strong>أسعد أبو خليل *
ابتذل الخطاب الناصري والبعثي عزو كلّ ما يجري في العالم العربي من حروب وصراعات، وحتى مشاجرات الأحياء والحارات، إلى مؤامرات تُحاك بإحكام في الخارج وبإيعاز أميركي صهيوني. وكانت تلك الأنظمة تتقصّد التهرّب من مواجهة مسؤوليّاتها عبر نسج خيوط مؤامرات غالباً ما تكون وهمية (وإن كان بعض هذه المؤامرات حقيقياً آنذاك كما ثبت لنا على مرّ العقود، مثل فضيحة لافون في مصر أو الجاسوس إيلي كوهن أو علاقات القوات اللبنانية بإسرائيل).
وفي العصر السعودي (أو الشخبوطي، كما كان ياسين الحافظ يصرّ على تسميته للتدليل على إيغاله في الرجعية والتخلّف)، درجت السخرية من نظرية المؤامرة ومن كل مَن يعتقد أنّ هناك خطة أميركية ــ إسرائيلية لترويض العالمين العربي والإسلامي. وذلك على رغم صراحة الخطاب الأميركي في عصر بوش حول إعادة هيكلة المنطقة برمّتها. لكن أصبح واجباً عليكَ (أو عليكِ) السخرية من نظرية المؤامرة إذا أردت أن تبدو نبيهاً أو عصرياً (أو حضارياً وفق «ثوار» الأرز. وبالمناسبة، هل يعلم شعب لبنان أنّ مصطلح «ثورة الأرز» (وهو مصطلح مهين للثورات الحقّة) هو من اجتراح موظّفة في وزارة الخارجية الأميركية؟). لكن ابتذال نظرية المؤامرة ليس أسوأ تحليلياً وسياسياً من نفي وجود المؤامرات بالمطلق.
يعود اصطلاح «نظرية المؤامرة» إلى مقالة في الاقتصاد، لا في السياسة، نشرت في مجلة في العشرينيات من القرن الماضي. وتعزّزت نظرية المؤامرة في الحرب الباردة ربما لأن المؤامرات كانت جارية على قدم وساق، وإن كانت الدعاية الأميركية تسخر دائماً من نظرية المؤامرة لتسهيل تمرير المؤامرات ولدحض الدعاية المناهضة للإمبريالية (بالمناسبة هل لا يزال القانون اللبناني يسمح باستعمال مصطلح «الإمبريالية» في عصر الجسر الجوي الأميركي لجيش لبنان، وفي عصر تحوّل الحزب الشيوعي اللبناني إلى نسخة رتيبة عن الأحزاب الليبرالية الغربية؟). وهناك من يريد وفق التراث الاستشراقي أن يجعل من نظرية المؤامرة صنواً فريداً واستثنائياً للثقافة السياسية والشعبية العربية. وعززت هذا الانطباع كتابات خلفاء المستشرقين (الجدد) ومن مالأهم في الصحافة الليبرالية العربية (الوهابيّة التمويل، يا للمفارقة). لكن نظرية المؤامرة منتشرة في الثقافة السياسية الغربية، وخصوصاً في الولايات المتحدة حيث لا تمرّ سنة من دون صدور كتاب جديد عن مؤامرة اغتيال جون كنيدي. ونظريات المؤامرة حول أحداث 11 أيلول (وهي باطلة في معظمها لأنه من المؤكد أن تنظيم القاعدة كان وراء التفجيرات في أميركا) تملأ رفوف المكتبات ومواقع الإنترنت في أوروبا وأميركا (ويتردد صداها في بعض الدول العربية أيضاً). ومن هنا ضرورة التمييز بين نظريات مؤامرة باطلة لا دليل أو إثباتات لدعمها، وبين مؤامرات واضحة في علائمها ومساراتها وخططها.
