strong>وهيب معلوف *
على مشارف غزو العراق عام 2003، اعتبرت الإدارة الأميركية أن هذا الغزو إنما هو مسألة يتطلب إنهاؤها بضعة أسابيع. اليوم، وبعد مرور أكثر من أربع سنوات على هذا الغزو، يبدو أن الاحتلال الأميركي للعراق مستمر الى أمد غير منظور، وهذا على الأقل ما توحي به القواعد العسكرية الكبيرة التي يقوم النظام الأميركي ببنائها هناك.
مروّجو سياسات الإدارة الأميركية الحالية يسوّغون استمرار احتلال العراق بالقول إنه ضروري لأمن هذا البلد، على غرار الوجود العسكري الأميركي في كوريا الجنوبية الرادع لأي اعتداء عليها من قبل جارتها كوريا الشمالية، باعتبار أن اعتداءً كهذا هو بمثابة اعتداء على الولايات المتحدة نفسها. وغني عن البيان أن المماثلة بين الحالة الكورية وتلك العراقية خاطئة الى حد كبير. كانت الحرب بين الكوريتين حرباً تقليديةً بين جيشين عسكريين، لم تحصل خلالها أعمال مقاومة ولا هجمات على القوات الأميركية في كوريا الجنوبية فور توقف المعارك، وبقي الاعتراض الكوري الجنوبي على الوجود العسكري الأميركي ضمن إطار التظاهر السلمي، ولم يأخذ مرة طابعاً قتالياً منذ انتهاء الحرب الكورية عام 1953.
في المقابل، فإن عمليات المقاومة للاحتلال الأميركي في العراق مستمرة بالتصاعد ومرشحة للتوسع. ويعتقد معظم القادة العسكريين الأميركيين أن أعمال المقاومة لم يعد في الإمكان هزيمتها أو السيطرة عليها. والتمثل بالحالة الكورية على درجة من التهافت، ما جعل حتى بعض النواب الجمهوريين في الكونغرس يتحدثون عن بداية للانسحاب الأميركي من العراق في أيلول المقبل، معتبرين أن عدم حصول ذلك سوف يؤدي الى هزيمة ساحقة للحزب الجمهوري في الانتخابات الرئاسية الأميركية المقبلة عام 2008.
غير أن الاعتراف بالنتائج الكارثية للغزو الأميركي للعراق لا يقتصر على سياسيين وقادة عسكريين فحسب، بل يشمل أيضاً، وعلى نحو مفارق، أكثرية دارسي موضوع العلاقات الدولية في الولايات المتحدة، بدءاً من المفكر اليساري نعوم تشومسكي ووصولاً الى وزير الخارجية الأميركي السابق، الجمهوري جيمس بيكر. يُجمع هؤلاء على أن الإدارة الأميركية الحالية برئاسة جورج بوش قد حجّمت مكانة أميركا في العالم وجعلت منها أقل، لا أكثر، أمناً، وجعلت من أعدائها أكثر تماسكاً ومن أصدقائها أكثر انقساماً. وإذا كانت النخب الدارسة لموضوع السياسة الخارجية الأميركية والمشتغلة سابقاً فيه تُجمع على نقد قاسٍ لكل ما تنطوي عليه سياسات الإدارة الحالية من خداع وفساد وتضليل للرأي العام، فإنها تنقسم حول حجم وعمق المأزق الذي وقعت فيه البلاد من جراء سياسات هذه الإدارة.
جاء تقرير بيكر ــ هاملتون في كانون الأول الماضي، الموضوع من لجنة عدادها عشرة خبراء من الجمهوريين والديموقراطيين من ذوي الخبرة الواسعة في مجال الأمن القومي، ليصف حال الفوضى التي أحدثها فريق الرئيس بوش في العراق بـ«الخطير والمتدهور»، وليقدم توصيات تطالب الإدارة الأميركية بالاعتراف بفشل سياستها الكامل والمضي قدماً عبر انتهاج استراتيجية جديدة.
