن أياماً سوداء تنتظرنا جميعاً والرابح الأبرز يتمثل في إسرائيل التي كانت وما زالت تحلم بحرب أهلية فلسطينية معلنة أو مستترة تزيح القضية الفلسطينية من جدول الأعمال العربي والدولي وتريحها في الوقت نفسه من دفع أثمان الاحتلال ومصادرة حقوق وثروات الشعب الفلسطيني ونهبها.
    * مدير مركز شرق المتوسط للصحافة والإعلام


    تصادم مع الخصوصية الفلسطينية
    علي بدوان *

    أثارت بعض البيانات المذيّلة بتوقيع تنظيم القاعدة في فلسطين، التي وُزّعت بشكل محدود في قطاع غزة منذ أعوام ثلاثة مضت، مجموعة من التساؤلات عن مدى الحديث الجدّي عن وجود تنظيم للقاعدة في فلسطين كما كانت وما زالت تروّج المصادر الأمنية الإسرائيلية. وما ساعد على الحديث عن وجود القاعدة في فلسطين هو التطور العنكبوتي في انتشارها في بعض البلدان العربية كالعراق وبلدان الخليج وشمال إفريقيا. وفي حقيقة الأمر أن خصوصية الساحة الفلسطينية وفرادتها قد أفرزتا معطيات غير شبيهة بالمعطيات التي وفرت التربة المناسبة لانتشار خيوط التنظيم القاعدي في العديد من البلدان، حيث بات الإسلام الوسطي المعتدل جزءاً من المعادلة السياسية والكفاحية الفلسطينية في إطارات العمل الوطني الفلسطيني، وفي الشارع الشعبي عموماً.
    فمع انطلاقة الثورة الفلسطينية المعاصرة عام 1965، وجدت حركة الإسلام السياسي متسعاً لها في صفوف حركة فتح، وخاصة إذا علمنا بأن غالبية القيادات الفتحاوية هي إخوانية الجذور. ففي البداية شكلت حركة «فتح» بيئة عمل لإسلاميين فلسطينيين لم تعبّر حركة الإخوان المسلمين عن طموحاتهم إلى الانخراط في العمل العسكري. على هذا النحو التحق عبد الله عزام بحركة «فتح» قبل عام 1970 وأنشأ ما سمي في الأردن «معسكر الشيوخ» الذي ضم عدداً من المشايخ الفلسطينيين الذين لم تفسح لهم حركة الإخوان المسلمين أي عمل عسكري. ولكن ما لبثت التجربة الإخوانية أن انتكست في حركة فتح، فانسحب قادتها، ومنهم الشيخ عبد الله عزام الذي أدّى دوراً كبيراً في وقت لاحق، حيث كانت الحالة الأبرز التي هيّأت لانطلاق ظاهرة الأفغان العرب أواسط ثمانينيات القرن الماضي. فقد أسس «بيت الأنصار» في مدينة بيشاور الباكستانية، الذي يعتبر النواة الفعلية لـ«تنظيم القاعدة» ومن حينها ترك عبد الله عزام تأثيراً كبيراً وسط مجموعات ليست بالضيقة من الشباب الفلسطينيين الذين انخرطوا في صفوف مجموعات «الأفغان العرب»، ومن ثم تحولت غالبيتهم الى صفوف طالبان والقاعدة، بينما تواتر ظهور أفراد منهم من العائدين الى فلسطين أو الى المخيمات الفلسطينية في الأردن على وجه التحديد على شكل تجمعات أطلقت على نفسها أسماء متعددة، منها «كتائب التوحيد»، و«الجماعة السلفية»، و«كتائب سيوف الحق الإسلامية»، التي نشطت في أعمال قالت إنها تصبّ في خدمة الشريعة، وتهيّئ أسباب الجهاد.
    وفي الواقع العملي أن بوادر ظهور مجموعات تناسلت أو جاءت من رحم تنظيم القاعدة في الأراضي الفلسطينية المحتلة، بدأت من قطاع غزة، وجاءت في سياق التفاعلات والتحولات التي طرأت على الأوضاع الفلسطينية بعد عامين ونيف من انطلاقة الانتفاضة الثانية، وظهر الإعلان الأول بوجود مجموعات منه في الثاني من آب 2007، من خلال بيان عمليات عسكري تحدث عن قيام مجموعة من مقاتلي تنظيم «القاعدة» في فلسطين بقصف مستعمرتيْ نافيه دكاليم وجاني طال اللتين كانتا مقامتين في قطاع غزة قبل تفكيك مستعمرات القطاع والانسحاب الاسرائيلي منها، مع إعلانات وأفلام تبشّر ببدء نشاط تنظيم كتائب الجهاد في فلسطين «تنظيم قاعدة فلسطين».
