نزار صاغيّة *
خلافاً لما يخال البعض، لم ينجم حرمان اللاجئ الفلسطينيّ من عدّة حقوق مدنيّة فقط من معاملته كسائر الأجانب، بل أيضاً، وبالأخصّ، من كون النّظام التّشريعي اللبناني أفرز تحت وطأة «الهواجس» توجّهاً تشريعيّاً هجيناً وجائراً مفاده معاقبته، لا لسبب إلا «أنّ لا دولة له». فأن يكون وضعه كذلك، يعني حكماً أنه يحتاج الى دولة وأن حاجته تلك تولّد ميلاً طبيعياً الى التوطين وأنها تشكّل إذاً بحد ذاتها خطراً وتالياً جرماً (أقله مدنياً) يستوجب العقاب (!). علماً أنّ هذا التوجّه بدأ متخفّياً مستتراً ليُعلن مع بدايات القرن الواحد والعشرين جهاراً وبشكل تصعيديّ من دون أيّ حرج.
وقبل إثبات ذلك، لا بدّ من إبداء ملاحظتين:
أولاً، لقد أظهرت أحداث نهر البارد المخاطر الملازمة للتهميش، لكنّها أيضاً كشفت عن مشاعر شوفينية معادية للّاجئ الفلسطيني على نحو يؤول الى تعزيز التوجّه العقابيّ المشار إليه أعلاه.
ثانياً، انزلق الخطاب القانونيّ اللبنانيّ، للأسف، من دوره كضابط للرغبات السياسيّة الى شريك متواطئ يجهد في تقديم الحجج والفتاوى والحيل الآيلة الى دحض الاعتراضات المبدئيّة على هذا التوجّه الهجين، علماً أن هذا الانزلاق بلغ حدّ العبثيّة ولا سيّما حين أعلن المشرّع توسيع دائرة الحرمان من حقّ تملّك العقارات لكي لا تشمل فقط الفلسطينيين بل كل المحرومين من دولة، وذلك لئلا يقال إنه «ميّز ضدّ هؤلاء وحدهم»!!
يشكّل إبراز الانزلاق المذكور نقطة انطلاق ضرورية لمن يريد تجريد المسألة من أبعادها اللاعقلانيّة المثقلة بالمسلّمات والرموز، وصولاً الى استعادة المنطق القانونيّ لدوره الأصليّ. وما يزيد هذه الضرورة إلحاحاً هو أن الأحداث الأخيرة أبرزت منذ يومها الأول مفاهيم مطّاطة لها تأثيرات قانونيّة أكيدة أبرزها «هيبة الجيش والقوى الأمنية» و«الخطوط الحمر» على اختلاف أشكالها وألوانها.
وفي ضوء ما تقدّم وإثباتاً له، سأعرض أدناه حالات التشريع الآيلة الى معاقبة «المحرومين من دولة»، بدءاً بحالات المعاقبة «المستترة» الناجمة من كيفيّة تفسير قاعدة اشتراط المعاملة بالمثل ووصولاً الى حالات المعاقبة «شبه المعلنة» وهي الأحدث عهداً، كما سبق بيانه.
أ ــ المعاقبة المستترة: كيفيّة تفسير شرط المعاملة بالمثل:
ما أتناوله هنا هو «شرط المعاملة بالمثل»، وهو شرط فرضته قوانين عدّة للاعتراف بعدد كبير من الحقوق الاقتصادية والاجتماعية، أبرزها حقّ الاستفادة من تعويضات الصرف من الخدمة أو تعويض وفاة الأجير بسبب حوادث العمل أو الضمان الاجتماعي أو الاستشفاء المجاني أو مزاولة مهن حرة، كالهندسة والطبابة والصيدلة وطب الأسنان والمراقبة الصحية والمهن المخبرية الصحية وفتح مختبرات طبية وإدارتها ومهنة خبراء المحاسبة أو الاستفادة من المعونة القضائية في القضايا المدنية، إلخ...
