ورد كاسوحة *
عندما كتب الراحل سمير قصير عن ربيع بيروت الذي سوف يعلن آن حلوله أوان الورد في دمشق، لم يكن يدري أنّ هذه النبوءة التي أطلقها حينها آيلة لا محالة إلى مصير بائس، ما دام قد أودعها أولئك «السائرين نياماً» على خطى «قاتل» ربيع دمشق وحلفائه اللبنانيين.
لا ريب أن الموضوعة التي اشتغل عليها صاحب «تاريخ بيروت» في كتابه: «ديموقراطية سوريا واستقلال لبنان» موضوعة تستحق الوقوف عندها طويلاً، والتأمل في ما يطرحه صاحبها من عناوين تتمحور بمعظمها حول فكرة جوهرية أرادها سمير طريقاً وحيداً وحتمياً للولوج إلى مفهوم النهضة المشرقية الذي تؤلف الحلقة السورية ــــــ اللبنانية قاطرته الأساسية.
هذه الفكرة الجوهرية تفيد باستحالة التغيير الديموقراطي النهضوي في كل من سوريا ولبنان، ما لم يكن هذا التغيير المنشود متلازماً في كلا البلدين. أي أنّ قطار النهوض الديموقراطي المشرقي لا يسير إلا على سكّتين، واحدة تفضي إلى لبنان، والأخرى إلى سوريا.
بهذا المعنى، يعيدنا سمير قصير من حيث لا يدري ربما إلى أدبيات المسار والمصير، لكن مع فارق أساسي هذه المرّة، يتعلّق بالجهة التي يصدر عنها هذا التصنيف. فبينما كانت هذه الأدبيات ملازمة في مراحل سابقة لخطاب سلطوي رثّ ورديء وفاقد للمعنى والمشروعية معاً، نراها في خطاب سمير وسواه من مثقفي لبنان الطليعيين على نحو مفارق تماماً، يتمثل
في إعادة الاعتبار إلى القيمة الحقيقية للشراكة السورية ــــــ اللبنانية. وهذه شراكة ليست فقط في المسار والمصير، بل أيضاً في التاريخ والجغرافيا والعادات وأنماط السلوك والمأكل والملبس والذائقة والحساسيات... إلخ. وهم ــــــ أي سمير ورفاقه ــــــ حينما فعلوا ذلك إنما أعادوا التأكيد على مفهوم الذاكرة، وخلّصوه مما علق به من آثار عهد الوصاية المشتركة الأميركية ــــــ السورية والتي دأبت طوال عقود ثلاثة على الإمعان في تهشيم مفهوم الذاكرة المشتركة السورية ــــــ اللبنانية. وذلك عبر ابتسارها وحصرها في إطار سلطوي ضيّق ومحدود، لم يجد من سبيل إلى تكريس احتكاره لصيغة العلاقة السورية ــــــ اللبنانية إلا في تسويقه لرواية رسمية عنها، أقل ما يقال فيها أنها بائسة، فضلاً عن إعطائها صورة مثالية عن الخيال الفقير لهذه الأنظمة، معطوفاً بالطبع على سلوك ديماغوجي مزمن للإيحاء بأن ما «أنجزه» عهد الوصاية المشتركة إنما كان أساساً لمصلحة البلدين والشعبين!
وإذا كان هناك من أمر غفلت عنه هذه الرواية الرسمية البائسة، فهو ولا شك ذاك المتعلق باستحالة إعطاب الذاكرة الجمعية للشعوب، وحملها ــــــ أي الشعوب ــــــ قسراً على التسليم بوحدة فوقية وبمسار ومصير «حتميّين»، حتى لو كان فعل القسر هذا لا رادّ له شعبياً وجماهيرياً، وذلك بفعل حمولته العنفية والقمعية الزائدة، وهذا يعني ببساطة انتفاء السياسة وسقوطها لمرة واحدة وأخيرة تحت وطأة حكم الجزمة العسكرية.