لكن من الضروري أن نعود اليوم أكثر من أي يوم آخر إلى نظرية المؤامرة لتفسير ما يجري في طول العالم العربي وعرضه، وخصوصاً في لبنان. كيف يمكننا أن نهمل نظرية المؤامرة بعدما تكشّف بالتفصيل الدور الحقيقي لرئيس الوزراء الراحل رفيق الحريري في الإعداد للقرار 1959 مثلاً (وصف مسؤول في الأمم المتّحدة القرار 1559 بأنّه «طفل» رفيق الحريري وفقاً لجريدة التايمز اللندنية)، فيما كان الحريري، حتى اليوم الذي سبق اغتياله، يعلن معارضته له؟ هل يعلم اللبنانيون (واللبنانيات) أن أياد علاوي كان آخر رئيس أجنبي يلتقي مع رفيق الحريري؟ كيف يمكننا أن نغفل نظرية المؤامرة بعدما زالت الغشاوة عن عيني وليد جنبلاط هكذا فجأة؟ هل من سبيل غير نظرية المؤامرة لتفسير انتقال زعيم لبناني (وإن عرف بتقلّباته وعدم مبدئيّته ــ نسي اللبنانيون أنه قبل سنتين فقط من اغتيال الحريري طالب بإقامة قواعد عسكرية سورية في لبنان على نسق «قوات شمال الأطلسي» في ألمانيا؟) من تأييد محاولة اغتيال بول وولفويتز الى الاعتذار من هذا الأخير عن قلة الأدب هذه؟ كيف يمكن أن نفهم الحروب الأهلية الجارية في الصومال والعراق ولبنان وفلسطين من دون اللجوء الى نظرية المؤامرة؟ هل يمكن فهم كل تلك الحروب من دون عقد ترابط تحليلي في ما بينها، وخصوصاً أنها تجري في دول أطلّت عقيدة بوش عليها، في الوقت الذي تؤيد فيه الولايات المتحدة (وتمد بالسلاح) الميليشيات الموالية لها (وإن اتخذت بعض هذه الميليشيات أسماء محترمة مثل «قوات أمن» أو «جهاز معلومات» أو «حرس رئاسي» وهلمّ جرا؟
ثم هل يريدنا أعداء نظرية المؤامرة أن نصدق أنه لا ترابط أبداً بين ما يجري في الصومال وبين ما يجري في فلسطين ولبنان؟ هل يريدوننا أن نصدق نفي حكومة السنيورة لتأكيد الحكومة الأميركية أنها أقامت جسراً جوياً لمد القوات المسلحة اللبنانية بطلب مباشر وملحّ من الحكومة اللبنانية نفسها؟ أرادت الحكومة اللبنانية أن نصدقها عندما زعمت أن الدعم الأميركي العسكري المعطاء تزامن بالصدفة ــ يا محسنين ــ مع الحرب في نهر البارد. فقط أعداء نظرية المؤامرة السذّج (أو الخبثاء على الأرجح) يمكنهم أن يصدقوا ذلك. وهل علينا أن نصدق أن الدعم الأميركي والإسرائيلي لعصابات محمد دحلان التي عاثت في أرض فلسطين خراباً وفساداً عبر السنوات، غير مرتبط بسياسة دعم وتسليح أمراء الحرب في الصومال وشيوخ بعض القبائل في الأنبار؟ أم كل ذلك هو من قبيل الصدفة (أو نظرية «صاءبت» المعروفة في لبنان). فريق 14 آذار يردد دائماً أنه لا ضير إذا ما تقاطعت «مصالحنا مع مصالحهم». لا ضير؟ أية مصالح؟ عرّفوها لنا، طالت أعماركم. نوّرونا، يا دعاة الحضارة.
ثم نأتي الى الحديث عن الإرهاب والإرهابيين. من هم هؤلاء؟ هل يبدأ التعريف بـ«فتح الإسلام» وينتهي بكل من تسوّل له نفسه مقاومة إسرائيل؟ وعندما يتلقّى فؤاد السنيورة (الذي ــ إياك أن تنسى ــ مشى في تظاهرة أو تظاهرتين في شبابه من أجل فلسطين ما يجعله منيعاً أبداً ضد أية اتهامات) اتصالاً من جورج بوش يؤكد فيه دعمه «لحكومة لبنان» بوجه الإرهابيين، هل هذا يؤكد أن «حكومة السنيورة المنتخبة ديموقراطياً» (كما تصفها الحكومة الأميركية وكأن الانتخابات تؤهّلها للحكم مدى الحياة على طريقة الأمراء والملوك الذين يحظون بدعم أميركي غير محدود، وقد تكون واشنطن تظن أن هؤلاء الملوك والسلاطين هم أيضاً «منتخبون ديموقراطياً») تشاطر الرئيس الأميركي في معاييره العسكرية والدينية؟ أم الصدفة أيضاً هي التي جمعت بين الطرفين؟ ثم هل هي الصدفة وحدها التي تماهي بين مواقف محمد دحلان وتيار المستقبل؟ ثم إذا كان تيار المستقبل معادياً للنظام السوري (فقط لا غير)، فلماذا أظهرت صحيفة المستقبل هلعاً من سيطرة حماس على قطاع غزة؟ وكيف يمكن تياراً مناصراً لحكم آل سعود «الطالباني» أن يتصنّع خشية علمانية من إقامة «إمارة إسلامية» في غزة؟
الموضوع، كل الموضوع وفحواه، يتعلق بمقاومة إسرائيل والإمبراطورية الأميركية. والمقاومة مرفوضة إسرائيلياً وأميركياً، حتى لو حمل لواءها زنادقة أو ديموقراطيون ليبراليون أو حتى معادون للإسلام. طبعاً، يحاول المحافظون العرب (الموالون لحكم آل سعود الليبرالي جداً بكل تأكيد) أن يركزوا على إيديولوجيا حماس وحزب الله المشبعة دينياً، في محاولة لإسباغ صفة يسارية مصطنعة على مواقفهم اليمينية المتماشية مع مصالح عقيدة بوش المتعثّرة.