    وفي حينها تلا البيان الأول لتنظيم القاعدة في فلسطين إعلانها مسؤوليتها عن محاولة اغتيال رئيس الاستخبارات الفلسطينية طارق أبو رجب شنيورة، وتهديدها باستهداف شخصيات فلسطينية أخرى، مستندة الى منطق التكفير الذي دأبت القاعدة على تعميمه، إذ قالت في بيانها الثاني «إننا في تنظيم قاعدة الجهاد ــ ولاية فلسطين ــ نعلن المسؤولية الكاملة عن هذه العملية التي تثبت للجميع تمكّننا من الوصول إلى رأس الكفر... إخوانكم في تنظيم قاعدة الجهاد في فلسطين تمكّنوا من الوصول إلى مقر عمل المرتدّ عن دين الإسلام طارق أبو رجب شنيورة...».
    وتبع بيانيْها الأول والثاني، تواتر الأنباء عن إنشاء تنظيم للقاعدة في فلسطين، وقيام وسائل الإعلام وأجهزة الأمن الإسرائيلية بالترويج للمعلومات غير الدقيقة المتعلقة بتضخيم وجود تنظيم القاعدة وانتشاره في قطاع غزة، وذلك لأسباب استخدامية باتت مفهومة في محاولة تشويه الكفاح الفلسطيني العادل وخلطه بالإرهاب، وإثارة الفزع الأصولي وتكرار مقولة «الإسلاموفوبيا» أمام العالم بأسره، وقبل يومين (14/5/2007) نشرت صحيفة «معاريف» الإسرائيلية خبراً فحواه أن المؤسسة الأمنية الإسرائيلية ووزارة البنية التحتية ستشرعان خلال الأشهر المقبلة بتحصين منشآت الطاقة الإسرائيلية وزيادة مصادر الغاز والنفط وتنويعها، وذلك في أعقاب تحذير استخباري عام من نية تنظيم القاعدة استهداف منشآت النفط والغاز في الشرق الأوسط بشكل عام وتلك التي تؤثر في إسرائيل بشكل خاص، الأمر الذي قد يلحق ضرراً كارثياً بالاقتصاد الإسرائيلي.
    في هذا السياق، يُلحظ أن ظاهرة انتشار تنظيم القاعدة في فلسطين ما زالت متواضعة ومحدودة جداً، وتتركز في قطاع غزة أكثر منه في الضفة الغربية نظراً إلى طبيعة البيئة الغزّاوية والظروف المعيشية القاسية، التي تساعد على نمو روح التطرف ليس فقط عند مجموعات إسلامية بل عند عموم المشارب الفكرية، إضافة الى إسهام ظروف القمع والكبت ومصادرة الحريات من المجتمع المحيط بالشباب في تنامي هذه الظاهرة، الأمر الذي يولّد قابلية متزايدة لدى بعض الشباب لتبنّي الفكر المتطرف مهما كان مصدره الأيديولوجي. وعليه فإن الاتجاهات المتطرفة بما فيها نواة أو مجموعة القاعدة المحدودة في غزة تعتبر المجتمع فاسداً، وتدعو لتغيير طبيعته باستخدام مختلف الوسائل بما فيها العنف، عبر ممارسة بعض الأعمال في ظل غياب القانون والانفلات الأمني المستشري في الأراضي الفلسطينية. وما ساعد هذه الاتجاهات هو ما وصفه البعض بحالة العزلة القائمة بين الشباب والعلماء وأصحاب الخبرة، التي تتيح الفرصة للتفكير المتطرف، بحيث وقعت الحركة الإسلامية من وجهة نظر البعض في «فخ عدم تهيئة الشباب وأنصارها للتحولات التي جرت، فاعتقدوا أن الحركة الإسلامية ذهبت في اتجاه مغاير».
    فضلاً عن ذلك، فإن الاتجاهات المحدودة الفعل والتأثير المشار إليها، تنطلق في عملها أيضاً من الأوضاع الاقتصادية والاجتماعية المتردّية، التي قد تدفع الشباب لتبنّي هذا الفكر المتشدد، وكذلك وجود منطق العنف الذي يتربّى عليه الشاب منذ صغره في المجتمع. على كل حال، فإن جزءاً كبيراًَ من أفكار المجموعات المتطرفة وثقافتها تُبنى عبر مواقع الإنترنت والمنتديات القريبة من فكر تنظيم القاعدة، والجماعات التكفيرية المنتشرة عبر حضورها على شاشة الشبكة العنكبوتية، وهي أفكار تقودهم في نهاية المطاف إلى انتهاج أسلوب الردّة والتكفير.
