نسيم ضاهـر*
تمحورَ السِّجَال السياسي حول أنصبة السلطة وما دعيَ بالمشاركة الفعلية، عنوانها حكومة وحدة وطنية تعدّدت وتبدّلت أوصافها لترسو على وفاق وإنقاذ. وفي سياق البحث الدؤوب عن مخارج للأزمة، ذهب فريق إلى المناداة بحكومة طوارئ قطعاً للملوّح به من أبغض الحلول، والمتمثل باستيلاد حكومة موازية لتلك القائمة ودخول لبنان في نفق مجهول.
دار غالب المشاحنة يبحث عن صيَغ رقمية ومعادلات في التركيبة الوزارية المرجوّة، جعلتها المعارضة في صلب مطالبها، ولم تدلّ، لغايته، إلا بمسوغها العاري من المضمون. في المقابل، تقدّمت السرايا الحكومية باقتراح معالم البرنامج العتيد على أساس قرارات الحوار الوطني وما تلاها من نقاط سبع وقرار دولي رقم 1701. دون نفي وجاهة وراهنية هذه الشروط المتبادلة والبنود الواردة في مبادرة الفريق الحاكم، فإنها لا تعدو عن كونها غلافاً لتوضيبة وزارية محتملة تحوز الفذلكة بالمعنى السياسي، ويعوزها تعريف الجوهري الكامن، وتبديد الغشاوة التي تلف الكلام.
ما من غضاضة أو شك أن للسياسة مقاماً تستوي عليه فيصلاً كامل المشروعية والكيانية، وملخصاً للمسار المرسوم. إنما الأصل والمرجع في المحدّدات النابعة من رؤية مجتمعية قوامها النموذج الذي تصبو السياسة للتعبير عنه وترجمته واقعاً بمختلف أركانه وحقوله وعيّناته. فقياس صلاحية النهج السياسي، والحكم عليه، رهنٌ بمدى مطابقته لقواعد الاجتماع والاقتصاد، واتصاله بالمبادئ التي أسست لثوابت العقد الدولتي وطبعت أنماط السلوكية وأساليب الحياة في كيان سيادي معيّن. ومن الناحية المنهجية، يفترض التبويب المنطقي السليم أولوية المفهوم الشامل وتقدمه على مشتقاته باعتبارها امتداداً له وفرعاً من أرومة، فلا تفصل الحقوق عمّا يلازمها من واجبات في دولة القانون، ولا تشهر التوافقية في تعارض أو تغاضٍ عن الديموقراطية وهي الحاضنة الأرحب، على سبيل المثال.
يجمع اللبنانيون على أن النظام الجمهوري الديموقراطي البرلماني خيارهم الأوحد الصريح. ويحرصون جميعاً على الاحتكام إلى دستور تضمّن، منذ قيام الدولة، نصوصاً لا لُبس فيها، تؤيّد وتثبت هذه المبادئ، على مرِّ التعديلات. لكن هذا الدستور لم يجترح من عدم، بل جاء يستوحي مواده ومندرجاتهِ، وروحه على وجه أخصّ، من فضاء تجارب عريقة معروفة النسب والمنشأ، لفظت الاستبداد والشمولية والحكم الفردي والتفويض الإلهي والولاية المطلقة والتوريث. لـذا، وأنَّـى قادت مسالك السياسة ومعارجها، يصعب على من ارتضى بأحكام الدستور اللبناني، التماثل مع نماذج وأنظمة قريبة جغرافياً أو حليفة عقيدياً، أو مقاربة الحياة الديموقراطية على منوالها.
قامت الثقافة الجمهورية في لبنان على التعددية واستيعاب التنوع في ما سمِّي العيش المشترك. إلا أن التسليم بالأمر، يستدعي إقراراً مطلقاً بالحريات الضامنة والعمل بموجبه. على هذا المحكّ نمتحن السلوكيات والأفعال، ويتبين مدى الحرص على الجامع العام السمح وترجمته في مجتمع مدني كامل الأوصاف، يعلو السياسي ويشكل المعيار ومرجعية القياس. من هذا المنظور، تزيّن الخصائص والعادات والتقاليد اللوحة المجتمعية، وتغنيها بتلاوين وميزات، بخلاف التمايز الفج والمقيِّدات العصبوية وسائر ما ينحو بالأخلاقيات إلى دائرة الفرض والتحريم.
يعاني لبنان آفة الطائفية (والمذهبية) التي شوَّهَت النسيج الاجتماعي، وحاصرت فوائده، وكأنه نقمة لا نعمة. بيد أن الرهان السياسي على الاختلاف، وما يستجره من تقوقع وتزمت، فاق درجة المقبول، وفاقم الصراع ودفعه إلى حافة تهديد السلم الأهلي. ولئن توزعت المسؤوليات على جميع الأطراف العاملة في المجال السياسي، إلاّ أن الاستثمار الديني والمذهبي، بقي على تفاوت في النبرة والغلاف والحياء في الممارسة، حسب المراحل وتبعاً للمناخات الظرفية، بحيث تعاقب أبرز ممثلي الطوائف الكبرى على حمل مشعله تباعاً. وليس بمبالغ القول (ولا بمجانب لحقيقة الوقائع) أن طبعته الحالية تلتصق ببعد شعائري خصب وتتسم بمظهرية بائِنَـة، فيما أوثقت الرباط بين الديني والسياسي في كيان صريح المعالم، شديد اللحمة وحديدي التنظيم. تلك إشكالية معهودة لدى التنظيمات الخارجة من رحم المقاومة، في جوانب عدة من الملامح العصبانية، حفاظاً على السرِّية وحُسن الأداء والقتالية والجهوزية، لكنها حبلى بالمعوقات وصعوبات التأقلم في زمن الانتقال إلى مرحلة الانخراط في العمل السياسي المكشوف ومحاكاة المكوّنات الأخرى على قدم المساواة. فما كان صالحاً بالأمس وسياجاً للحركة النضالية في وسط الجماعة طلباً للنصرة وتحمل التضحيات، قد لا يستمر مؤاتياً للتصرف العلني والمنافسة في حلبة السياسة وفق قوانين الديموقراطية الصرفة.
