علي حمية *
السيد الرئيس،
أتوجه إليكم بكتابي هذا لاعتبارين اثنين:
الأول: ما تمثلونه، في شخصكم وموقعكم، من ثقة تؤهلكم، أنتم، من دون غيركم من الحكام العرب، لمخاطبة الشعوب العربية، في بلدانها ومراكز انتشارها في العالم أجمع، ووضعها في حقيقة ما يتهددها من أخطار، فهي تتابعكم باهتمام، وتعوّل كثيراً على دور سوريا في رسم استراتيجية عربية موحدة تعيد للعرب الثقة بأنفسهم وبقدراتهم، وبمستقبل أفضل لهم وللأجيال المقبلة.
الثاني: ما تمثله سوريا من موقع ريادي في محيطها وعالمها العربي ومجالها الحيوي في المتوسط، وهو ما يعني أنها تستطيع، بقيادتكم، أن تبلور إجماعاً عربياً حيال معظم القضايا المصيرية الراهنة: التجزئة السياسية، والاستيطان، والسيادة والتنمية، والتهديدات الخارجية.
سيادة الرئيس،
لا يحتاج المراقب للواقع الراهن في العالم العربي، ومن ضمنه سوريا الهلال الخصيب، الى عناء كبير لكي يخرج من مراقبته بجملة ملاحظات أساسية.
فماذا يجد؟
أولاً: يجد دولاً كيانية ــــــ قطرية اصطنعها الاستعمار الغربي، بعد الحرب العالمية الثانية، فصدّقت نفسها، واهمة، أنها دول ذات سيادة، وانعزلت داخل «حدودها» الكيانية الضيقة، مبتدعةً كل «دويلة» لنفسها تاريخاً مستقلاً، كما لو أن كل كيان (قطر) هو أمة تامة، قائمة بنفسها، منذ العصور الجيولوجية القديمة.
ثانياً: وأنظمة سياسية جرؤت ــــــ على الرغم من شعاراتها القومية ــــــ على أن تفصل بين الهوية القومية الجامعة والممارسة الكيانية المتزمّتة، وذلك لمصلحة هذه على تلك، فأفرغت الانتماء القومي من مضمونه الوحدوي، بتحويله إلى مجرد صفة لفظية مفرغة من أي التزام حقيقي، مكرّسةً الكيانية (القطرية) الانعزالية في مختلف السياسات الاقتصادية والاجتماعية والتربوية، مختلقةً أحقاداً وعداوات ومنازعات مذهبية وثقافية مع مثيلاتها من الكيانات السياسية الأخرى، ما أدى الى احتقانات انفجرت في غير مرة، بين فئات الشعب الواحد الموزّع، قسراً، على عدد من هذه الكيانات البغيضة، مقدّمةً ما يسمى السيادة الوطنية والمصالح الوطنية، أي السيادة والمصالح الكيانية الفئوية الضيقة، على السيادة القومية والمصالح القومية العليا، مبتدعةً صداقات وتحالفات خارجية، غير آبهة بالضرر الذي يمكن أن تجره تحالفات كهذه على المصير القومي العام، ولقد استقوى بعضها على بعض، فعلياً، بهذه التحالفات، في غير مرة!
ثالثاً: وانحساراً كاملاً للفكر القومي، وتراجعاً مخيفاً للمشاريع الوحدوية الحقيقية، إلى درجة باتت فيها القومية، وكل ما ينتسب إليها أو يعرف بها، دعوة مشبوهة، في الوقت الذي استطاعت فيه معظم الشعوب إنجاز مشروع الدولة القومية، واتجهت بعضها إلى بناء الدولة الاتحادية، ما فوق القومية، في محاولة منها لتحصين قوميتها المهدّدة من جانب العولمة الأميركية، بالاتحادية الإقليمية أو القارية، كما فعلت أوروبا مثلاً.
رابعاً: وتبديداً مسرفاً للثروات العربية ينذر بكارثة اقتصادية واجتماعية محتّمة، في غياب استراتيجيات اقتصادية عصرية، وارتفاعاً مخيفاً في معدلات الفقر يزيد من احتمالات حصول مجاعات حقيقية في مناطق كثيرة من العالم العربي، وانتشاراً هائلاً للأمية، وتقدّماً سافراً لمشاريع الدولة الدينية والمذهبية والعرقية التي بقيت، لفترة طويلة، في حالة الكمون، مستفيدة اليوم، من بعض المناخات الدولية.
سيادة الرئيس،
يمكن القول: إذا كانت الدولة القومية، بمعنى من المعاني، ماضي الأمم المتطورة ــــــ كما يذهب بعض المحلّلين ــــــ فإنها، في اعتقادنا، مستقبل الأمم النامية، وخصوصاً تلك الأمم التي لا تزال تترنّح، مغلوبة على أمرها، بين مطرقة الهيمنة الخارجية وسندان التفسيخ الاجتماعي والروحي والسياسي كحالنا نحن العرب على امتداد العالم العربي!