ضمن هذه الخلفية، ليس مفاجئاً أن يقدم دنيس روس وزبيغنيو بريجينسكي ــ وهما من ركائز النخبة المشتغلة سابقاً في مجال الأمن القومي الأميركي ــ على نقد قاسٍ للإدارة الأميركية وبنبرة كان يمكن اعتبارها، في فترة سابقة، لا تليق بمنزلة كليهما. وإذا كان يصعب تصنيف الرجلين بأنهما خارج إجماع المؤسسة السياسية الأميركية حول السياسة الخارجية ــ عمل الأول مبعوثاً الى الشرق الأوسط للرئيسين السابقين جورج بوش الأب وبيل كلينتون، والثاني كان أحد صقور الحرب الباردة ومستشار الأمن القومي إبان فترة حكم الرئيس الأميركي السابق جيمي كارتر ــ إلا أنهما لا يترددان في كتابين جديدين لهما، في تشريح سجل الرئيس بوش، مع اقتراح أفكار إنقاذية لسياسة خارجية أميركية يعتبرونها في حالة تمزّق.
الخلاصة التي يتوصل إليها الكتابان تنبع أولاً وأخيراً من غزو الإدارة الأميركية للعراق واحتلالها له، وهي أحداث أثبتت فشلاً مدوّياً، ولو قيست في ضوء مبدأ بوش بـ«الحرب على الإرهاب». فقد احتلت الإدارة الأميركية بلداً لم يكن يشكل أي خطر عليها، ولم يكن فيه أي وجود للحركات الجهادية الإسلامية، وحوّلته الى الأرض الأكثر خصوبةً لنمو الجهاديين، والى مكان يُقتل فيه آلاف الأميركيين، بالإضافة الى عشرات، إن لم يكن مئات، الآلاف من العراقيين. هذا بالإضافة الى تحويل الموارد والإمكانات المخصصة للأولوية المفترضة بعد أحداث الحادي عشر من أيلول الإرهابية، أي مطاردة أسامة بن لادن وأعوانه، في اتجاه مختلف.
إزاء وضع كهذا، تبدو الحلول، بالنسبة إلى روس وبريجينسكي، صعبة المنال، لكنها على الأقل غير مستحيلة التخيّل. يحضّ روس على العودة الى فن إدارة شؤون الدولة والى العمل الدؤوب للدبلوماسية وبناء التحالفات. ومن توجيهاته العملية اقتراح بأن تدعم الولايات المتحدة منظمة غير حكومية جديدة تقوم، تحت إشراف دولي، بالأعمال الشعبية التي تقوم بها الآن حركات إسلامية مثل حماس وحزب الله، أي تقديم الخدمات الاجتماعية وبناء المؤسسات المدنية مثل المستشفيات والمدارس. وإذا كان روس يعي خطورة اقتراح كهذا باعتبار أن أية منظمة تعرف بارتباطها بالولايات المتحدة سوف ينظر إليها بعين الشبهة من جانب أكثرية الشارع الفلسطيني وقسم كبير من الشارع اللبناني، فإنه يقترح السعي الى كسب الرعاية السعودية لمنظمة كهذه، عبر استغلال التوجّس الواضح للرياض من صعود إيران وحلفائها الإسلاميين في غزة ولبنان. فهو يعتقد بأن من الممكن إقناع السعوديين بتمويل الحركات المناوئة للحركات الإسلامية الدائرة في الفلك الإيراني، ومن بينها على الأخص حركة فتح التابعة للرئيس الفلسطيني محمود عباس، باعتبار أن ذلك قد يسهم في إضعاف حركة حماس.
