وهيب معلوف *
هزيمة اليسار في الانتخابات الرئاسية الفرنسية الأخيرة لها دلالاتها المهمة نظراً إلى مكانة فرنسا المفترضة في أذهان الكثـيرين بوصفها السدّ الأوروبي المنيع في وجه العولمة والمشروع الأميركي لفرض الهيمنة الأحادية على العالم. فقد جاء فوز نيكولا ساركوزي بالانتخابات الرئاسية الفرنسية ليعيد إلى الأذهان شعارات ومواضيع كان اليمين الأميركي قد استخدمها في معاركه الانتخابية ابتداءً من الحملة الانتخابية للرئيس الأميركي ريتشارد نيكسون.
بدا خطاب ساركــــــوزي الانـــــتخابي فريــــــــــــداً بتركّزه على شـــــــــــــــعارات مـــــــــــثل «الـــــــتــــــقهقر الوطني» و«الانحطاط الأخلاقي» ومقاومة الإيديولوجيا اليسارية المسؤولة، بحسب رأيه، عن شلّ الحركة الاقتصادية وإعاقة النقاش في الحيز العام. أما المسألة الاجتماعية، فيجب، بالنسبة إليه، إعادة مقاربتها بحيث تنتفي كونها عنواناً يتمحور حول الانقسام بين الأغنياء والفقراء أو رأس المال واليد العاملة، لتصبح عنواناً لصراع حاد بين شريحتين من الطبقة العاملة، أولئك الذين يرفضون العمل وأولئك الذين يرغبون فيه.
«التقهقر الوطني» شعار أثير لدي اليمين الأميركي منذ 40 عاماً. ففي صيف عام 1968، بدأ المرشح الرئاسي الأميركي اليميني ريتشارد نيكسون حمـــــــــلته الانتخابية بمدح الأكثرية الأمـــــــــيركية الصامتة والمتوجّسة من مشاهدة الولايات المتــــــــــحدة تنزلق الى الفوضى. كانــــــــــت تلك فترة تغلي بالاضطرابات على أثر اغــــــتيال مارتن لوثر كينغ وظهور ملامح الهزيمة الأميركية في حرب فيتنام. دعا نيكسون المواطنين الأمـــــــــيركيين للإصغاء الى «صوت هادئ في خضم الصراخ. إنه صـــــــــوت الأكثرية الكبرى من الأميركيين، الأمـــــــــيركــــــــــيين المنســــــــــيّين، أولئك الذين لا يصرخون ولا يتظاهرون. هؤلاء ليسوا عنصريين ولا مرضى، وليسوا مذنبين في شأن الجرائم التي تقضّ مضجع البلاد».
أما ساركوزي فقد استغل وقوع أعمال الشغب العنيفة في الضواحي الباريسية في تشرين الأول والثاني من عام 2005 ليطلق شعار «الأوقات العاصفة» ويمدح فرنسا المؤمنة بقيم الكفاءة والعمل الجاد و«المعتادة المعاناة (...) من دون أن تتذمر أو توقف القطارات أو تحرق السيارات». وفي خطاب آخر له حضّ حشداً من المناصرين على «النهوض والتعبير عن مشاعرهم كأكثرية صامتة». كل هذا جاء ليتماهى مع تقليد قديم في فكر اليمين المحافظ: تجنّب الخوض في أي نقاش حول المصالح الاقتصادية والعدالة الاجتماعية عبر التركيز على قيم مثل النظام والكفاءة والاحترام والدين. فأي حديث عن القيم غالباً ما يعطي اليمين فرصة لإرباك الخصم وإضعافه باعتبار أن أغلبية الناخبين عادة ما يكون انقسامها حــول القضايا الأخلاقية أكثر حدّةً منه حول القضايا المعيشية. ومن هنا ادعاء ساركوزي أن «الورثة الحقيقيين لأحداث أيار 1968» الفرنسية قد «أطلقوا العنان للحقــــــد على العائلة، المجتمع، الدولة، الوطن والجمهورية».