وصفة المؤامرة تنطبق على ما جرى في لبنان على امتداد السنة الماضية (على الأقل) بعد فشل إسرائيل في إخضاع المقاومة في لبنان. كان من الضروري عندها الاستعانة بوسائل أخرى لحماية إسرائيل. ورئيس الأركان الإسرائيلي الذي سبق حالوتس في المنصب كان صريحاً جداً في حديث الى صحيفة هآرتس عندما اعترف بأن لدى إسرائيل مجموعة من الخيارات السياسية ضد حزب الله، بعضها يعتمد على عناصر في السياسة اللبنانية الداخلية. وهل هناك من يعتقد بأن جورج بوش هو بجدّ مفجوع بمقتل رفيق الحريري، وهو الذي أهانه على مسمع من أعضاء الوفد اللبناني في اللقاء ما قبل الأخير بين الاثنين؟ وهل هناك من يعتقد أن السياسة الأميركية تحرص على إرضاء زعيم نحو 5% من شعب لبنان الصغير؟ (درج القول في لبنان إن العدد لا يعني شيئاً في الديموقراطية، وهو بالضبط كلام اللورد بلفور والصهاينة. فالديموقراطية ما هي إلا الأعداد والتعداد على الرغم من تنظيرات أقطاب 14 آذار الجهابذة مثل ميشال معوض الذي لا يستقيم له النطق حتى بالعامية إذا لم يستعن بنص مكتوب).
ثم كيف لنا أن نهمل نظرية المؤامرة بعدما تبين لنا أن الدول العربية كانت متواطئة مع إسرائيل في أخطر مفاصل الصراع العربي ــ الإسرائيلي؟ كيف لنا أن نسخر من نظرية المؤامرة بعدما قرأنا في يوميات حاييم وايزمن حاشية من محررها تفيد أن رياض الصلح كان «مدفوعاً من قبل الصهاينة»، وأن قائد الجيوش العربية في حرب فلسطين كان لا ينسّق مع العرب بل مع الصهاينة، وأن الملك الأردني استقل طائرة قبل أسابيع من حرب تشرين ليحذر الصهاينة مما يُعدّ، وهو الذي طمأن الصهاينة قبل أيام من عقده اتفاقية دفاع عربي مشترك مع عبد الناصر قبل حرب 1967؟ وكيف نفسر صعود أنور السادات المفاجئ و«اكتشافه» المسرحي لمؤامرة «مراكز القوى»؟ كيف يمكننا أن نهمل نظرية المؤامرة بعد أن نلاحظ أن وليد جنبلاط الذي أتقن الى درجة الحرفية الخطاب البعثي المبتذل على امتداد ثلاثين سنة، أتقن كذلك وبسرعة مذهلة خطاب بوش عن الديموقراطية وعن ــ وهذا هو الأهمّ ــ «حب الحياة»؟
ومن يشك في نظرية المؤامرة يستطيع أن يرى معالمها وبوضوح شديد على صفحات جريدة المستقبل التي تجمع بين الدفاع المستميت عن 14 آذار والدفاع المستميت عن محمد دحلان وعن المشروع الأميركي في العراق. والجريدة المذكورة تنشر وتهلّل لأخبار المناورات العسكرية الأميركية في الخليج، وكأنها تجري من أجل تدعيم موقع سعد الحريري في الطريق الجديدة. ثم هل لاحظ أحد من اللبنانيين واللبنانيات (حتى لا نقول في القضاء اللبناني لأن القضاء في لبنان قد تدوّل، يا لفرحة السياديين في لبنان) أنّ الـ«إل.بي.سي» و«المستقبل» نشرت أثناء الحرب الإسرائيلية على لبنان أخباراً عن وصول قوات الاحتلال الاسرائيلي الى نهر الليطاني في الوقت الذي لم تستطع فيه تلك القوات الوصول إلى مارون الراس؟ هل سأل أحد عن مصدر تلك الأخبار الكاذبة وعن سبب نشرها آنذاك؟ وهل كان نشر تلك الأخبار بريئاً في تناسقه وتزامنه؟
