نزار صاغيّة
أخيراً، وللمرة الأولى، طبّق القضاء اللبناني قانون العفو الصادر في 19-7-2005 في قضية الأسرى المحرّرين ضدّ السيّد سمير جعجع (بصفته قائد القوات اللبنانية)، على خلفيّة خطفهم «على الهويّة» في 1987 ومن ثم تسليمهم لإسرائيل في 1990 حيث مكثوا كرهائن حتى تحريرهم عام 2000. فتصديقاً لقرار قاضي التحقيق، أصدرت الهيئة الاتهامية في بيروت بأكثرية أعضائها (لا بإجماعهم) قراراً بمنع المحاكمة عن المدعى عليه سنداً إلى قانون العفو المذكور وعلى أساس حجج متناقضة. فإذ أكّدت أن جرم الخطف جرم متمادٍ مستمرّ ما بقيت الحريّة محتجزة (أي حتى سنة 2000 في القضية الحاضرة)، عادت لتصرّح خلافاً لذلك بأن الفعل الجرميّ المعزو للسيّد جعجع يعدّ منتهياً في القضية الحاضرة منذ لحظة تسليم المخطوفين (المدّعين) الى إسرائيل أو بأبعد تقدير بتاريخ دخوله الى السجن في 21-4-1994 على اعتبار أنه فقد منذئذ سلطة إبقائهم قيد الحجز أو الإفراج عنهم، لتخلص نتيجة ذلك الى القول بأن الجرم مشمول بقانون العفو عام 2005 ما دام هذا القانون أعفى جعجع ورفاقه من أي ملاحقة قد تستهدفه في شأن جرم مرتكب قبل 31-12-1994!
والواقع أن القرار المذكور يقبل النقد (وتالياً النّقض من قبل محكمة التمييز الناظرة حالياً في الدعوى) في محلّين اثنين:
الأوّل هو ما أشارت إليه القاضية المستشارة غادة عون (وهي نفسها القاضية التي أدلت برأي مخالف ضد قرار إغلاق محطة MTV) في رأيها المخالف ومفاده أنّ الجرم المدّعى به، في حال ثبوته، يشكّل جناية الخيانة ودسّ الدسائس لدى العدوّ بمفهوم قانون العقوبات، وهي جناية خطيرة لا يصحّ في حال من الأحوال عدّها فقط ظرفاً مشدّداً لجريمة أخرى، ما يجعل المحاكم العسكريّة وحدها صالحة للنظر فيه. هذا مع العلم أنّ هذا الرّأي تميّز بشيء من الحدة بحيث اعتبر أيّ وصف مخالف (وهو حال قرار الأكثرية) للجنايات المذكورة تشويهاً للوقائع، وكأنّه يتوخّى تأكيد مدى خطورة المسائل المطروحة.
والثّاني هو أنّ فعل تسليم المدّعين لإسرائيل يشكّل اشتراكاً في جرم «أخذ الرّهائن»، وتالياً يعدّ متمادياً ومستمرّاً حتى تحرير «الرّهائن»، أي حتّى عام 2000، تماماً كما هو فعل احتجاز الرهائن، وذلك لعلة إخضاع الشريك في الجرم للأحكام القانونية نفسها التي تطبّق على الفاعل الأصلي! الأمر الذي يحول دون تطبيق قانون العفو ما دام يشمل الجرائم المرتكبة حتى 1994 من دون الجرائم المرتكبة أو المستمرة بعد ذلك.
