فاروق حجي مصطفى*
قد لا نختلف بأنه قبل تسلّم رجب طيب أردوغان (رئيس الحكومة التركية) الحكم، كانت تركيا تعيش في الأزمة من كل النواحي. فقد كانت على مفترق الطرق: طريقها إلى الاتحاد الأوروبي غير سالك. علاقاتها مع الجوار سيئة للغاية. سلوكها (سلوك الدولة) متوتّر ومتحسّس من كل شارد ووارد. علاقات مجتمعاتها الداخلية متصارعة ومتصادمة. نظام الحكم يدار من العسكر والحركة القومية. اقتصادها متعب. وكانت في وضع لا تستطيع فيه اتخاذ أي قرار استراتيجي بالنسبة إلى مستقبلها. والحق يقال، فقط علاقاتها مع إسرائيل كانت على ما يرام.
حقبة «أردوغان»
وقد لا نختلف أيضاً مع أحد في أنه بعد مرور سنوات من حكم أردوغان، شهدت تركيا تغييرات، سواء أكانت على مستوى القوانين (الدستور) أم على مستوى علاقاتها الأوروبية وعلى مستوى علاقاتها مع الجوار. لكن، بالمقابل، لم يستطع حزب «العدالة والتنمية» أن يقول بأنه حقق حلمه في نقل تركيا «إلى مرحلة الدولة الذكية». ولا يستطيع هذا الحزب أن يثبت أنه نجح بإعطاء صورة جميلة وذكية لإسلامه، الذي قال الكثيرون، بما فيهم أميركا بأنه نموذج جيد للمنطقة.
والحق أن حكومة «العدالة والتنمية» نجحت في الحفاظ على علاقة مع إسرائيل، وإن اصطدمت هذه العلاقة بمطبات هوائية، لكنها بقيت واستثمرت في أكثر من جهة، ولأكثر من مرة لمصلحة العرب وإسرائيل.
عملت تركيا على خط الوساطة بين الأطراف المتصادمة. اكتشفنا مدى براغماتية أردوغان، الرئيس السابق لبلدية عاصمة تركيا الاقتصادية، اسطنبول، ومدى ذكائه ودهائه. استطاع أن يمسك العصا من الوسط. رأيناه وهو ينتقد تصرفات الإسرائيليين بحق الفلسطينيين والقدس، ورأينا أيضاً كم هو متحفظ على السياسات العربية، وهو يظهر عدم رضى عن تعاطي العرب مع مسائلهم.
المختلف مع العدالة والتنمية لا يستطيع نكران أن اردوغان استطاع أن يحضر بلده بقوة في أي اجتماع وأي محفل دولي. رأيناه كيف يتعاطى مع المسألة اللبنانية. تعلن تركيا مشاركتها في قوات «اليونيفيل»، ومن زاوية أخرى تشترط عدم مقاتلة عناصر حزب الله. وهذا الوضع ينطبق على أفغانستان أيضاً. أما في موضوع الملف النووي الإيراني، فتركيا تكتم مواقفها. حتى الآن لم تعط رأيا صريحاً، لم تنضم إلى «الحلف السني» في المنطقة، مع أنها سنية. استطاعت أن تتجاهل السعودية ولم تقل بأنها ضد هذا «الحلف». لها علاقات مع دول ما يسمى بدول الممناعة (سورية، إيران)، وما زالت علاقاتها جيدة مع الدول «المعتدلة» (مصر، سعودية، الأردن).
علاقاتها مع سورية تشهد تحسناً يوماً بعد يوم، مع أن العلاقة شهدت بعض التحسن من قبل تسلم أردوغان، لكون الاتفاقية الأمنية بين الدولتين تسبقه بحقبة. لكن هذه العلاقة (السابقة) بدت أنها جامدة وكانت معرضة للسقوط. مع وجود أردوغان في الحكم لبست هذه العلاقة زياً آخر، فتحسنت العلاقات مع سوريا، بالمقابل لم تنقطع مع آل الحريري والأميركيين. ونرى اليوم اللجان تعمل على مستويات عديدة وتخفف حدة التحسن وانعدام الثقة بين البلدين. زائر سوريا يعرف مدى حجم وجود الأتراك في المدن السورية. فتبادل الزيارات يتم بشكل يومي، ونمت العلاقات السياحية والتجارية. ودخل التعاون الأمني بين البلدين في طور النشاط والحيوية. سلمت سوريا عشرات من مناصري حزب العمال الكردستاني لتركيا، ومن جانب آخر أغلقت تركيا أبوابها أمام الإخوان المسلمين. ولا يمر يوم إلا وتصادف مسؤولاً تركياً في مدينة حلب أو دمشق.
