أسعد أبو خليل*
كان من الضروري، وفقاً للاحتفاليّة الظاهرة التي رافقت تذكّر الإعلام السعودي لذكرى 1967، وذلك للتشفي من عبد الناصر (وخصوصاً أنّ آل سعود تهيّبوه في حياته) وبثّ فكر الهزيمة، أن تكرّس حلقات خاصة للحديث باستفاضة عن أخطاء عبد الناصر، وذلك للتدليل على حكمة آل سعود وبُعد نظرهم. وفقاً لهذه الخطّة (أرجو أن أُعَدّ من المؤمنين بنظرية المؤامرة، إذ إنّه من الغباء أو من الخبث (أو الاثنين معاً) السخرية منها في عصر الجسر الجوي الأميركي لجيش لبنان، يا للحنوّ)، كان من الضروري أن تستضيف قناة «العربيّة» عسكرياً لبنانياً يمثل عقيدة الجيش اللبناني أيّام لبنان في عصره «الذهبي». وخير من يقوم بالمهمّة هو اللواء أحمد الحاج الذي ترقّى في المؤسّسة العسكرية اللبنانية بسبب ولائه السياسي الشهابي لا بسبب بطولات عسكرية فذّة. وهو يمثل اليوم خير تمثيل عقيدة الجيش اللبناني أيام شارل الحلو («قوة لبنان في ضعفه» وفي خنوعه أمام الاعتداءات الإسرائيلية)، ويُراد لتلك العقيدة أن تعود اليوم لتؤهّل لولوج لبنان في عصر السلام مع إسرائيل (وعود الربيع المقبل، أوَتذكرونها أيّها اللبنانيون واللبنانيات؟).
استضافت إذاً الإعلاميّة جيزيل خوري في برنامجها «بالعربي» اللواء الحاج. وهي بالمناسبة كانت قد قامت بعمل مضنٍ بالفعل في برنامجها «الوثائقي» عن سمير جعجع قبل أشهر، والذي طوّبته فيه قديساً لا يحتاج إعلان قداسته الرسمي إلا إلى معجزتين اثنتين.
والمعروف أنّ السيّد الحاج تولّى منصب «قيادة» قوات الردع العربية عند بداية تشكيلها، وهي كانت «عربية» مثلما توصف قوات الاحتلال الأميركي في العراق بـ«قوات التحالف الدولي». لكن السيد الحاج الذي خضع لقيادة النظام السوري في قيادته الإسمية والشكلية لتلك القوات، يحاول في مقابلاته المستجدّة إعادة كتابة تاريخه وتصوير نفسه بأنّه كان معارضاً شرساً للنظام السوري، وكأن النظام كان سيسمح بتنصيب معارض للنظام في قيادة قوات الردع «العربية» طبعاً. لكن من الإنصاف الملاحظة أنّ كلّ الذين تلقّوا تعليماتهم من مركز المخابرات السورية في لبنان يحاولون اليوم اصطناع مواقف بطولية في معارضة النظام السوري. أنلوم اللواء الحاج في زمن تحوّل فيه سامي الخطيب إلى داعي سيادة لبنان؟
بدأ اللواء الحاج الحديث على الطريقة اللبنانية، مدلّلاً على نباهته (نتاج العبقرية اللبنانية التي تحتفل بها يومياً جريدة النهار). إذ إنّه، وبمهارة شرلوك هولمز، اكتشف قبل أسبوعين من الحرب في 1967 أنّ إسرائيل تعدّ للحرب. وكأنّ هذا كان خافياً على كلّ من تسنّى له قراءة الصحف آنذاك. وعندما ذكر بأن دورته العسكرية في فرنسا ضمت في عدادها ضابطاً إسرائيلياً، لم تنسَ مقدّمة البرنامج السخرية من فكرة عدم التعاطي «مع الإسرائيلي». فالحضارية، وفق معايير نخبة المجتمع البورجوازي في لبنان، تعتبر التعاطي الاجتماعي وحتى السياسي «مع الإسرائيلي» من سمات الرقي والتقدم. وهذا يفسر سبب إلقاء التحية ـــ فقط التحية ـــ من قبل وليد جنبلاط على سياسيّة إسرائيليّة بعد أسابيع فقط من الحرب الإسرائيلية على لبنان (ولاحظوا أنّ وليد جنبلاط تحوّل بين ليلة وضحاها إلى عتاة الحضارية في لبنان بمجرّد انتقاله السريع ـــ بعد أن زالت «الغشاوة عن عينيه» كما شرح لنا وبإقناع شديد ـــ من الركب السوري ـــ الإيراني إلى الركب الأميركي ـــ السعودي (حتى لا نضيف صفات أكثر).
واستمرت رواية اللواء الحاج في تشديده، وبابتسامة النبيه، على فكرة رفض المشاركة اللبنانية في حرب 1967. وقال إنّ الحكومة اللبنانية ردّت على استفسار إسرائيلي من لجنة الهدنة آنذاك (آه لو تُنشر يوماً ما محاضر لقاءاتها غير الرسمية) وشددت على احترامها الشديد لاتفاقية الهدنة، فيما كانت إسرائيل تغير على ثلاث دول عربية. ولا شك أن الحكومة اللبنانية اتّبعت دائماً سياسة تطمين إسرائيل من عدم وجود نيّات عدوانية نحوها، حتى إنّ أفي شلايم (المؤرّخ في جامعة أكسفورد) يروي بناءً على ما نشر من وثائق تلك المرحلة أنّ وفد مفاوضات الهدنة مع إسرائيل أخبر الجانب الإسرائيلي «بأننا لسنا عرباً» وأنّ لبنان سيق ضد إرادته في حرب فلسطين. يُذكر أنّ المفاوضات مع الوفد اللبناني كانت الأسهل بين كل الدول العربية، وفقاً لروايات من شارك فيها من قبل الصهاينة. (بالمناسبة، هل تزال الصهيونية سبّة عند حضاريّي ثورة الأرز أم أنها تحوّلت إلى دليل حضاري آخر يُضاف إلى سلسلة من الدلائل الحضارية التي تبدأ بتقديم الشاي إلى المحتل وتنتهي بجولة من الاعتذارات الشخصية عن كل نقد وُجّه في الماضي إلى الولايات المتحدة).