وبمعزل عن مآل هذه القضية (وهي معروضة حالياً أمام محكمة التّمييز)، فإنّها كشفت عن أمور ثلاثة أودّ الاضاءة عليها أدناه:
أ ــ الأوّل، أنّ القضيّة كشفت بشكل واضح ماهية قانون العفو الصّادر في 19-7- 2005 وعيوبه. فالذين اعتقدوا أن هذا القانون رمى فقط الى الإفراج عن السيد جعجع تصحيحاً للانتقائيّة أو طيّاً لصفحة الحرب المنتهية عام 1991، وفقاً لما نصت عليه أسبابه الموجبة المعلنة، اكتشفوا بمناسبة هذه القضيّة أنّ أهدافه تجاوزت بكثير هذه الأسباب. فإذا كان قانون عفو 1991 استثنى من العفو جرائم التعامل مع اسرائيل، جاء قانون 2005 ــ وهو قانون خاص بالسيد جعجع ورفاقه ممن حوكم معه ــ شاملاً الجرائم كافة مهما تكن طبيعتها.
وإذا كان قانون 1991 أعفى الجرائم المرتكبة حتى آذار 1991 (موعد تسليم سلاح الميليشيات)، فإنّ قانون 2005 شمل أيّ ملاحقة قد تستـــــــــــهدف هؤلاء (فقط هؤلاء) في أيّ جرم مرتكب حتى آخر 1994، ما يعني أنه منحهم براءة ذمة عما يقارب أربع سنوات زيــــــــــــادة بالنسبة الى مواطن آخر! وهذا ما انعكس في القرارات القضائية في القضية الحاضرة، التي منعت المحاكمة على أساس قانون 2005 في شأن جرائم تعامل «واضح» مع اسرائيل، بحجة أن السيد جعجع فقد في نيسان 1994 (تاريخ سجنه) أيّ قدرة على إنهاء جرم الاحتجاز! وهكذا، إذا بـــــــــدا أن المشرّع استغلّ حالة ذهنيّة مؤاتية للإفــــــــراج عن جعـــــــــــجع لمنحه «امتيازات هجينة وغير دستــــــوريّة لتعارضها مع مبدأ المساواة» خلسة، وذلك بغية تبييض ذمــــــّته من أيّ جـــــــرم قد يكون ارتكبه قبل اعتقاله، يؤمل أن تشكّـــــــــل القضــــــــيّة الحاضرة بداية وعي اجتماعيّ في شأن خطورة هذه الامتيازات التي هي من دون ريب أحد أفظع الأحكـــــــــام التشريعية في تاريخ لبنان الحديث. والأمل هو أن يتنبّه القضاء (وخصوصاً محكمة التمييز في القضية الحاضرة) الى خطورة هذه الامتيازات فيفسّر القانون على نحو يضيّق قدر المستطاع دائرة الامتيازات الممنوحة بموجبه، علّ اجتهاده يخفف بعضاً من سيئات التشريع!!
ب ــ أما الأمر الثاني الذي تكشّفت عنه هذه القضيّة فهو أسلوب الدّفاع الذي اعتمده المدّعى عليه وما له من انعكاسات على النّظام السياسيّ. فبمعزل عن مدى انطباق العفو (وهي مسألة شكليّة)، فإنّ الشّكوى، بما تضمّنته من ادّعاءات خطيرة، وضعت السيّد سمير جعجع أمام استحقاق ــ بل امتحان ــ أساسيّ أمام الرأي العامّ. فما عساه يقول من موقعه كمسؤول سياسي يرأس إحدى الكتل الرئيسة في الأكثريّة الحاكمة؟ وكيف عساه يتعامل من موقعه كإنسان مع شكوى المدّعين ضده، هو الذي ما فتئ يجاهر أنّ احتجازه كان ظلماً كبيراً (ما حدا انظلم قدنا) تكبّده بفعل تمسّكه بمبادئه وبالسّيادة؟
وللأسف، فإن أسلوب دفاعه أتى مخيّباً من زوايا ثلاث أستعرضها تباعاً أدناه:
الزاوية الأولى وقوامها «الإسهاب في تمجيد الذّات»: وهذا ما نقرؤه في توطئة مذكرة الدفاع. فـ«الدكتور سمير جعجع» هو، وفقاً لهذه المذكرة وحرفياً، «أحد الأركان الذين حموا وافتدوا لبنان منذ اندلاع الحرب عام 1975»، وهو تالياً «أعطى لبنان من حياته ما يناهز ثلاثين عاماً قضاها في النضال دفاعاً عن بقاء لبنان» و«ارتضى أن يسجن ظلماً أحد عشر عاماً ونيّف حفاظاً على كرامة النّضال وشرفه»، ويصحّ فيه القول في الخلاصة «بأنه جبل ما يهزّك ريح وخاصّة أنّ هذا الجبل هو جزء من جبال الأرز الشّامخة».
