جوزيف مسعد *
التقيت منذ أيّام صديقاً لبنانياً سابقاً من مثقّفي اليسار الذي تحوّل إلى يمينيّ يخجل من يمينيّته ويصرّ على تسميتها باليسار. يعيش صاحبنا هذا، وهو من المثقّفين اللبنانيّين ذوي الباع الطويل في الإعلام والرواية، في وهم ماضيه اليساري (وهو، كي نكون محقّين، لم يكن في أوج يساريّته أبعد من أمتار معدودة عن الوسط) الذي يشرعن له حقّه في تسمية يمينيّته الجديدة باليسار.
صعقتني يمينيّة اليساري اليميني هذا وهو يدافع عن قصف الجيش اللبناني لمخيم نهر البارد مبرّراً موقفه بأن «فتح الإسلام» تنظيم إرهابي مثل «القاعدة» (وأنا لا أختلف معه في هذا التحليل). فقلت له إن التضحية بالمدنيين لضرب الإرهاب هو القاعدة الأخلاقية الأميركية لغزو العراق وأفغانستان، فردّ باشمئزاز: «ولكن لم يغزُ الجيش اللبناني بلداً آخر، بل بقي في بلده». فقلت له: «إذاً، هو يشبه في ذلك النظام الأردني الذي حارب المنظّمات الفلسطينية، وهي حقاً كانت تشكل خطراً عليه». عندئذ تنطّح اليساري اليميني مذكّراً بأنّه وقف مع المنظمات الفلسطينية في ذلك الصراع لأنها كانت قوىً وطنية تقدّمية بينما كان النظام الذي حاربها رجعياً. فأجبته متسائلاً: «أأفهم منك إذاً أنّ الجيش اللبناني قوّة تقدّمية في نظرك؟». تلعثم صاحبنا وبدأ يصرخ بهستيرية أمام الملأ، فعرفت حينها أن اللغة لم تسعفه وأنها فشلت في إنقاذه من ورطته. إن لغة اليسار اليميني اللبناني اليوم تشرعن يمينيّتها بحجّة كراهيّتها للنظام السوري، وكأن مقاومة أي نظام مكروه تشرعن لليسار (لأي يسار) أن يصبح يميناً.
إن تسخير اللغة لقلب اليمين إلى يسار أو لإنكار التحول من اليسار إلى اليمين، هو حقاً ظاهرة عالمية لا تقتصر على لبنان فحسب. فنحن نعيش في عصر يطرح فيه طوني بلير نفسه على أنه من اليسار كما يطرح مثقفون بريطانيون وأميركيون تأييدهم غزو العراق (ومنهم فرد هاليداي وكريستوفر هيتشنز) بأنه موقف يساري. فلا عجب إذاً إن تعلّم صاحبنا اليساري اليميني لغته منهم، واعتقد أنّ تأييده غزو الجيش اللبناني مخيّم نهر البارد هو موقف يساري وأن قتل اللاجئين الفلسطينيين المدنيين هو قمة الدفاع عن القضية الفلسطينية!
هنا، وفي هذا السياق، لا تتفكّك اللغة السياسية كما يدّعي صاحبنا، بل تُجيَّر لحساب اليمين وتُشَرْعِن مشروع اليمين باستدعاء ماضيها اليساري لاستخدامه سوطاً ضدّ كلّ من تسوّل له نفسه أن يكشف عن يمينيّتها المقزّزة. ولكنّ سوطها هذا لا يعمي أحداً عن حقيقة تحوّلها، وإصرارها على يساريّتها المزعومة يطالبها باستحقاقات لا تقدر عليها. فحال صاحبنا هذا هي ليست حال أترابه من يساريّي الماضي ويمينيّي الحاضر في لبنان فحسب بل في أنحاء المعمورة. فمعارك الوطنية هي دائماً معارك الحاضر، وإنجازات الوطني التقدمي في الماضي مهما كانت بطولية لا تشفع لحاضره اليميني الرجعي. فاليسارية ليست مرحلة مؤقتة لإثبات الذات نتخطّاها في عصور العولمة، بل هي موقف ثابت لا يتغيّر على الرغم من فرص العولمة السانحة لليساريّ السابق.
أمّا صاحبنا، فاليسار من ورائه واليمين من أمامه، وما عليه إلّا أن ينفض الخجل عن حقيقة تحوّله إلى اليمين، ويعلنه أمام الناس. فحِيَله اللغوية لم تعد تنطلي على أحد، اللهمّ إلا على نفسه.
* أستاذ السياسة والفكر العربي الحديث
في جامعة كولومبيا في نيويورك