العراق والنفوذ
أما مع العراق فتحسنت العلاقات بشكل معقول أيضاً، وإن انتقد اردوغان نفسه وانتقد برلمانه لأنه يتخذ القرار بالسماح بمرور القوات الأميركية من أراضيها (2003)، وادعى أنه بسبب ذلك خسرت تركيا نفوذاً واسعاً في العراق حسب رئيس العراق جلال الطالباني، فإن: «تركيا تشهد أحسن رئيس وزراء لها في تاريخها الحديث».
لكن يبدو أن مقولة الطالباني لم تؤثر على عاطفة اردوغان! فهو يشن حرباً دبلوماسية على اكراد العراق، مثلما يهدد العسكر الأكراد وينذرون باجتياح ويحتشدون على حدود كردستان العراق. ومثلما لم يؤثر كلام الطالباني على مواقف أردوغان من كردستان العراق، فإن الزخم التركي في كردستان العراق (حيث 400 شركة تركية تعمل في كردستان العراق فقط ومئات من الطلبة الأتراك يدرسون في الجامعات الكردية وثلاثة أرباع مطاعم كردستان تحت إشراف العمالة التركية) لم تستثمر لتحسين العلاقة بين البلدين. وتحمّل شريحة واسعة من الأكراد سبب تأخير تنفيذ البند 140 من الدستور العراقي الخاص بتطبيع الأوضاع في كركوك لتركيا والدبلوماسية التي تتبعها. والآن هناك لجنة ثلاثية تراقب عن كثب وضع حزب العمال الكردستاني. وقد استغلت العلاقة مع العراق واستطاعت أن تغلق مقار حزب العمال الكردستاني ومؤسساته في بغداد والموصل وكركوك، ولا سيما مركز «أوجلان» للدراسات.
دبلوماسية طرف واحد
يمكن القول إن اتخاذ أردوغان لدبلوماسية «رؤية نصف كأس» في تعاطي مع الشأن الكردي كان سبباً في عدم احتواء أكراد تركيا. بمعنى آخر، إن أردوغان نظر إلى وضع أكراد العراق على أنه جزء لا يتجزأ من المسألة الكردية في تركيا، واهتمامه في العلاقة مع أكراد العراق انحصر في زاوية مصالح فئات جهوية، الأمر الذي دفعه إلى النسيان استثمار هذه العلاقة إيجابياً لصالح تركيا ولصالح وضعها الداخلي المأزوم نتيجة بقاء وضع أكراد تركيا في حالة عدم الحل!
ثمّة من يرى أن مواقف العدالة والتنمية من التطورات الكردية في العراق أصبحت سبباً في عدم احتواء أردوغان للمسألة الكردية في تركيا بالرغم من أنه الوحيد الذي تجرأ على الاعتراف بوجود الكرد في تركيا واعترف بنواقص الدولة تجاههم. فقد زار ديار بكر (عاصمة أكراد تركيا) عدة مرات، وألقى الخطابات هناك. لكن هذه الخطابات لم تترك أثراً إيجابياً في الوعي الشعبي، مع أن الأكراد شهدوا في زمن العدالة والتنمية امتيازات عديدة، فلم تعد اللغة الكردية من الممنوعات، وهناك صحف وإذاعات ناطقة بالكردية.
لأول مرة يحدث لقاء بين الجالية الكردية في أوروبا ورئيس وزراء تركيا. فقد اجتمع أردوغان مع مؤسسة رجال الأعمال الأكراد في لندن. لكن، في الوقت نفسه، لم تقف مؤسسة الجيش مكتوفة الأيدي. فما أن يتخذ أردوغان موقفاً إيجابياً حتى يقوم الجيش بحملة تمشيط واسعة في المدن والقصبات الكردية. أنصار أردوغان يعددون ما حصل من التغيير الحاصل في حقبة العدالة والتنمية، ويقولون بأن الوضع الاقتصادي تحسّن تحسناً ملحوظاً وسعر الليرة أفضل. كما تقلّص نفوذ العسكر في الحياة السياسية والمدنية. حتى على مستوى الحجاب والزي الإسلامي، فبتشجيع من أردوغان، أخذ عدد من شركات الألبسة على عاتقه أن يؤسس زيّاً إسلامياً متمدناً وحديثاً متأقلماً مع التطور الذي حصل.