    ومع ذلك فإن الأجواء الفلسطينية عامة لا تساعد على نمو الظواهر ذات التطرف الفلسطيني وانتشارها فبقيت محدودة الانتشار والفعل، وذلك لأسباب كثيرة، منها أن الفلسطينيين ليسوا بحاجة إلى وصفات من الخارج، فالبيئة الفلسطينية في الداخل في ظل الظروف القاسية تحت الاحتلال والحصار والفاقة، وخصوصاً في قطاع غزة، قد تساعد على نمو اتجاهات التطرف، لكن هذه الاتجاهات تصطدم مرة جديدة بخصوصية الوضع الفلسطيني المثقل بالتجارب والآلام، والمشبع بالتعددية، والطامح إلى الديموقراطية الداخلية في سياق مشروعه الوطني المتواصل منذ عقود طويلة من الزمن.
    وفي هذا السياق، فإن ممارسات الاتجاهات المتطرفة، إن كانت محسوبة على تنظيم القاعدة أو غيره تسيء إلى المشروع الوطني الفلسطيني وتساعد على تشويه الكفاح التحرري الفلسطيني كما في الحادثة الأخيرة في اختطاف الصحافي البريطاني آلان جونستون مراسل هيئة الإذاعة البريطانية في قطاع غزة.فطيف المقاومة والعمل الوطني، بما فيه الإسلامي الجهادي في فلسطين، أوسع وأرسخ وأبقى من تيارات التطرف الإسلامي الأصولي، وأوسع من حصره بمجموعة متطرفة (موجودة/غير موجودة) وافدة عليه من الخارج. فالإسلام السياسي ومعه الإسلام الجهادي في فلسطين يمتلك من الحضور والفعالية والتجربة الواقعية ما يسد الطريق على قدوم أفكار إسلامية تكفيرية من خارج فلسطين. فبذور الفكر المتشدد موجودة في عقول بعض الفئات من الشباب الفلسطيني، إلا أن من الصعب عليها أن تجد مجالاً للتعبير عن نفسها في ظل انخراط حركتيْ حماس والجهاد الإسلامي في المقاومة العسكرية وغير العسكرية المباشرة للاحتلال الإسرائيلي، وكذلك فإن المجتمع الفلسطيني يتمتع بحالة ديموقراطية نسبية متقدمة على المجتمعات العربية والإسلامية، وبعيدة من الفكر الاستئصالي ومنابعه، ويرى دوماً في أن الصراع والتناقض الرئيسيين يفترض بهما أن يتوجها نحو الاحتلال الصهيوني لا غيره.
    * كاتب فلسطيني وعضو اتحاد الكتّاب العرب ــــ دمشق


    بين نفق التقزيم ومتاهة المبالغة!
    مأمون الحسيني *

    تثير الأنباء التي تتداولها وسائل الإعلام، بين حين وآخر، حول ظهور مؤشرات لوجود خلايا تابعة لتنظيم «القاعدة»، أو قريبة منه، أو تحمل فكره الذي بات بضاعة عالمية، في فلسطين، ولا سيما عند حدوث عمليات «من طراز خاص» كاغتيال بعض الشخصيات الأمنية، أو خطف أجانب، أو استهداف أماكن تجارية وعامة وإحراقها، أسئلة جدية ومقلقة وخطرة، ليس فقط بسبب تماهي ذلك مع رغبة إسرائيل في استغلال هذا النوع من الأنباء، أو المؤشرات، لاستكمال مشروعها في تهويد ما بقي من مدينة القدس ومحيطها وإخراجها من دائرة التداول، واستكمال بناء جدار الفصل العنصري وضم الكتل الاستيطانية وغور الأردن، ووضع النتف الجغرافية الباقية في الضفة الغربية في بازار المقايضة في المستقبل، على إيقاع التصعيد العسكري، وتحت ظلال «الحق في محاربة الإرهاب»، بل أيضاً لأن الأراضي الفلسطينية المحتلة، وبالأخص قطاع غزة الذي يضم أكبر كثافة سكانية في العالم، تشكل تربة خصبة لانتشار أفكار «القاعدة» وشطحاتها نتيجة انسداد الأفق السياسي وارتفاع منسوب الإحباط من إمكانية تحقيق أية خطوة جدية على طريق التسوية، سواء وفق المبادرة العربية أو «خريطة الطريق» أو سواهما، وتعانق ذلك مع انهيار الأوضاع الأمنية وعودة «الإخوة الأعداء» في «حكومة الوحدة» (فتح وحماس) إلى فتح بوابات الاقتتال الداخلي وتحويل قطاع غزة إلى جحيم لا يطاق، وتواصل الحصار الاقتصادي والمالي الذي دفع الفلسطينيين إلى مربع الجوع الحقيقي، ناهيك بالإحباط واليأس الناجمين من محاولات إسرائيل والولايات المتحدة، ومن خلفهما ما يسمى «المجتمع الدولي» وبعض النظام العربي الرسمي، وأد التجربة الديموقراطية في فلسطين وعدم الاعتراف بنتائجها.