سيادة الرئيس،
في ضوء ما تقدم، وانطلاقاً من إيماننا بضرورة قيام الدولة القومية في أقطار العالم العربي كافة، لاعتقادنا بأنها طريق مستقبل هذا العالم ومفتاح حل كثير من معضلاته الشائكة، نضع أمام سيادتكم الأفكار ــــــ المقترحات التالية:
أولاً: مما لا شكّ فيه أن السياسات الكيانية ــــــ القطرية فشلت فشلاً ذريعاً، على امتداد نصف قرن، في كل مهمات الدولة، بدءاً من السياسات الاقتصادية، إلى السياسات الخارجية، مروراً بالسياسات الدفاعية والتنموية، الأمر الذي يعزّّز الدعوة إلى قيام الدولة القومية في العالم العربي إطاراً جامعاً لقوى المجتمعات العربية، يمكن أن يُخرجها من حالة الانقسام والاقتتال والتشرذم، وأن يمهّد الطريق لقيام عالم عربي قوي، منفتح على محيطه وعلى العالم.
ثانياً: انطلاقاً من تجربة التكتلات السياسية والاقتصادية الراهنة، على الصعيدين العربي والدولي، نرى من الضروري جداً تعزيز الاتجاه الراهن ــــــ على ضعفه ــــــ لقيام وحدات قومية في الهلال السوري الخصيب، والجزيرة العربية، ووادي النيل، والمغرب العربي الكبير، هذا الاتجاه الذي يمثّل انتصاراً للواقعية العلمية والحقائق التاريخية على النزعات الرومانسية التي تحكّمت في الفكر السياسي العربي منذ ثلاثينيات القرن الماضي.
وفي هذا الإطار، وكخطوة أولى على طريق قيام سوق عربية جامعة مشتركة، ندعو إلى قيام سوق مشتركة في كل متحد من المتحدات العربية الأربعة المذكورة تطوّر العمل التعاوني بين دول كل مجموعة من المجموعات الأربع، وتحقّق التكامل الاقتصادي للبيئة الطبيعية الواحدة، في مرحلة أولى، والتكامل الاقتصادي العربي، على صعيد العالم العربي كله، في مرحلة لاحقة.
ثالثاً: إن إشاعة مناخ سلمي تعاوني داخل الوحدات القومية في البيئات الطبيعية الأربع أمر لا يتوافر إلا بإطلاق حرية العمل السياسي الديموقراطي، على أوسع نطاق. ومن أولويات الإصلاح السياسي، بنظرنا، وقف الحديث الملتبس عن فروق بين الوطنية والقومية، والتصدي لمنطق الكيانية الانعزالي، وتقديم المصالح القومية على ما يسمى المصالح الوطنية.
رابعاً: إعادة النظر في انتماء العالم العربي الثقافي. ونقصد، هنا، بالانتماء الثقافي، أن العرب ــــــ في غالبيتهم ــــــ متوسطيون، لجهة الثقافة والعقلية العملية، وليسوا شرقيين كما شاعت التسمية، وأنهم ــــــ خصوصاً السوريين منهم ــــــ يحملون نفسية التمدّن الحديث الذي ساهموا، على مرّ التاريخ، في وضع قواعده الأساسية، الأمر الذي يدعو العرب، اليوم، إلى الإقلاع عن اعتبار أنفسهم شرقيين، بالمعنى النفسي للعبارة، وترك التبجّح الفارغ بالنفسية والعقلية الشرقيتين اللتين توصفان عادة بالاتكالية والعجز والاستسلام للغيب.
خامساً: إذ نؤكد على هذه الأفكار ــــــ المقترحات، وإيماناً منا بالدور الذي تستطيعه سوريا بقيادتكم في تحويل هذه الأفكار إلى مادة للحوار والتطبيق، فإننا نقدّم اقتراحاً عملياً يكون خطوة أولى على طريق العمل القومي الصحيح، من أجل نشر الوعي بحقيقة العالم العربي وخطط إعادة بنائه في إطار خطة الدولة القومية والاتحادية العربية. فنقترح أن تدعو الرئاسة السورية إلى مؤتمر للنخب العربية الحكومية وغير الحكومية يُعقد في دمشق لدراسة فكرة قيام وحدات قومية في البيئات الطبيعية الأربع ومناقشة التجارب الوحدوية العربية السابقة، ما نجح منها وما فشل، وصولاً إلى توحيد النظرة إلى فكرة الأمة والقومية من جهة وإلى مقولة الوحدة والاتحادية من جهة أخرى.
* أستاذ في الجامعة اللبنانية