لم تستدرك بعض الدول العربية حجم المتغيرات والتحولات، وما سببه الربيع العربي من تداعيات أدت إلى انهيار منظومة الدول العربية، وجامعتها، وبروز لاعبين جدد من خارج الإطار الرسمي، غير الدول، كـ«حزب الله» و«داعش» و«الحوثيين»، وهم أشد تأثيراً في مجريات الأحداث. وتأتي اشكاليات قرار التدخل في اليمن كخطوة من أسلوب إدارة الصراع، فنتج منها توسيع نطاق الحرب لتكون بمثابة طلقة الرحمة على الجامعة العربية، ونعي للنظام العربي برمته، وهذا يفتح المنطقة على خيارات مفتوحة.
إن المتابع لأحداث اليمن لم يلحظ التدرج البطيء، والمراوحة في إدارة الأزمة. وهذا يشير إلى ربط ساحات الاشتباك، ويبقى ما جرى من تسارع للأحداث منوطاً بتطور الاشتباك في العراق وسوريا، حيث كان التمهل متعمداً. لعبت الدول الخليجية طيلة السنوات المنصرمة دوراً خفياً في ساحات دول الربيع العربي من دون التورط المباشر، ونأت ببلدانها عن الصراع المباشر، وعلى هذا المنوال استمرت من دون أن تدرك أن هامش المناورة قد ضاق وتقلص، وأن اللعب خارج الحدود قد انتهى، ولم تعد بمنأى عن الأحداث، بينما كان محور المقاومة يخوض معركة صمود وتحصين جبهات واحتواء هجمات بانتظار تبدلات وتحولات على مستوى الإقليم والعالم.
برز لاعبون جدد من خارج الإطار الرسمي كـ«حزب الله» و«داعش» و«الحوثيين»

بفضل صمود محور المقاومة، ومع مرور الوقت استعاد المحور نوعاً من التوازن، ونجح بوضع سقف للمواجهات في سوريا، لا بل كسر التوازن العسكري لمصلحته. كذلك في العراق حيث جرى احتواء الهجوم، ولجم اندفاعة المهاجمين، وقلب المعادلة، وبعد سقوط الموصل، وتهديد بغداد، استعاد المبادرة وانتقل إلى الهجوم.
لم يكن إعلان محور المقاومة الهجوم على حوران بغية الحسم العسكري، إنما لاستعادة المبادرة كعملية استبقاية لحماية دمشق، وكسر التوازن في مثلث دمشق – درعا – القنيطرة، وما حصل في أرياف حلب وحماه واللاذقية كان أيضاً في هذا السياق، أي أنه كان بمثابة الضربات الاستباقية، وبهدف تحصين الجبهات، وما يحكى عن معركة كبرى في السلسلة الشرقية يصب في هذا الاتجاه، وهو عدم السماح للمسلحين بتطوير الهجوم، وتهديد الجبهة الخلفية، واختراق الحدود اللبنانية، وإشغال «حزب الله» في المواقع الخلفية، واستنزافه. إن ما حصل في العراق بعد سقوط الموصل شكّل صدمة وإرباكاً لدى القيادة العراقية، وانهياراً في المؤسسة العسكرية، ما دفع بمحور المقاومة للتدخل، والعمل على إعادة الأمور إلى نصابها، وتعزيز الجيش العراقي بالحشد الشعبي.
ما يجري في سوريا والعراق لا يتجاوز تحصين الجبهات، ومنع أي تهديد فعلي للدولتين العراقية والسورية ليس إلا، والحسم في هذين البلدين لا يزال بعيداً.
لا شك، لقد نجحت دول الخليج وتركيا في زعزعة دول المنطقة، وإدخال سوريا والعراق في دوامة من العنف والاستنزاف، ولكن فشلها في إسقاطهما سيرتد عليها لاحقاً بما لا ترغبه.
