بان كي مون *
قد لا يختلف صباحي كثيراً عن صباحكم. فنحن نفتح جريدتنا أو ندير جهاز التلفزيون في نيويورك أو لاغوس أو جاكرتا لنتلقّى جرعة يومية من المعاناة البشرية. لبنان. دارفور. الصومال. وبالطبع، فإنني، بصفتي أميناً عاماً للأمم المتحدة، يمكنني على الأقل أن أسعى إلى شيء في شأن هذه المآسي. وهذا ما أفعله كل يوم.
وعندما تولّيت هذا المنصب، منذ ما يقرب من خمسة أشهر، لم تكن لديّ أي أوهام في شأنه. فمن المشهور عن أحد أسلافي الموقّرين قوله إن هذا المنصب يأتي «على قمة الأعمال المستحيلة في العالم». وقد ذكرت أنا نفسي مازحاً أنني أقوم بعمل أقرب إلى أعمال الأمانة منه إلى أعمال القائد العام. فالأمين العام على أية حال يستمدّ قوته فقط من وحدة الصف التي يبديها مجلس الأمن، وهي وحدة كثيراً ما تعذر تحقيقها في الماضي، كما يتعذر اليوم. وعلى الرغم من ذلك، فإن تفاؤلي لم يفتر عمّا كان عليه أول يوم بدأت فيه مهمات منصبي هذا. وقد يصعب هذا على الفهم، بالنظر إلى ضخامة الكثير من المشاكل التي نواجهها واستعصائها على الحل، الأمر الذي يتجلّى، ربما أكثر ما يتجلّى، في الشرق الأوسط. ومع تنامي المطالب على كل جبهة من الجبهات، بدءاً بحفظ السلام ومروراً بالمساعدة الإنسانية والصحة، يُطلب من الأمم المتحدة اليوم أن تقوم بأكثر مما كانت تقوم به في أي وقت مضى، حتى في ظل التضاؤل النسبي للموارد اللازمة للوفاء بالأعمال المطلوبة. ولكن فلننظر على الجانب الآخر إلى الكيفية التي تغيّر بها العالم من بعض الجوانب في الأعوام الأخيرة، بما فيه الأمم المتحدة.
فاليوم ولأسباب كثيرة، بخلاف العراق، ظهر شعور جديد بالتقدير لدور العمل المتعدد الأطراف والدبلوماسية في التعامل مع الأزمات. وبرزت إلى صدارة جدول الأعمال العالمي قضايا «النفوذ الهادئ»، وهي الأرضية الطبيعية لعمل الأمم المتحدة. ففي العام الماضي وحده، على سبيل المثال لا الحصر، نشأ توافق في الآراء في شأن تغيّر المناخ وأخطار الاحترار العالمي. وأبدى قادة من أمثال بيل غيتس وتوني بلير وبونو التزامهم مساعدة الأمم المتحدة على تحقيق الأهداف الإنمائية التي حددتها للألفية، بدءاً بتقليص الفقر حتى وقف انتشار فيروس نقص المناعة البشرية ــ الإيدز والملاريا.
وربما يكون من أشد دواعي التفاؤل أن التأييد العام للأمم المتحدة ما زال قوياً بصورة ملحوظة. فقد وجد استطلاع جديد للرأي أُجري على موقع World public Opinion.org الإلكتروني أن أغلبية كبيرة (74 في المئة) ترى أن الأمم المتحدة ينبغي أن تؤدي دوراً أقوى في العالم، سواء في ما يتعلق بمنع الإبادة الجماعية أو الدفاع عن البلدان التي تتعرض للهجوم أو التحقيق بجرأة في انتهاكات حقوق الإنسان. حتى في الولايات المتحدة، التي ساد فيها أخيراً شعور عميق بخيبة الأمل في الأمم المتحدة، يؤيد ثلاثة من بين كل أربعة أميركيّين تعزيز الأمم المتحدة، وتنتظر نسبة مماثلة تقريباً أن تُدار السياسة الخارجية للبلد في شراكة مع الأمم المتحدة.
كل هذا يمثل أيضاً بالنسبة إلى الأمم المتحدة تغيراً في المناخ. وقد لا أذهب إلى حد وصف هذا التغيّر بأنه فرصة جديدة مشابهة لما وقع من قبل في سان فرانسيسكو، غير أن هذا ربما لا يكون بعيداً تماماً عن التحقيق إذا اغتنمنا هذه الفرصة.
ونحن الكوريّين شعب نشط. فنحن بطبيعتنا، على رغم ما نتمتع به من صبر، نتسم بالمثابرة والإصرار على إنجاز ما نعتزمه. وأنا، مثلي مثل كثيرين من أبناء بلدي، أؤمن بالقوة التي تنطوي عليها العلاقات. وما زلت منذ سنوات أحمل في محفظتي (إلى جانب قوائم الإحصاءات التجارية والاقتصادية) قصاصة ورقة بالية مكتوب عليها بحروف صينية، يتصل كل جزء منها بعمر الشخص والمرحلة التي يمر بها في حياته. فهي تقول إن الشخص في عمر الثلاثين يكون في عنفوان حياته. وفي عمر الخمسين يقال إنه يعرف مصيره. أما في عمر الستين، فإنه يتمتع بالحكمة المستمدة من «الإصغاء».