لم ينس اللواء المغوار الحاج أن يسخر وباحتقار شديد من «قيادي عسكري» لبناني آنذاك لم يتورّع في اجتماع مجلس الوزراء الذي انعقد للنظر في طريقة التعاطي اللبناني مع حرب 1967عن اقتراح قصف المدفعية اللبنانية لمواقع إسرائيلية في المطلة، وذلك تضامناً مع الجيوش العربية. وأضاف الحاج متنهّدا إنّ الاقتراح لم يلقَ تجاوباً «لحسن الحظ» (قالها بالفرنسية). ففي عقيدة الجيش آنذاك، كان ممنوعاً توجيه ولو رصاصة ضد المحتل الإسرائيلي مهما فعل. حتى إن كرستن شولتز تروي في كتابها «سياسة إسرائيل السرية في لبنان» أن الجيش الإسرائيلي نسّق مع بعض قيادة الجيش اللبناني عندما اجتاح لبنان في 1982. وكان سعد حداد قد بدأ بالتنسيق مع إسرائيل منذ أوائل السبعينات وفق ما تذكر المراجع العبرية.
يستمرّ اللواء الحاج في روايته ليركّز على اتّفاقية القاهرة بين الحكومة اللبنانية وبين «شذاذ الآفاق» وفق لغته. واستعمل اللواء الحاج عبارة «السوري» و«الفلسطيني» وكأن الكلمتين بذيئتان، على طريقة لفظ سولانج الجميّل (التي لم تتجول في بربور بعد بالرغم من دعوة شهيرة من وليد جنبلاط).
وفي معرض حديثه عن الشعب الفلسطيني، لم ينس اللواء الحاج ترداد المقولة الرائجة عن حسن ضيافة لبنان للشعب الفلسطيني. ذكّرته جيزيل خوري، وبخجل وتردّد واضحين، أنّ الشعب الفلسطيني يتمتّع بحقوق في الأردن وسوريا لا يتمتّع بها في لبنان. ثمّ أرادت خوري أن تمهّد للّواء الحاج للحديث عن اتّفاقية سلام بين لبنان وإسرائيل. وأجاب الحاج عن هذا التساؤل بإيجابية شديدة وبحزم شديد. فاختار التعبير عن حالة السلم بين إسرائيل ولبنان عبر التحدث عن «رفرفة العلم الإسرائيلي» في أكثر من عاصمة عربية، وذكّر المشاهدين والمشاهدات بأنّ محمود عباس (وهو عزيز جداً على قلوب ثوار الأرز، حتى على قلوب أكثر كارهي الشعب الفلسطيني بينهم، ربّما لأنّ عباس مثلهم «يحب الحياة») يجتمع دورياً مع رئيس الحكومة الإسرائيلية. عندها سألته خوري، وبابتسامة الحالمة، ما إذا كان «العلم الإسرائيلي سيرفرف في دمشق».
مرّة واحدة فقط، في البرنامج المذكور، انزعجت خوري من اللواء الحاج، المحب للحياة. إذ إنه عاد بالذاكرة إلى انقلاب القوميين وتحدث عن غضب فؤاد شهاب من الملك حسين آنذاك، وروى كيف أن شهاب رفض تلقي مكالمة هاتفية منه لشكّه بأنه دعم الانقلاب المذكور. لم تحبّذ خوري مسار الحديث. قاطعته فوراً، قائلة «لا نريد الدخول في تلك التفاصيل». ثم زادت من عندها أن «عبد الناصر أيضاً كان يتدخل في شؤون البلدان الداخلية». نسي اللواء الحاج، للحظة، الدور المرسوم له. شطّ اللواء الحاج، وبعفوية شديدة. لكن جيزيل أعادته بسلام إلى الصراط المستقيم. غيّرت الموضوع وبسرعة. و«العربية»، كمحطة حازمة في هذا المجال، يعمد مذيعوها ومذيعاتها دائماً إلى مقاطعة الضيف الذي يشطّ في مهاجمة أميركا وأحياناً إسرائيل.
لبنان يتغير، وبسرعة فائقة. ومع هذا التغيير، يتغير أهل الساسة في لبنان، وبإشراف سعودي. انتهى البرنامج وانتهى دور أحمد الحاج. نتساءل: لماذا لم ينطق بالحق من قبل؟ لماذا لم يدلُ بدلوه من قبل؟ هل كان يشكو من تلك الغشاوة التي غطّت عينيْ وليد جنبلاط على امتداد ثلاثين سنة؟ وتلك الغشاوة، هل هي معدية؟ ومتى تزول؟ وكيف تعالج؟ نخشى أن يستبدل اللبنانيون غشاوة بأخرى، لا تقلّ عنها، غشاوة.
* أستاذ العلوم السياسية في جامعة كاليفورنيا