أما بريجينسكي، فيشارك روس في دعوته واشنطن الى إظهار احترام أكثر للعالم والى دعم المناطق «اليورو ــ أطلسية» خوفاً من أن تخسر نفوذها لمصلحة آسيا الشرقية. إلا أن أكثر ملاحظات بريجينسكي ــ الذي يصعب اتهامه باليسارية ــ إثارة للدهشة في كتابه الجديد «فرصة ثانية» هي في استشعاره ما يسميه «الصحوة السياسية العالمية»، أو شعوراً حماسياً في العالم النامي يغلب على هؤلاء الذين «يعون الظلم الاجتماعي على نحو غير مسبوق، ويرفضون ما ينتج منه من حرمان ونقص في الكرامة الشخصية». وعليه، يعتبر بريجينسكي أنه إذا أرادت أميركا أن تنجح في «عالم اليوم المضطرب»، عليها أن «تتماهى مع السعي لبلوغ الكرامة الإنسانية العالمية». وهذا يتطلب، بحسب رأيه، «ثورة ثقافية وتغييراً في النظام» على حد سواء.
على الرغم من كل ما ينطويان عليه من نقد مرير، يبدو كتابا روس وبريجينسكي أشبه بصفعة على المعصم إذا ما قورنا بالجزء الثالث من ثلاثية الكاتب والباحث الأميركي شالمرز جونسون، التي تندرج في إطار سلسلة من الأعمال التي تدرس التغيرات المستجدة في التفكير الاستراتيجي الأميركي، وتحلل تداعيات هذه التغيرات على الداخل الأميركي وخارجه. وذلك أن روس وبريجينسكي لا يخرجان في نقدهما عن دائرة الإجماع المرسومة في واشنطن حول السياسة الخارجية، في حين أن جونسون يقف خارجها الى حد كبير.
كموظفين سابقين في مجال الأمن القومي، ينطلق روس وبريجينسكي من مسلّمة مفادها أن الولايات المتحدة يجب أن تكون القوة الرئيسية في العلاقات الدولية، معبّرين عن امتعاضهما الشديد من عدم قدرة الرئيس الحالي على تأدية دور «القائد العالمي» المفترض به تأديته. أما نقطة الانطلاق عند جونسون فهي مختلفة كلياً: بالنسبة إليه، مجرد الافتراض بوجوب أن تبسط أميركا نفوذها على العالم هو «غرور إمبريالي». بالطبع، يطرح جونسون اقتراحاته للحلول انطلاقاً من قاعدة أن المشاكل الجذرية تتطلب حلولاً جذرية. فهو لا يصرف وقتاً في الدعوة الى زيادة صلاحيات الكونغرس، لأن «الجناح التشريعي لحكومتنا مكسور»، وقد تحول الى جسم طيّع في يد الشركات الكبرى.
كخيار بديل، يحض جونسون على رفع منسوب الديموقراطية المباشرة عبر «حركة قاعدة شعبية للقضاء على وكالة الاستخبارات المركزية، كسر هيمنة المجمع الصناعي ــ العسكري وإقرار التمويل العام للانتخابات»، مع العلم بأن المجمع الآنف ذكره يحكم الولايات المتحدة بالتحالف مع النخبة السياسية، كما أثبت عالم الاجتماع الأميركي الكبير سي. رايت ميلز في مؤلفه الأشهر «النخبة الحاكمة» الصادر عام 1956.
في ظل الحديث الراهن عن خطة للإدارة الأميركية للهروب من الفشل العراقي عبر افتعال حرب مع إيران، لا يرى جونسون كثير فائدة في التركيز على اقتراحاته وأفكاره التي يعي تماماً أنها صعبة التحقيق، على الأقل في الأفق المنظور. لذا نراه يكتفي بطرح المعادلة التالية: إما أن تسير الولايات المتحدة على خطى الرومان الذين اختاروا الحفاظ على إمبراطوريتهم، ما أدى الى خسارتهم لجمهوريتهم، أو «أنه يمكننا، على غرار الإمبراطورية البريطانية بعد الحرب العالمية الثانية، أن نحافظ على ديموقراطيتنا عبر التخلّي عن إمبراطوريتنا».
* باحث لبناني