لقد شكّل اليمن من بداية أزمة الربيع العربي نوعاً من التوازن بين طرفي الصراع، وتُركت الأحداث تأخذ مجراها لحين تبلور شكل المواجهات وأبعادها، وكان واضحاً ان عدم حسم الأمور منوط بالأحداث في الساحات الأخرى. لم تعِ دول الخليج أن منع منصور هادي من الحكم، وترك الأمور تراوح مكانها كان متعمداً لإعطاء الأطراف المتآمرة مزيداً من الوقت للمراجعة والتراجع. وفي هذا الوقت، كانت التحضيرات تجرى على قدم وساق، والتحالف بين أنصار الله وعلي عبد الله صالح يتعزز ويتماسك، إضافة إلى التفاهمات مع بقية الأطراف الفاعلة كقبائل بكير ومراد. ومع صعود تنظيم «الدولة الإسلامية» حدثت انعطافة، وتغيرت المعطيات وطرأت متغيرات كبرى، وانقلبت المعادلات، فإشعال كل الجبهات أدى إلى خلل في بنية المنظومة الدولية، وبنية دول المنطقة. ولم يعد من أرجحية لأي طرف على آخر، وأصبح الجميع متساوين في نقاط الضعف والقوة. ولم يعد الغرب قادراً على وضع سقوف، أو التدخل، أو الحماية لأي طرف، ولا حتى مجلس الأمن وفصله السابع.
من هنا كانت اهمية استدراج دول الخليج إلى هذه المعركة، فلم يعد من شرعية لدولة دون أخرى، وأن معظم دول المنطقة تعاني من تدخلها، ليبيا – سوريا – العراق – مصر – تونس، وهذا سيؤدي إلى انقسامات، واصطفافات جديدة، وما التحالف العشري سوى تجميع هش يفتقد إلى اللحمة الفكرية والتطابق السياسي، ولن يكون أكثر من عراضة تتقن الاستعراض الجوي. وحتى تركيا، فهي أعجز من المؤازرة، والتدخل الفعلي والمباشر، وأقصى ما تفعله هو الردّ في سوريا (بصرى الشام – ادلب) كونها تعاني حالة انفصام ما بين حلم الخلافة كسلطنة، وما بين الالتحاق بالاتحاد الأوروبي كدولة علمانية، ناهيك عن التباين مع السعودية، إضافة إلى هشاشة الوضع الداخلي – التركي – الكردي.
إن بروز تنظيم الدولة الإسلامية، المستقل في ذاتيته، بات يشكل خطراً على معظم الدول، وهو يسعى إلى استثمار أي صراع كونه المستثمر الأول في الفوضى، والقادر والجاهز لملء الفراغ. فأي تطور دراماتيكي يستهدف بلدان المنطقة سيعطي تنظيم الدولة مساحة أكبر للاستثمار وسيكون وريثاً شرعياً للسلطات.
إن الاعتقاد بأن العمليات العسكرية ستعيد منصور هادي إلى السلطة، وإعادة الأفرقاء اليمنيين إلى بيت الطاعة لم يعد ممكناً، فالضربات الجوية لن تعوم منصور، ولن تدفع صالح والحوثي للانحناء.
لقد انحنى علي عبد الله صالح للعاصفة، وراح يرتب البيت اليمني بالتنسيق مع «أنصار الله» والبدء بقضم المناطق الواحدة تلو الأخرى، وصولاً إلى عدن والضالع، فأسرعت دول الخليج بتوسيع نطاق الحرب، وبأسلوب قديم قد انتهى، وهو الضربات الجوية الذي أثبت فشله.
دون شك، إن جغرافيا اليمن واحدة من أصعب مسارح الحروب، ناهيك عن فشل دول الخليج باستدراج إيران إلى مواجهة إقليمية مفتوحة، علماً أن إيران تعتمد اللعب في الجيوب الصغيرة، ضمن بيئة موالية، لا بل هي صاحبة الأسلوب الجديد وهو الانتصار في الجيوب الأضعف، أي دون الاضطرار إلى التدخل، وتوسيع الحرب إلى حرب إقليمية – دولية. فالاستعراض العسكري سيتلاشى مع مرور الوقت، ويتحول إلى روتين ممل من دون جدوى، بينما سيشتدّ عود القوات المشتركة، وستتحول إلى قوة فاعلة. الجيش اليمني مع «أنصار الله» إضافة إلى القبائل، تنهك المهاجمين وتستنزفهم ما سيدفع بالقوات اليمنية إلى دخول نجران – جازان – عسير، وهنا سيتحول الاشتباك إلى قتال صدامي – جبهوي – متداخل.
