strong>محمّد طي *
وأخيراً أنشأ مجلس الأمن، بناء على اقتراح أميركي ـ بريطاني ـ فرنسي، وبأغلبية عشرة أعضاء من أصل خمسة عشر عضواً، محكمة دولية خاصة بلبنان، وذلك تحت الفصل السابع من ميثاق الأمم المتحدة، وهي الحالة الثالثة بعد حالتي يوغوسلافيا السابقة ورواندا.
وإذا كانت كل من يوغوســــــلافيا ورواندا قد تورطت فيهما السلطات نفـــــــسها وارتــــــــكبت أعمال إبادة وجرائم ضد الإنسانية وجرائم حرب، فإن حالة لـــــبنان مختلفة تماماً. فالسلطة لم تكـــــــن متورطة، والجريمة المرتكبة عُدَّت جريمة إرهابية، علماً بأن الإرهاب غــــــــــير معرفّ بشكل واضح في القـــــــــــانـــــــــون الدولي، وعُدَّت الجريمة كالجرائم التي ارتكبت في يوغوســـــلافيا وروانــــــــــدا، تهديــــــــداً للسلم والأمن الدوليين (فقرة أخيرة من مقــــــدمة القرار 1757) وتـــــــبريراً لتدخل مجلس الأمن. ويطرح القرار عدداً من المشاكل تتعلق بالوقائع والقانون وسنركز على عدد منها:
أولاً: مسألة الإلزام
تنص المادة 39 من ميثاق الأمم المتحدة، التي يستهل بها الفصل السابع، على «أن يقرر مجلس الأمن إذا ما كان قد وقع تهديد للسلم أو إخلال به أو كان ما وقع عملاً من أعمال العدوان، ويقدم في ذلك توصياته أو يقرر ما يجب اتخاذه من تدابير...». إذاً يستطيع مجلس الأمن أن يقرر، وبالتالي يلزم الدولة أو الدول المعنية. في حين أن النص في الفصل السادس يقول: «أن يوصي مجلس الأمن بما يراه مــــــــلائماً (م36/1 وم 37/2).
لكن على من يقع الإلزام؟ إنه يقع على الدول المعنية، وهي تحدد بالقرار الذي يتخذه المجلس تحت الفصل السابع، ففي القرار 827/1993 القاضي بإنشاء محكمة يوغوسلافيا والقرار 955/1994 القاضي بإنشاء محكمة رواندا، أتى النص (بند 4 وبند 2 على التوالي): «يقرّر (مجلس الأمن) أن تقدم كل الدول تعاونها الكامل إلى المحكمة وأعضائها طبقاً لهذا القرار وللنظام الأساسي للمحكمة الدولية، وأن تتّخذ كل التدابير الضرورية وفقاً لقانونها الداخلي لتضع موضع التنفيذ أحكام هذا القرار، بما فيه الإلزامات الواقعة على الدول أن تستجيب لطلبات المساعدة وللأوامر الصادرة، عن محكمة الدرجة الأولى طبقاً للمادة (28 و 28 على التوالي في القرارين). كما يرجو الدول أن تستمر في تقديم المعلومات إلى الأمين العام حول ما تتخذه من تدابير.
أما في قرار محكمة لبنان، فليس من ملتزم إلا لبنان، إذ لم تلزم أي دولة، أخرى على التعاون، رغم سابقة عدم تعاون بعض الدول مع التحقيق الدولي وفقاً لما يلزمها به القرار 1595.
وقد يثار هنا القرار 1566 الذي يلزم الدول بالتعاون في محاكمة الإرهاب، إلا أن البند الثاني يهيب بالدول أن تسلّم المتورطين أو تحاكمهم. إذاً لا إلزام هنا لأي دولة بأن تسلم أي مشتبه فيه إلى المحكمة الدولية الخاصة بلبنان.
ثانياً: عدم اكتراثه بالأصول الدستورية اللبنانية
إذا كان لمجلس الأمن أن يقرر ما يراه مبدئياً، إلا أنّه من غير الجائز أن يجعل الأعمال المخالفة للقانون الداخلي قانونية، ومن هذا:
أ ـ اعتباره الوزراء الحاليين والرئيس السنيورة «حكومة لبنان (الفقرة 2 من المقدمة) رغم الخلاف الداخلي الشديد حول دستوريتها وميثاقيتها وعدم اعتراف رئيس الجمهورية بها.