ويبقى أن الولايات المتحدة هي أكثر صراحة في نواياها من وكلائها وحلفائها في لبنان والمنطقة العربية، إذ إنها صريحة في إعلان طموحاتها في لبنان وفي غيره من الدول العربية. لكن إسرائيل أحياناً تكون صريحة أكثر من المطلوب، كما حدث عندما فاخر مسؤولون إسرائيليون بدورهم في إصدار القرار 1559، أو عندما ذكرت الصحف الإسرائيلية أن الإدارة الأميركية طلبت من الحكومة الإسرائيلية التوقف عن إغداق المديح على «ثوار الأرز» في لبنان لأنّ في ذلك إحراجاً لمن «يحب الحياة» في لبنان. وتتبيّن طبيعة المؤامرة عندما نقارن بين تصريحات زعماء لبنان للصحف الأجنبية وما يقولونه في الصحافة اللبنانية. وهل هناك من يصدق مثلاً أنّ أحمد فتفت (ما غيره) يساء فهمه دائماً في مقابلاته مع الصحف الأميركية والفرنسية، مع أنه لم يرسل تصحيحاً واحداً لتلك الصحف على الرغم من إعلان نيته (بالعربية فقط) فعل ذلك؟ ولماذا صرح سعد الحريري بعد أسابيع فقط من اغتيال والده الى صحيفة الواشنطن بوست بأننا «سننزع سلاح» حزب الله (واقتطعت الجملة تلك من نص المقابلة الذي نشر مترجماً آنذاك في صحيفة المستقبل) في الوقت الذي كان يقول فيه عكس هذا الكلام في لبنان؟ ولماذا يطالب وليد جنبلاط بقوات دولية في كل أرجاء لبنان في مقابلة مع صحيفة «الوول ستريت جورنال» اليمينية، ثم يعود بعد أيام ليعارض نشر القوات الدولية في حديث على شبكة الـ«إي. إن. بي»؟ ثمّ لماذا يعبّر وليد جنبلاط بالإنكليزية في حديث مع صحافي يميني متطرّف («التقدمي الاشتراكي» لا يرتاح إلا إلى اليمين هذه الأيام، وهذا يفسر انسجام ما يسمى «اليسار الديموقراطي» مع برنامج البنك الدولي، وهو صلب برنامج الحكومة الحالية) عن هلعه من انسحاب أميركي من العراق لأنه، كما قال، يرتدّ سلباً على «الليبراليين» و«الإصلاحيين» من أمثاله (فعلى ما نظن أنه وضع اللبنات الأولى في مساره الليبرالي في وغى حرب الجبل طبعاً. أمّا في وزارة المهجّرين فهو، كما بات معروفاً، أمعن... إصلاحاً).
إن ما يجري في العالم العربي اليوم هو جديد (على الأقلّ في الدرجة لا في النوع) من ناحية عبث الولايات المتحدة بمقدرات بلدان بأكملها في عصر القوة العظمى الواحدة، بالإضافة إلى نجاح الولايات المتحدة في تنصيب أدوات لها بالانتخابات أو بالقوة، من أفغانستان إلى المغرب العربي. لكن يجب ألا نبالغ في قدرات سلطة دولة واحدة، مهما بلغ شأنها، في النجاح في رسم أمور البلدان وفقاً لمشيئتها. نظرية «الفوضى الخلاقة» (وهي تحظى باهتمام مفرط في الصحافة العربية) تعزو إلى الولايات المتحدة قدرات ومهارات لا تملكها، وهي تفترض خطأً أن كل ما يجري في المنطقة مرسوم بدقّة من قبل الإدارة الأميركية. إنّ التخبّط الأميركي في العراق هو خير دليل على حدود قدرة التأثير العسكري الاستعماري، حتى ولو كان وحشياً.
كم ظُلم أبو أيّاد وحسني البرزان: الأوّل كان صائباً عندما أصرّ أنّ طريق فلسطين تمرّ في جونية (وفي غيرها من المدن اللبنانية والعربية) والثاني عندما أصرّ أنّه «إذا أردت أن تعرف ماذا يجري في إيطاليا، عليك أن تعرف ماذا يجري في البرازيل».
* أستاذ العلوم السياسية في جامعة كاليفورنيا
(صاحب مدوّن «العربي الغاضب»: angryarab.blogspot.com)