تتمتع القوات اليمنية المشتركة بمرونة عالية ودينامية كبيرة، فالمزاوجة بين الأساليب القتالية في تشكيل واحد سيؤدي إلى نتائج مجدية، وسينجح المدافعون في استنزاف التحالف العشري، ومن ثم إنهاكه إلى حدود التجميد، وفقدان القدرة على تحقيق انتصارات.
فالجيش اليمني كقوة نظامية سيعمل على تنسيق الجبهات والوسائط النارية، وإدارة مسرح العمليات، بينما تتولى مجموعات «أنصار الله» إنهاك القوات المغيرة عبر مروحة من التحركات والتنقلات، وعبر التوغل بالجبال، والممرات الوعرة، والقيام بعمليات كر وفر في المناطق المتاخمة للحدود، وستعمد إلى المشاغلة والالتفاف من مكان إلى آخر كما ستلعب القبائل دوراً محورياً في تأمين الطرق والمواصلات، والانقضاض على أي قوة داعمة للتحالف العشري. بينما ستقوم ميليشيات القبائل بتأمين مناطق الجنوب والخطوط الخلفية.
هذا الخليط من النماذج سيؤدي دوراً فعالاً في إدارة الحرب، وسيعطي الجبهة الداخلية تماسكاً يحول دون وقوع أي خلل استراتيجي يؤثر في الجبهات.
هذا النوع من التشكيلات يعطي المدافعين اليمنيين مروحة كبيرة من الخيارات خصوصاً أن لهم الباع الطويلة في حروب الجبال، والمناطق الوعرة، ولن يحتاجوا إلى أسلحة نوعية، كبيرة وثقيلة، فطبيعة تلك المناطق ذات الجغرافيا المعقدة، تتطلب أنواعاً خفيفة من الأسلحة، والمعدات لتسهيل التحركات والتنقلات، بينما سيعاني الحلف العشري في تحديد واختيار الأهداف والمراكز. فالقوات اليمنية المشتركة لا تمتلك منظومات عسكرية بالمعنى الكلاسيكي، فالتركيبة العسكرية تشبه النماذج القبلية مع تطور نوعي في أساليب القتال.
من هنا تأتي أهمية إدارة الحرب في الجيوب الصغيرة من دون الحاجة إلى تطوير المواجهة إقليمياً، كما يتمنى التحالف العشري توسيع دائرة الحرب ودخول إيران، فالأفضل هو استنزاف السعودية في حرب محلية، أي بمعنى حصر المعركة في اليمن، وثم تطوير الاشتباك على الحدود في المناطق المتداخلة والمتاخمة، وهذا سيعطي محور المقاومة مزيداً من المناورة، وإطالة الحرب لدفع الجميع للتراجع والهزيمة، ما يفترض أن ينعكس على الجبهات الأخرى كسوريا والعراق لاحقاً بعد أن يدخل الجميع في عنق الزجاجة، وتبدأ المعاناة والتداعيات.
إن استمرار نزف الحلف العربي في اليمن سيعطل قدرة دول الخليج الاستمرار في اللعب في الساحات الأخرى، وبما أن اليمن هو أكثر تماسكاً ومنعة داخلية من الساحتين العراقية والسورية، فإن نتيجة معركة اليمن ستدفع إلى توازن يمهد لحسم المعركة مع المحور الهجين، أميركا – تركيا – الخليج. وتبقى الأهمية باستمرار الصمود في الساحتين العراقية والسورية لحين اتضاح المواجهات في اليمن. لقد اكتملت الدائرة، ودخلت جميع الدول في الاشتباك، ولم يبق أي طرف بمنأى عن المعركة، فهنا في اليمن يتصارع الجميع، وهنا يتقرر مصير المرحلة التي دخل العالم العربي فيها منذ البوعزيزي.
* كاتب لبناني