هذا الرهان الصعب على ذاكرة الشعوب وإرادتها الحرة، هو تحديداً الأمر الذي حدا بسمير قصير إلى المراهنة المطلقة، ذات البعد اليوتوبي المفرط، على فرضية تلازم «الربيعين»، أي ربيع بيروت وربيع دمشق، وصيرورتهما أفقاً وحيداً للتغيير الديموقراطي المنشود.
يحلو للكثيرين في مث حالة كهذه، ربط المصير التراجيدي الذي عصف بسمير ووضع حدّاً لحياته الفكرية والأكاديمية والسياسية «الصاخبة» تلقائياً بالتزامه الحادّ والقاطع بفرضية التغيير المتلازم في سوريا ولبنان. وهو أمر يصعب الجزم بصحته، نظراً لتعقيدات الوضع السياسي الناشئ في لبنان منذ اغتيال رفيق الحريري، بالإضافة إلى الصيغة اللبنانية المعطوبة في الحكم، والقائمة أساساً على نظام فدرالية الطوائف، وهو النظام الذي يعني في علم السياسة شيئاً واحداً: استقطاب النفوذ الخارجي واستدعاءه غبّ الطلب للتحكيم ما بين الطوائف المتنازعة على «كعكة» الحكم، والمحتربة في ما بينها لأي سبب كان، وهو ما يعني عملياً وقوع لبنان تحت تأثير نفوذ القوى الوصية الإقليمية والدولية، وتالياً السقوط في مطبّ النفوذ الاستخباري متعدّد الجنسيات، تحت مسمّيات وذرائع مختلفة لم تكن حجة دخول قوات الردع العربية أولها، ولن تكون ذريعة استجلاب النفوذ الدولي تحت غطاء قوات اليونيفيل التابعة للأمم المتحدة آخرها.
لعل هذا التوجه القاطع لدى ورثة سمير قصير إلى تحميل النظام في سوريا المسؤولية الأولى والأخيرة عن اغتياله، مردّه أساساً العداء المزمن الذي راكمه سمير للأنظمة الواحدية التي تحتكر ممارسة السياسة وتمعن في إقصاء الآخر المختلف، ولا تتوانى في سبيل ذلك عن فعل أي شيء، حتى لو بلغ بها الأمر حد التصفية الجسدية.
هذا العداء الذي يصح فيه القول أنه كان فطرياً، جعل من صاحبه أسير صورة تكاد تكون تقليدية، وهو أمر لا يتّسق مع الصورة التي صنعها سمير لنفسه وراكمها طوال سنوات، أي صورة المثقف المنشقّ والعصيّ على التصنيف الأيديولوجي والعقائدي المبتذل.
والمقصود بالنزوع التقليدي هنا، هو جنوح بعض المثقفين الراديكاليين، وخصوصاً اليساريين منهم، إلى رسم صورة تبسيطية جداً للواقع اللبناني المعقّد تنحو إلى قصر الفاعلية السلبية والتخريبية داخل لبنان على العامل السوري حصراً، وتغفل تالياً، عن قصد أو عن غير قصد، العوامل الأخرى الفاعلة في هذا الواقع، وهي عوامل تضم إلى النفوذ الأمني السوري السابق، ذاك الإسرائيلي والأميركي والفرنسي والمصري والسعودي والإيراني... إلخ.