المرحلة الأخيرة هي المرحلة التي أمرّ بها اليوم. وهي تستلزم أكثر من مجرد الإصغاء، على ما له من أهمية. وقد يكون الوصف الأمثل لها أنها مرحلة تبصّر، أي مرحلة النظر إلى أي شخص أو أي وضع بشكل متكامل يغطي جوانبه السيئة والجيدة، وهي مرحلة القدرة على تحقيق الوئام وإقامة علاقات عمل فعالة على الرغم من الخلافات القائمة، مهما كانت حدّتها. ويقيني أن هذا سيكون العلامة المميزة لفترة ولايتي كأمين عام. فأنا أؤمن بالتفاعل والحوار قبل المواجهة. وهذه الدبلوماسية تدور في بعض الأحيان في العلن، وفي أحيان أخرى تتمّ من وراء الستار حيث تكون احتمالات نجاحها أشد ما تكون.
وأؤكد هنا على كلمة احتمالات. فالنجاح نادراً ما يكون قدراً محتوماً. وإنما المهم هو المحاولة، كما أفعل في دارفور التي تندرج ضمن أولوياتي العليا. وقد ألححت بشدة على الشركاء في واشنطن وعلى غيرهم من الشركاء، لإعطاء مزيد من الوقت للتفاوض مع رئيس السودان، عمر البشير، من أجل نشر قوة دولية لحفظ السلام تحت إشراف الاتحاد الإفريقي. ولم تحقق هذه الجهود حتى الآن سوى نصر جزئي يتمثل في موافقة حكومة الخرطوم على قبول 3500 من أفراد الأمم المتحدة، وهو ما يقلّ كثيراً عن العدد الذي يُرى أن من الضروري نشره، وهو 20000 فرد، وما زلت على ثقة بأنه يمكن الدبلوماسية التي لا تعرف الكلل أن تثمر نتائج تبعث على مزيد من الرضا. غير أنه من الواضح أيضاً، مع استمرار فقدان الأبرياء أرواحهم، أن الوقت له حدود.
وبالروح نفسها، قمت بزيارة الشرق الأوسط أربع مرات في بضعة أشهر، عقدت فيها عدة اجتماعات وأجريت عدة مكالمات هاتفية مع الرئيس السوري بشار الأسد، كان آخرها في دمشق. وهدفي هنا أيضاً هو إقامة علاقة يمكن أن تساعد في تهدئة الأحداث في لبنان، وفي إعادة إدماج سوريا في نهاية المطاف بصورة أوفى في المجتمع الدولي. وعلى الرغم من أن الدبلوماسية الهادئة، كما أقول، لا تنجح بالضرورة دائماً، فإن في إمكانها أن تصل إلى نتائج ناجحة، حتى في أشد الظروف تأزّماً، كما شهدنا منذ فترة ليست بالبعيدة عندما حُلّت من وراء الستار الأزمة التي نشبت مع إيران في شأن الرهائن البريطانيين.
وفي الأسبوع المقبل، سوف تجتمع البلدان الصناعية التابعة لمجموعة الثماني في ألمانيا لتناقش أموراً، من بينها تغيّر المناخ وهو قضية أعتزم تبنّيها بشكل كامل. ونحن كثيراً ما نتكلم عن الاحترار العالمي كمسألة تقنية، فنتحدث عن مبادلة الكربون، والحدود العالمية القصوى للانبعاثات، والتكنولوجيات الجديدة، بدءاً بالسيارات الأكثر كفاءة في استهلاك الوقود حتى الطاقة الشمسية. ولا حاجة إلى القول بأن كل هذه أمور مهمة.
غير أن الجانب الذي سأشدد عليه من بين جوانب تغيّر المناخ هو الجانب الأقرب الى النواحي البشرية. وهو يتعلق بانعدام المساواة الذي تنطوي عليه هذه الظاهرة. فعلى الرغم من أن الاحترار العالمي يؤثر فينا جميعاً، فإنه يؤثر في كل منا بصورة مختلفة. فالبلدان الثرية تمتلك الموارد والدراية اللازمة للتكيّف. فقرى التزلج على الجليد في سويسرا قد تفقد ثلوجها في يوم ما ــ أو هذا ما يقوله لي زميل عاد أخيراً من إجازة أمضاها على جبال الألب ــ غير أن الأودية السويسرية يمكن بالفعل أن تصبح «توسكانيا جديدة» تغطيها الكروم المشمسة. أما بالنسبة إلى إفريقيا، المنكوبة بالفعل بالتصحّر، أو لسكان جزر إندونيسيا الذين يخشون أن تبلعهم الأمواج، فإنّ المقايضات المتاحة غير موثوق بها بالدرجة نفسها على الإطلاق.
وإذا كان هناك محور تندرج في إطاره جميع أعمالي، أو لنقل رؤية تدور في إطارها تلك الأعمال، فإن هذا البعد الإنساني هو ذلك المحور، وهو القيمة المطلقة المنشودة من وراء التفاعل والعلاقات الدبلوماسية القائمة على الثقة، من دون أن تنقصها الصحافة، والتي تسير جنباً إلى جنب مع الوعي بالكيفية التي تؤثر بها السياسات العالمية ــ أي سياساتنا ــ في الأفراد وحياتهم اليومية. فنحن قد نقرأ كل صباح في جرائدنا عن المآسي البشرية. ولكن كم من المرات نستمع حقاً إلى أصوات هؤلاء البشر أو نحاول بكل قوة وعزم أن نساعدهم؟ هذا هو ما أعهد بفعله.
* الأمين العام للأمم المتّحدة