    هذه المؤشرات التي لم تقف عملية ترويجها على الاحتلال الإسرائيلي الذي اعتقل، قبل مدة، فتى في السابعة عشرة من العمر وطالباً جامعياً، وأعدّ لهما لوائح اتهام تتضمن الانتماء إلى تنظيم «القاعدة» والتخطيط لاستهداف مواقع إسرائيلية، بل تجاوزت ذلك إلى رئيس السلطة الفلسطينية محمود عباس الذي أدلى بتصريحات ضبابية غامضة مفادها أن «القاعدة» موجودة في فلسطين «فكرياً بشكل أساسي»، وكذلك إلى «مصادر أمنية أردنية» قدمت مجموعة من التنبّؤات والتحليلات والاستنتاجات في إطار حقائق حول وجود خلايا قاعدية هناك. هذه المؤشرات يمكن إجمالها برزمة معطيات أبرزها: ظهور شريط فيديو على بعض مواقع الإنترنت حول اغتيال اللواء في الأمن الفلسطيني جاد التايه، أظهر صوراً وأحاديث تعلن تبنّي ما سمي «تنظيم القاعدة في فلسطين» لعملية الاغتيال، توزيع بيان في قطاع غزة تتبنّى فيه «القاعدة» محاولة اغتيال مدير الاستخبارات العامة طارق أبو رجب، تأكيد مصادر أمنية فلسطينية وجود علاقة قوية ما بين الجماعة التي تخطف الصحافي البريطاني آلن جونستون منذ الثاني عشر من آذار الماضي (جيش الإسلام) وتنظيم القاعدة بدليل مطالبة هذه الجماعة بإطلاق سراح المدعو أبو قتادة، الذي يعتبر الأب الروحي لـ«القاعدة» في أوروبا، من السجون البريطانية، توزيع العديد من البيانات المثقلة بفكر «القاعدة» في قطاع غزة، التي حملت أسماء تنظيمات مجهولة مثل «سيوف الحق الإسلامية» و«كتائب التوحيد» و«الجماعة السلفية» وسواها.
    ومع أن ثمة شكوكاً كبيرة في صحة المزاعم التي تسعى إلى تكريس المخاوف المتعلقة بتسلل «القاعدة» إلى فلسطين، انطلاقاً من الوضع الخاص للأراضي الفلسطينية التي تقع تحت الاحتلال، وعدم وجود مكان للعنوان العريض الذي ترفعه «القاعدة»: إحياء فريضة الجهاد، لكون الفلسطينيين أصحاب الجهاد والكفاح بامتياز، إضافة إلى انتفاء ذريعة السعي إلى مقاومة «حكومة تدّعي الإسلام وهي كافرة» بسبب هيمنة الاحتلال على كل شيء في فلسطين، إلا أن هناك من يذهب إلى أن القضية الفلسطينية شكلت أحد أهم محاور خطاب «القاعدة» السياسي منذ إعلان تشكيل ما يسمى «الجبهة العالمية لقتال اليهود والصليبيين» عام 1998، وأن هذا الاهتمام عبّر عن نفسه من خلال العملية التي نفّذها التنظيم في مدينة مومباسا الكينية في 28 تشرين الثاني 2002 ضد سياح إسرائيليين، وذهب ضحيتها نحو 150 قتيلاً.