الزّاوية الثّانية وقوامها «الإسهاب في ازدراء الادّعاء». وهذا ما نقرؤه في دفاع المدعّى عليه الآيل الى تسييس القضية. فسبب الشكوى الوحيد وفقاً للدفاع «هو «النّكد السياسيّ» الرّامي الى إلهاء الواقفين «أصاد» أعداء لبنان (أي سمير جعجع) بمعارك جانبيّة كاذبة وواهيّة تريح هؤلاء الأعداء». وهو بذلك جرّد الشّكوى من أبعادها الإنسانيّة كافة، على نحو يجافي تماماً تراجيدية خطابه في شأن ظروف احتجازه في وزارة الدفاع التي بلغت حدّ المشاركة «شخصياً» في تمثيل الواقع على فضائية «العربية»! وما زاد الازدراء حدّةً هو سعي الدفاع الى تحويل الاتهام الموجّه إليه اتهاماً ضد متّهميه، الأمر الذي تمثّل بوضوح كليّ في ملاحقة وكيلتهم (المحامية مي الخنسا) بتهمة القدح والذمّ على خلفيّة عقد مؤتمر صحافي في شأن هذه القضية!
الزاوية الثالثة (وهي نتيجة طبيعية لما تقدّم) وقوامها حصر دفاعه بمسائل شكليّة أبرزها قانون العفو من دون أيّ التفاتة الى أساس الشّكوى. ففي إمكانه طبعاً الإدلاء بهذه الدفوع والاستفادة منها كأيّ مدّعى عليه آخر، لكن أن يتجاهل تماماً الوقائع الخطيرة المعزوّة الى القوات اللبنانية في فترة قيادته لها والمدعّمة بمستندات منها شهادات صادرة عن لجنة الصّليب الأحمر الدوليّ، فهو بذلك يتصرّف كأنّه ليس عليه أن يقدم حساباً لأحد بما يعكس فهماً معيّناً لمسؤوليّاته العامّة! ولا يردّ على ذلك بأنّ تجاهل أفعال الماضي على هذا النحو يتوافق مع قانون العفو، فإسهابه في استحضار الماضي لتمجيد الذّات كما سبق بيانه يعني أن مراده ليس طيّ الماضي وفقاً لما يعلنه البعض هنا وهنالك، بل تحويله الى ملحمة تنشد عظمته وتعزز مشروعيته، وربما أسوة بأنداده! وهذا هو بالذّات ما يتعارض مع المنطق وأبسط مبادئ الديموقراطيّة.
ج ــ أما الأمر الثّالث الذي أود الإشارة إليه بمناسبة هذه القضية فهو أمر إيجابيّ تمثل في موقف مجلس نقابة المحامين في بيروت بردّ طلب الإذن بملاحقة المحامية مي الخنسا بجرم القدح والذمّ، لاتّصال الادعاء بممارسة مهنة المحاماة، ما يبرّر التمسّك بالحصانة. فعدا عن فوائد هذا القرار على صعيد تعزيز التضامن المهني بأشكاله الإيجابية، وتغليبه على الحسابات السّياسية، فإنه شكّل بادرة أمل في إبقاء منابر القضاء مفتوحة أمام أكثر القضايا حساسيّة (قضايا جرائم الحرب)، وذلك في مواجهة كمّ من السلبيات الدّاعية الى الصمت.
* خبير قانوني