ب ـ يشير إلى رسالة رئيس وزراء لبنان، التي يطلب فيها إنشاء المحكمة «ذات الطابع الدولي (فقرة 3 من المقدمة)».... متجاهلاً الأصول الدستورية التي تجعل رئيس الجمهورية في لبنان هو الجهة التي تمثل الدولة حسب اتفاقية فيينا لأنه هو «رئيس الدولة (م 49/1 دستور) وهو الذي يعتمد سفراء لبنان في الخارج ويقبل اعتماد ممثلي الدول في لبنان (م 53/7 دستور)»، كما يتجاهل رسائل رئيس الجمهورية وهي الأَولى أن تؤخذ بالاعتبار.
ج ـ اعتباره «ممثلي لبنان» في المفاوضات حول المحكمة الدولية «ممثلين مأذوناً لهم من الحكومة اللبنانية» علماً بأن الإذن يجب، حسب الدستور (م 52) أن يصدر عن رئيس الجمهورية أولاً، وهذه الشكلية كان يجب التأكد منها قبل البدء بأي مفاوضات كما تنص معاهدة فيينا حيث يجب التأكد من صحة أوراق اعتماد المفوضين (م7).
د ـ اعتبار أن هناك اتفاقاً بين «الجمهورية اللبنانية» والأمم المتحدة (فقرة 6 من المقدمة) رغم كل العيوب التي رافقت المفاوضات ورغم عدم مصادقة مجلس النواب كما تقضي المادة 52 من الدستور عندما تنطوي المعاهدة على شروط تتعلق بمالية الدولة... وسائر المعاهدات التي لا يجوز فسخها سنة فسنة.
هـ ـ اعتبار أن «الأغلبية البرلمانية» أعربت عن تأييدها للمحكمة، رغم أن البرلمان لم ينعقد، فكيف يكون هناك أغلبية؟ إذ لا يكفي أن توقع عريضة أو ما إلى ذلك لتحل محل التصويب حيث يقتضي الدستور ذلك.
ثالثاً: التوصيف التحكّمي للوقائع
حيث عد اغتيال الشهيد الحريري مهدداً للسلم الدولي (فقرة 12 من المقدمة)، رغم أنه قد مرّ على الجريمة ما يزيد على سبعة وعشرين شهراً دون أن يحدث أي تهديد لأي بلد، لكن الأمر حصل لتبرير تدخل مجلس الأمن وتحت الفصل السابع، الأمر الذي يدعو إلى الريبة الشديدة، ولا سيما أن التحقيق ما زال بحاجة إلى جهد قد يزيد على سنة.
رابعاً: في مسألة التمويل
إن الواجبات المالية المترتبة على لبنان، وكانت محددة بـ 49% من تكاليف المحكمة تقع على لبنان، ويدرك أعضاء مجلس الأمن أن الأمر يحتاج إلى تصويت البرلمان كل سنة، وتلافياً لرفض برلمان قد يكون غير الموجود اليوم، فقد جاء القرار (بند 1/ج) أنه إذا لم تكف مساهمة الدولة اللبنانية «فإنه يجوز (لمجلس الأمن) قبول تبرعات من الدول الأعضاء لتغطية أي نقص».
إلى كلّ هذا، أُقرَّت المحكمة تحت الفصل السابع، رغم أن السلطة القائمة في لبنان لا تحتاج إلى ذلك الفصل لتلبّي متطلبات «المجتمع الدولي». فهل كان الاستعجال لوضع لبنان في ظل أي حكومة مستقبلية تحت وطأة هذا القرار، تمهيداً لفرض ما يقرره «المجتمع الدولي» فيما لو قامت حكومة غير «حليفة» لهذا المجتمع الدولي، فإذا لم تستجب تعرض لبنان للعقوبات.
وهل هذا ما قصد إليه أولئك الذين وقّعوا الرسائل إلى الأمين العام للأمم المتحدة؟
* أستاذ القانون في الجامعة اللبنانيّة