حاكت المقاومة شبكة علاقات وأمان ودعم في سبيل حماية كيانها وأمنها وعملياتها. وكانت على صواب في ما عمدت إليه لحشد التأييد وإنجاز المهمة في ضوء ما عانته من محاولات اختراق استخباراتي وتربص عدواني إسرائيلي بها دون رحمة أدى إلى تقديمها كواكب الشهداء بلا حساب.
غير أن اصطفافها اللاحق في محور إقليمي بما يشبه اتباع سياسة وعلاقات خارجية مستقلة، يتجاهل رضاءها بسقف الدولة وسيادتها. كذلك، فإنها استقت من الجهادية ضرورة الحفاظ على سلاحها وكيفية استخدامه منفردة وبقرار ذاتي، غير آبهة بالمُستجدات التي صنعها التحرير ومن ثم التصدي المشرف للعدوان، فيما تدرك يقيناً الهواجس الكامنة لدى الشركاء في الوطن جرّاء عدم التكافؤ العضوي وهشاشة البناء الدولتي القائم. فبمعزل عن المساجلة حيال الخطة الدفاعية والدولة القوية المقتدرة، لا مناص من الاعتراف بأن ثمة توازناً مفقوداً يلحظه عموم الفرقاء، يستثيره الشعور المتنامي بأن حزب الله يدير ويسلك سياسة خارجية وربما دفاعية، على هامش الدولة، وينتقص بالتالي من أبرز مظاهر امتيازاتها في الحقل السيادي.
ينعم لبنان بنظام قضائي أصيل قائم على الشرعية القانونية واحترام الأصول والحريات. مع ذلك، لم يكن الجسم القضائي بمنأىً عن المُداخلات والتجاوزات الفاضحة أحياناً، بحكم الخلل الذي سادَ مفاصل الدولة ومرافقها. ومن نافِل القول أن مبدأ فصل السلطات، الموثق دستورياً واعتبارياً ميثاقياً، فشل في تحقيق كامل غاياته، إذ لحق بالمؤسسـات ما يجانب الدستور والاستقلالية الناصعة، وينال من عافيتها ورونقها. إنما المسألة لا تستوي على صعيد الأعطاب عند القياس والمفاضلة مع مناهج وخيارات وبُنيان قضائي سارت وتسير عليه دول الجوار المنسوب إليها التحالف والصداقة. فالمقارنة المنزَّهة عن الأهواء، تشي بفوارق عظيمة، لناحية جوهر العدالة وأصول تنفيذها وسياجها القانوني، تعطي لبنان (الضعيف) رصيداً مؤكّداً مبنياً على تقاليد راسخة وحيطة ديموقراطية وضوابط قانونية وحفاظ على قدسية الدفاع وحقوقه، رغم العثرات والتشوّهـات. لذا، ينفر معظم اللبنانيين من العدالة المعلبة والمسلوبة، ويتابع بكثير من الاستغراب والاستهجان المحاكمات الصورية في غير بلد من المحيط الإقليمي؛ ولا يُظنّ قبول شرائح مجتمعنا بها نموذجاً يُحتذى به أو بديلاًً، لأنها تجسِّـد غلبة السياسي على القانوني العادل، وخروجاً على ما ارتضت به نظاماً وحُكماً. وعليه، تملي الدراية والعناية بصدق القول أن الوجداني الجمعي في بلد معقد عرف المآسي والاقتتال، ما فتئ شديد الرفض لتقييد الحريات والانحناء أمام الأحكام العرفيّة وحالة الطوارئ والفتاوى، على اختلاف المذاهب والمشارب والانتماء السياسي.
إنّ مجموع هذه المعطيات/ المزايا يضرب في عمق التاريخ، مرآة مجتمع/ ملاذ عرف باكراً معنى الاضطهاد على أشكاله، واكتوى بنارها على تعاقب أجياله. منه نستخلص العبرة الحكيمة القائلة بضرورة مواءمة السياسات مع المعطى المجتمعي والتاريخي، بتكاوينه وقيمه ومبادئه المؤسسة وتراثه. تلك هي البوصلة المرشدة وأرض صناعة السياسة، وإليها ينشدّ الاحتكام. من متنها تولد المشاركة الصحيحة بناءً على مقدمات وركائز عميقة الجذور ومسلّمات، وتصبح أنصبة الحكم وحصصه مجرد توازنات فوقية ومسألة تفعيلات ومُتغيرات قابلة للمراجعة والنقض والتداول عند أول استحقاق.
* كاتب لبناني