إلا أن اليمين لا يعزو «التقهقر الوطني» الى أسباب أخلاقية أو ثقافية فحسب، بل يعتبر أيضاً أن بعض السياسات الاقتصادية تؤدي دوراً في تقويض قيمة العمل وأخلاقياته، مثل زيادة الضرائب وخفض ساعات دوام العمل. والحال أن اليمين النيوليبرالي المدعي التزامه آليات اقتصاد السوق والمنافسة الحرة والشفافة لا ينفك يتدخل باستمرار لمصلحة الشركات الكبرى والمساهمين فيها، على غرار ما فعل الرئيس الأميركي الراحل رونالد ريغان ورئيسة الوزراء البريطانية السابقة مارغريت تاتشر. قوّض الأول، بعد وصوله الى الرئاسة عام 1981، النقابات العمالية وجمّد الحد الأدنى للأجور وخفّض مستوى ضريبة الدخل. أما تاتشر فقد واجهت إضراب عمال المناجم في تموز من عام 1984 بإعلانها أن الإذعان لمطالب العمال المضربين يعادل استسلام الحكم الجمهوري الديموقراطي لـ«حكم الرعاع»، قبل أن تقوم بحرمان المضربين تقديمات الدولة لهم وإجبارهم على العيش اتكالاً على الصدقات وتبرعات المؤسسات الخيرية، بعدما رفضت غالبيتهم إنهاء الإضراب والعودة الى العمل.
ويبدو ساركوزي مستعداً لإحداث «القطيعة مع الماضي» ووضع أفكار الاقتصادي النمساوي الليبرالي المحافظ فريدريش فون هايك ــ المرجع الفكري لأسلافه اليمينيين رونالد ريغان ومارغريت تاتشر وأوغستو بينوشيه ــ موضع التنفيذ، ليس أقله إعلانه نيّته فرض قيود على حق التظاهر في بعض قطاعات الخدمات العامة مثل التعليم والنقل.
أما في موضوع العلاقات الخارجية فقد عبّر ساركوزي عن طموحه لعودة فرنسا الى دورها المركزي الأوروبي واستعادة دورها المتقدم في العلاقات الدولية الذي انحسر الى حد بعيد أمام الاندفاع الكبير لسياسات الإدارة الأميركية مع صعود المحافظين الجدد. وتعيين الاشتراكي برنارد كوشنير وزيراً للخارجية يبدو، بحسب عدد من المراقبين، أكثر من كونه مجرد مناورة سياسية من قبل ساركوزي لإرباك اليسار قبيل الانتخابات التشريعية، إذ يعتقد هؤلاء أنه يعكس تحولاً في السياسة الخارجية الفرنسية ورغبة في بناء «عقيدة» فرنسية جديدة تعزز الدور الفرنسي بالتركيز على قيم مثل حقوق الإنسان، وخصوصاً في مناطق مثل دارفور وروسيا. وهنا تحديداً يأتي دور برنار كوشنير، أحد مؤسسي جمعية «أطباء بلا حدود» والرئيس السابق لبعثة الأمم المتحدة لإدارة شؤون كوسوفو، الذي يجمعه وساركوزي الازدراء لنزعة العداء الفرنسية لسياسات الإدارة الأميركية. كان ساركوزي قد دان المعارضة الشديدة لأغلبية الفرنسيين للحرب على العراق، فيما كان كوشنير أحد الفرنسيين القلائل الذين رأوا فائدة في غزو العراق، على الرغم من انتقاده لاحقاً لتداعيات هذا الغزو. ويطمح الرجلان الى تحسين العلاقات الفرنسية ــ الأميركية التي ساءت الى حد كبير بعد الغزو الأميركي للعراق عام 2003. ومن المتوقع أن يشمل هذا التحول أيضاً مناطق أخرى، باعتبار أن ساركوزي أكثر تعاطفاً مع إسرائيل، أقل مسايرة لروسيا، وأقل انحيازاً الى لبنان من سلفه جاك شيراك. ومهما يكن من أمر، وعلى الرغم من الحديث عن بداية تحوّل نوعي في السياسة الخارجية الفرنسية، يعتقد الكثيرون أن وعد ساركوزي الانتخابي بـ«القطيعة مع سياسات الماضي» لا بد أن يفضي به الى انتهاج سياسة خارجية أكثر تناغماً مع الإدارة الأميركية من أسلافه، على الأقل في المدى المنظور.
* باحث لبناني