بهذا المعنى، تغدو «تقليدية» سمير قصير ذات حمولة إنشائية مدّعية إذا صح التعبير. بمعنى أن هذا الفكر النقدي الجذري لا يتوانى في سبيل معركته المستمرة مع النظام السوري عن الإتيان بأفعال متناقضة، تتنافى أساساً مع منطق العقل النقدي من قبيل: عقد التحالفات مع شركاء النظام الأمني السوري السابق في وليمة الطائف، أي تحالف المال والميليشيات والإقطاع الطوائفي وأمراء الحرب، وهو حلف من النوع الذي لا يمكن فهمه إذا أردنا توسل منهجية العقل النقدي لدى صاحب «تأملات في الشقاء العربي» إلا في ردّه إلى سبب واحد ووحيد: إدراك سمير لانعدام فاعلية التغيير وجدواه في بنية «النظام الأمني السوري ــــــ اللبناني المشترك»، ما لم ينعقد هذا التغيير على قاعدة شعبية وجماهيرية عريضة، حتى لو كانت هذه القاعدة ذات بنية عصبوية يغلب عليها الولاء الطائفي والحنين الفطري إلى مشاريع ما قبل الدولة. فما دام التقاطع حاصلاً حول الرغبة في التخلص من إرث حقبة الوصاية، لا بأس في تأجيل الاستحقاقات الأخرى، مثل تجاوز الوعي الطائفي وتنمية الحس المواطني وتصفية إرث مرحلة الحرب... إلخ إلى مرحلة لاحقة، بعد الانتهاء من المهمة المصيرية الأكثر إلحاحاً، والمتمثلة في تصفية إرث الحقبة السورية في لبنان وقطع دابر نظام البعث مرة واحدة وأخيرة.
هذا التفصيل في تعاطي «مؤرّخ بيروت» مع الشأن السوري ــــــ اللبناني ليس بنافل على الإطلاق. ذلك لأنه مثّل الاختبار الأول والحقيقي لمنظومته الفكرية، ووضع منهجه الجدلي على محك التجربة العملية. وإذا كنا نسجل له نجاحاً معقولاً في إنضاج فكرة التغيير وبلورتها في مشروع سياسي عبّرت عنه الحركة الجماهيرية «الناهضة» في 14 آذار 2005، فإنّه لا بد في المقابل، ولكي تكتمل صورة المشهد تماماً، من طرح التساؤل عن مصير حلم سمير و«إنجازه» الاستقلالي الآذاري! وهو تساؤل يطرح نفسه بقوّة لا فقط بسبب ما طرأ من تغييرات جذرية على مشهد الصراع الإقليمي، وخصوصاً بعد وقوع حرب تموز وانكشاف تفاصيل المشروع الأميركي في المنطقة، المعلن منه وغير المعلن، بل أولاً وأساساً بسبب المصير البائس الذي آلت إليه الثورات الملونة في العالم، من لبنان إلى أوكرانيا إلى قرغيزيا. فلم تنفع المساحيق التجميلية التي دأبت على وضعها ميكانيزمات التسويق الإعلامي الممول أميركياً وميكانيزماته في إخفاء الوجه الحقيقي لثورة الأرز في لبنان، والثورة البرتقالية في أوكرانيا، والقرمزية في قرغيزيا، وهو وجه ليس من المبالغة في شيء وصفه بقناع للتدخل الأميركي السافر في الشؤون الداخلية للدول تحت مسميات وذرائع مختلفة.
وإذا كان هناك من عتب نوجهه إلى روح سمير قصير في ذكرى رحيله الثانية، فهو من دون شك عتب على رهان اتخذ منه سبيلاً لوضع نظريته الفذة عن "ديموقراطية سوريا واستقلال لبنان» موضع التنفيذ. لكن على ما يبدو أن التجارب التاريخية للشعوب في الثورات وبناء الدول وإنجاز التجارب الديموقراطية، تحتاج إلى أكثر من النيات الحسنة حتى تغدو أمراً واقعاً وناجزاً، حتى لو كانت هذه النيات صادرة عن رجال ومفكرين و«مؤرخين» من طينة سمير قصير أو جوزف سماحة أو مهدي عامل أو حسين مروة...
وهنا ليتك يا سمير بقيت أميناً لروح التسعينيات، روح مقاومة ومناهضة مشاريع تدجين بيروت وجرّها إلى قاطرة الشرق الأوسط الجديد. كنت عندها، على الأقل، لتعفي نفسك وروحك وذكراك من رؤية «إنجازك السياسي» اليتيم وهو يتداعى على وقع هرولة أقطابه الأساسيين خلف صاحب جبهة «الخلاص» غير الوطني، «قاتل» ربيع دمشق، والمسؤول الأول والأخير عن وأده وإيداع منظّريه وملهميه غياهب السجون.
* كاتب سوري