فحسب هذه القوانين، لا يستفيد غير اللبناني من هذه الحقوق إلا إذا كانت الدولة التي ينتمي إليها تقرّ بالحقوق نفسها للبنانيّين، علماً بأنّ الأمر يطرح بشكل حادّ في مجال الضّمان الاجتماعيّ، بحيث يقتضي في كل الأحوال تسديد الاشتراكات المترتّبة على الأجير غير اللبناني أسوة بالأجير اللبنانيّ، لكن تبقى الاستفادة من تقديمات الضّمان مقيّدة بتوافر المعاملة بالمثل، ما يسبّب اختلالاً كبيراً في التوازن المالي في حال انتفاء هذا الشرط.
وقد بلغت الإشكالية أبواب القضاء، تحديداً مع مطالبة أجراء فلسطينيين بحقوقهم الناجمة من قانون العمل أو الضّمان الاجتماعيّ. فما هو الموقف القانونيّ الواجب من وضعهم؟ هل يقال إن الشرط مستحيل التطبيق لانعدام الدولة، الأمر الذي يحتّم استبعاده، وتالياً إفادتهم من التقديمات، أم يُقضى بأن الشرط غير محقّق فيحرمون من هذه التقديمات وتقع العقوبة موضوع هذا المقال؟
يستند التفسير الأوّل إلى تحليل عقلانيّ لمبرّرات شرط «المعاملة بالمثل». فهذا الشرط وضع تاريخياً كوسيلة ضغط لضمان التّوازن بين الدول، بحيث يجدّ البعض لدى دولهم لأجل منح حقوق لمواطني دول أجنبية بغية الاستفادة من حقوق مماثلة (موازية) فيها. وتالياً فلا محلّ لتطبيقه على أشخاص لا ينتمون الى دولة، عملاً بقاعدة تريد استبعاد النص في حال انتفاء مبرراته. وتؤكد ذلك الأعراف الدوليّة الآيلة الى إعفاء اللاجئين وعديمي الجنسية من هذا الشرط، وأقله ضمان معاملتهم معاملة فضلى بالنسبة الى سائر الأجانب. وعلى الرغم من وجاهة هذا التفسير على صعيد التحليل القانوني، فإنه بقي محصوراً في عدد قليل من أحكام قضائية بقيت معزولة ومجردة عن أي تأثير في السياسات الإدارية.
أما التّفسير الثاني، فيستند الى قراءة حرفيّة للقانون مفادها وجوب تحقق شرط المعاملة بالمثل للاستفادة من الحقوق. وهو تالياً يميّز بين الذين لا دولة لهم وسائر الأجانب، ما دامت الحقوق محرّمة حكماً على الأوائل فيما هي مشروطة فقط بالنسبة الى الآخرين الذين يتعين عليهم إثبات تحقق المعاملة بالمثل. وبكلمة أخرى، فإن التفسير الحرفيّ لشرط (المعاملة بالمثل) يؤول الى تضمينه شرطاً آخر وهو وجوب الانتماء الى دولة تحت طائلة الحرمان من الحقوق. ومن هنا ساغ القول بأن هذا الشرط يشكل عقوبة ضد المحرومين من دولة.