انعكست هذه السياسة التغييرية إيجاباً على سمعة تركيا أوروبياً وعربياً. فهذه السياسة شجعت الاتحاد الأوروبي على الدخول في طور المفاوضات معها. أي إن في زمن هذا الحزب، استطاعت تركيا أن تحقق جزءاً من حلمها القديم الجديد: مفاوضات ولقاءات قائمة بينها وبين الاتحاد الأوروبي، وقانون جمركي خاص ومميز يحكم العلاقة بين الطرفين... إلخ.
وبالرغم مما ذكر أعلاه عن إيجابيات حكم العدالة والتنمية، فثمة ملاحظات جمّة عن الحقبة:
* أولاً: إن ما كان يقال عن مصالحة الإسلام والعلمانية أمر شبيه بالهراء، وضرب من ضروب الخيال. الأحداث التركية تثبت أنه لا تصالح فعلياً بين الإسلاميين والعلمانيين. وأبرز مثال الشجار الذي حصل قبل أيام بين الكتلتين.
* ثانياً: وضع الإسلاميين كوضع العلمانيين. فالطرفان لم يستطيعا أن يخرجا أنفسهما من المأزق الذي هما فيه، العلمانيون منقسمون على أنفسهم، والإسلاميون أيضاً. فما زال حزب «السعادة» ينظر إلى العدالة والتنمية كخصم، ولا يزال أربكان يحتفظ بموقفه من «العدالة والتنمية».
* ثالثاً: في حقبة أردوغان لم يحصل تغيير جذري على صعيد القوانين حيث ما زال المسيحيون في تركيا لا يحق لهم تسجيل ممتلكاتهم المؤسساتية بأسمائهم وبهويتهم المسيحية.
* رابعاً: الاغتيال العنصري أو السياسي استمر كما الحال في حقبات سابقة، مثل الاغتيال العنصري بحق الصحافي الأرمني الليبرالي، وقبله اغتيال الصحافي موسى عنتر.
* خامساً: صحيح أنه حصل تقدم في ملف انضمام تركيا إلى النادي الأوروبي، إلاّ أن الوضع يراوح مكانه. فالمفاوضات مجمدة منذ أشهر عديدة، والسبب عدم جدية تركيا في تغيير القوانين الخاصة بحقوق الجماعات والإنسان، كالأكراد والعلويين والأرمن والمرأة.
* سادساً: أثبت السجال التركي الحالي أنه ما زال هناك شرخ واسع بين تركيا الأوروبية وتركيا الآسيوية. فالولايات الشرقية الآسيوية (تُعرّف بجماعة الحجاب) لم تشهد أي تنمية. ولا يلاحظ الزائر أية خدمات في تلك المناطق. كما أن الولايات الغربية الأوروبية (تُعرّف بجماعة «المايوه») ـ والتعبير عائد لخبير في الشؤون التركية الدكتور محمد نور الدين ـ ما زالت تنفر من الإسلام ولا تقبله. ولعل التظاهرات الأخيرة هي الدليل القاطع على أن الوضع ظل هو نفسه، بمعنى أن سياسة أردوغان لم تستطع إجراء أي تغيير في ذهنية المجتمعات: الكردي ينظر إلى نفسه أنه كردي قبل أن يرى أنه ينتمي إلى وطن اسمه تركيا، وكذلك الإسلاميون، وكذلك القوميون المتطرفون.
* سابعاً: وهي أهم ملاحظة، إن تركيا ما زالت تحت قبضة العسكر وبإمكان العسكر أن يفعلوا الكثير بدون اللجوء إلى انقلابات. ولعل الأيام الأخيرة أثبتت أن القوانين تغيّرت شكلياً، وليس صحيحاً أن العسكر خففوا قبضتهم على الحياة المدنية والعسكرية. هذا فضلاً عن أنه في حقبة أردوغان شهدت تركيا ارتفاعاً غير مسبوق في مكانة رئيس الجمهورية. ففيما كان ينظر إلى رئاسة الجمهورية على أنها منصب رمزي، أصبح اليوم بوسع رئيس الجمهورية فعل الكثير. فهو يتلكأ في الكثير من القرارات، وله تأثير واضح على العملية السياسية في تركيا.
نستخلص مما سلف أن الزمن سيثبت أن تركيا في طريقها إلى اهتزازات جذرية. وهي فضلاً عن أنها في الطريق إلى تغيير في بنية النظام السياسي، فإنها أيضاً في طريق التغيير في البنية المجتمعية. والأهم أن نرى أين ستتجه تركيا بعد هذه النقاشات، وبعضها قانونية أو كيدية أو جهوية، ومنها ما ينطلق من خلفيات الثقافة والأيديولوجيا.
* كاتب سوري