    وللتدليل على اهتمام السلفيين الجهاديين بالقضية الفلسطينية، يذكّر أصحاب هذه الوجهة بقيام «الإخوان المسلمين»، عقب هزيمة 1967، بإنشاء معسكرات خاصة في غور الأردن عُرفت باسم «معسكرات الشيوخ»، كان أبرز رموزها الشيخ الفلسطيني عبد الله عزام الذي يعتبر الأب الروحي لتنظيم «القاعدة» وزعيمها أسامة بن لادن، ويذكّرون بتجربة الدكتور صالح سرية في تأسيس حركة جهادية إسلامية لتحرير فلسطين، وبأطروحاته الفكرية، ولا سيما «رسالة الإيمان» التي شكلت الأساس الأيديولوجي العقائدي لمعظم الحركات السلفية الجهادية في العالم العربي، وكذلك بتجارب رزمة لا بأس بها من الشخصيات الفلسطينية التي تبنّت فكر «السلفية الجهادية»، من أمثال الشيخ عمر محمود أبو عمر «أبو قتادة الفلسطيني» المعتقل في بريطانيا، والشيخ عصام البرقاوي «أبو محمد المقدسي» المعتقل في الأردن، الذي كان قد أسس مع أبو مصعب الزرقاوي تنظيماً عرف باسم «بيعة الإمام» عام 1994، والشيخ عمر يوسف جمعة «أبو أنس الشامي» الذي التحق بتنظيم «التوحيد والجهاد» في العراق الذي أصبح يعرف بـ«تنظيم قاعدة الجهاد في بلاد الرافدين».
    وبعيداً من صحة ما يرى البعض أنه عمليات مسلحة لتنظيم «القاعدة» ضد أهداف إسرائيلية أو أميركية، كعملية إطلاق ثلاثة صواريخ كاتيوشا في اتجاه مدينة إيلات وخليج العقبة في 19 آب 2005، وإطلاق صواريخ غراد من جنوب لبنان في اتجاه مستوطنة كريات شمونة، وغير ذلك، فإن ثمة من يعتقد أن محاولات تسويق مقولة أن «القاعدة» استطاعت إيجاد موطئ قدم لها في الأراضي الفلسطينية، إنما تهدف إلى منح إسرائيل شرعية دولية لممارسة القتل والتدمير ضد الفلسطينيين بذريعة «محاربة الإرهاب»، وصبّ مياه إضافية في طاحونة الفتنة والاقتتال الداخلي، ناهيك بمحاولة خلط الأوراق وإزالة التخوم التي تفصل ما بين تنظيم «القاعدة»، فكراً وممارسةً، وبين الحركات الإسلامية الفلسطينية، وبالأخص حركة «حماس» التي حشرت نفسها بين مطرقة السلطة الهزيلة ومتطلباتها السياسية والعملية، وسندان التمسك بالمقاومة كحق مشروع لا يمكن المساومة عليه، وذلك في مقابل من يقدّر أن التحولات التي تشهدها «حماس»، ولا سيما بعد دخولها محرقة السلطة، وتوقيعها «اتفاق مكة» مع حركة «فتح»، مضافاً إليها الانسداد السياسي وتداعيات الحصار الاقتصادي والفلتان الأمني، ستساهم في توفير تربة خصبة لانتشار «القاعدة» التي ينظّر مؤيدوها بأنها «لا تقبل بديلاً من خيار المقاومة والجهاد، وترفض الدخول في أي نوع من المفاوضات» مع إسرائيل التي لم تلتزم يوماً بأي اتفاقات أو مواثيق.
    وكما حدث مع منظمة التحرير الفلسطينية التي استبعدت من النقاش المتعلق بالقضية الفلسطينية، بعدما صُنّفت، أميركياً وإسرائيلياً، منظمةً إرهابيةً قبل اعترافها بإسرائيل، عبر الرسائل المتبادلة ما بين ياسر عرفات وإسحق رابين عشية توقيع اتفاق أوسلو عام 1993، ما أفسح المجال أمام ظهور الحركات الإسلامية الجهادية ممثلةً بحركتي «حماس» و«الجهاد الإسلامي»، فإن السيناريو عينه مرشح للاستنساخ في ظل عدم وجود دعم عربي وإسلامي للفلسطينيين ووحدتهم السياسية والكفاحية، وتحت وطأة محاولات عزل «حماس» ووضعها في أتون أزمات لا تنتهي، حيث المرجح، في حال استمرار هذه الأوضاع، صعود وتنامي أيديولوجيا «القاعدة» والتنظيمات «السلفية الجهادية» التي ستضع القضية الفلسطينية في إطار مجالها الحيوي الإقليمي والدولي الذي تقارع من خلاله «الشيطان الأكبر»، وتزيل التخوم الوطنية التي تسم النضال الفلسطيني منذ عقود.
    * كاتب فلسطيني