وعلى الرغم من غرابة هذا التفسير، فقد لقي إجماعاً في مجمل الإدارات الرسميّة والنقابات المهنيّة في لبنان. وتبنّته غالبية الأحكام القضائيّة، وذهب بعضها الى حدّ الإسراف في إثبات سدادة الموقف الى درجة التناقض، بحيث أعلن أنّ الأجراء «عاجزون» عن إثبات العكس (أي وجود معاملة بالمثل) لغياب الدولة (!!) أو عن إثبات أن فلسطين أقرّت التعامل بالمثل في مجال الضمان الاجتماعي قبل الاحتلال (الحاصل في 1948)، فيما أن مؤسسة الضمان الاجتماعي لم تقُم أصلاً في لبنان إلا في أواسط الستّينيات!! لا بل إن خطاب بعض المحاكم وصل أحياناً الى حدّ إعلان الطابع العقابيّ للنصّ. فإذ أثار أحد أرباب العمل أن من غير العادل أن يكلف بتسديد الاشتراكات لفرع التعويضات العائلية في صندوق الضمان الاجتماعي عن الأجير الفلسطيني العامل لديه، وأن يكلف في ما بعد بدفع تعويضات عائلية الى الأجير نفسه بداعي حرمانه من الاستفادة من تقديمات الضمان، جاء جواب المحكمة قاطعاً في أسلوبه ومضمونه. فقد نصّ حرفيّاً على الآتي: «إن ربّ العمل الذي يعلم أحكام قانون الضمان الاجتماعي، ويختار مع ذلك التعاقد مع أجير أجنبي لا تقر بلاده مبدأ مساواة الأجانب مع رعاياها، عليه أن يتحمل نتيجة خطئه مهما كانت. وإذا كان لا يريد أن يعرّض نفسه للأضرار المبيّنة في ادعائه، عليه أن يحصر تعاقده مع الأجراء اللبنانيين أو أن يتعاقد مع أجانب يتوافر فيهم شرط المعاملة بالمثل». وتالياً، فإن شرط المعاملة بالمثل بدا بموجب هذا الحكم وسيلة ضغط ــ لا على دول أخرى للاعتراف بحقوق اللبنانيين ــ بل بالدرجة الأولى على أرباب العمل للحؤول دون توظيف المحرومين من دولة. وهذا ما يبيّن أيضاً وأيضاً الطابع العقابيّ لهذا الشرط.
ب ــ حالات المجاهرة بمعاقبة «المحرومين من دولة»:
الوجه الثّاني للمعاقبة حصل مع إقرار قاعدة جديدة مفادها التمييز جهاراً ومباشرة ضدّ المحرومين من دولة. وأولى البواكير في هذا الصّدد المادة الأولى ــ الشهيرة ــ من قانون تملّك الأجانب. وهذا النصّ الذي أسال الكثير من الحبر تضمّن الآتي:
«لا يجوز تملّك أيّ حقّ عينيّ من أيّ نوع كان لأي شخص لا يحمل جنسية صادرة عن دولة معترف بها، أو لأي شخص إذا كان التملّك يتعارض مع أحكام الدستور لجهة التوطين».
وهو ــ أي النصّ ــ آل إذاً الى منع «المحرومين من دولة» من تملّك العقارات، سواء تمّ ذلك من طريق البيع أو الهبة أو الإرث. فإزاء رغبة حكومة الرئيس رفيق الحريري في تحرير الاستثمارات العقارية من شروط الجنسية آنذاك، أطلقت بعض الأصوات خطاباً صاخباً مفاده أن الهدف من تحرير العقارات هو توطين الفلسطينيين متجاهلةً أنه كان لهم (شأنهم في ذلك شأن المواطنين العرب كافة) في ظل القانون السائد آنذاك حق تملّك 5000 متر مربع من دون أي ترخيص!
عندئذ، أُبرز الحظر، دحضاً «للشّائعات» في شأن نوايا الحكومة، في صدر القانون (في مادته الأولى) وفي صدر الإعلام على نحوٍ تحوّل معه القانون في الذهنية العامة من «قانون يحرّر الاستثمارات العقاريّة» الى «قانون يكافح توطين اللاجئين الفلسطينيين»! علماً أنّ نصّ المادة المذكورة عدّل اقتراحاً سابقاً بحظر تملّك الفلسطينيّين، بحيث لجأ المشرّع ــ بما له من قدرة على التذاكي ــ إلى التعميم على نحو يشمل «محرومي الجنسية» كافة، درءاً لاتّهامات التمييز ضدّ هؤلاء وحدهم. وهو بذلك وسّع دائرة التمييز بحجة تفاديه!
واللافت أنّ المجلس الدستوريّ ــ ومهمّته مراقبة دستوريّة القوانين ــ نحا المنحى نفسه. فإزاء الطعن المقدّم ضدّ القانون بحجّة عدم دستوريّته لعلّة التمييز سنداً إلى الدستور ومعاهدات دوليّة عدّة، رُدّ الطعن بحجة أن للسلطات الدستورية حقوقاً سيادية محفوظة على الأراضي اللبنانية فيحق لها أن تمنع التملّك إذا كان هذا التملّك يتعارض مع سياستها العليا في رفض التوطين.
وهو بذلك بنى قراره على فرضيّتين:
الأولى أن الرابط ثابت بين رفض التوطين وتملّك حقوق عينية (مهما كانت طريقة التملّك، وسواء كانت من طريق الإرث أو الهبة أو البيع). وهذا افتراض غير معقول وعلى أيّ حال غير مثبت. فاليوم، ثمة أجيال متعاقبة من اللاجئين يعيشون في لبنان منذ الولادة، وبعضهم متأهّل من لبنانية أو مولود من أم لبنانية قد تكون مالكة ومورّثة لعقار، ولغالبهم إذاً روابط قوية وثيقة بلبنان، فهل يُعقل بعد كل ذلك ــ في ظل وجود هذه الروابط كافة ــ أن يُقال إن ملكية الأرض ــ ولو من طريق الإرث من أمّ لبنانية ــ تؤدي الى التوطين بخلاف صلة الرحم؟ وألا يعني ذلك أن المشرّع عدّ رابط تملّك الأرض لجهة تهيئة التوطين أقوى من الروابط الإنسانية والعاطفية الأخرى التي قد تكون نشأت بين اللاجئ الفلسطيني منذ 1948 ولبنان؟
أما الفرضية الثانية فهي وجوب منع «المحرومين من دولة» من التملّك تحقيقاً لهذه المصلحة العليا (أي رفض التوطين)، وذلك منعاً لقيام الروابط المؤدية إليه (!!). وهذا الافتراض يعني أولاً أنه رفع الأقنعة ــ الشفافة أصلاً ــ عن نوايا المشرّع لجهة تقصّد الفلسطينيين من الحظر، لكنه يعني أيضاً على رغم ذلك إقرار تعميم الحظر ليشمل سائر المحرومين من دولة عبثاً ومن دون أيّ مبرر، اللهم إلا إذا استنتجنا معه قاعدة جديدة مفادها أن الاحتياج الى دولة بات بحد ذاته تهديداً للمصلحة العليا، يستوجب، شأنه في ذلك شأن أي تهديد، العقاب!
الى ذلك، تجدر الإشارة الى اقتراح تعديلي لقانون العقوبات اللبناني (88) (إعداد هيئة تحديث القوانين النيابية) الذي جعل طرد «عديمي الجنسية» من البلاد لازماً في الجنايات وبعض الجنح، وذلك خلافاً للنص الحالي الذي يفرض عقوبة الإبعاد على الأجانب وحدهم... والمعضلة هنا أنه ليس لعديم الجنسية بلد يرحّل إليه، وخصوصاً إذا كان مرتكباً جناية أو جنحة، الأمر الذي يسوّغ تحويل عقوبة الإبعاد الى عقوبة اعتقال قد تصل الى خمس عشرة سنة!! والعقوبة هنا تكمن في حتميّة مضاعفة عقوبة «المحرومين من دولة» بالنسبة إلى سائر المحكوم عليهم، وتحديداً الأجانب ممن لهم جنسيّة. وبذلك، وفي حال إقرار هذا النص، يخطو المشرّع خطوة إضافية في انتقاله من المعاقبة مدنياً الى المعاقبة جزائياً.
هذه هي بعض أوجه المعاقبة التي تطول الفلسطينيّين ومعهم المحرومون من دولة تجنّباً لاتّهامات التّمييز! وقد لا تكون هذه الأوجه أسوأ أوجه حرمان هؤلاء، ولا السّبب الرئيس في تهميشهم، لكنّها بالتأكيد تعكس أمراً بالغ الخطورة مفاده تسخير المنطق القانونيّ في محاباة الهواجس والغرائز الى حدّ العبثيّة. وهذا هو بالضّبط ما سعى منطق هذا المقال الى ضبطه أملاً بنقضه.
* محامٍ وباحث قانونيّ