نسيم ضاهـر *
ذُهِلَ مشاهدو إحدى المحطات التلفزيونية عند سماع (ورؤية بأمّ العين) المذيعة تشمت، في الأستوديو، باغتيال نائب بيروت وليد عيدو، وتشير إلى وزير حالي ونائب بالاسم، سائلة عن مصير مماثل له. كما بيَّنَ الشريط المُسجَّل أن ثمة مجيباً، داخل المحطة بالذات، أفصحَ عن أن المطلوب استكمال اللائحة السوداء بحيث يصل عدد المشطوبين إلى أربعة نوّاب أو خمسة بغية إنقاص الغالبية إلى ما دون نصف أعضاء المجلس النيابي.
تدارك المعني بالمحطة، الذي يشغل منصباً دستورياً رفيعاً، ما جرى في ظرف مأساوي بامتياز، مسجلاً اعتراضه وسخطِهِ على تصرّف مُدان واتخاذه تدبيراً فوْرياً قضى بصرف المذيعة من الخدمة. وكادت لفتته أن تهدّئ الخواطر وتُنبئ بصدق الامتعاض والمفاجأة، لولا خروج معاونه الســــــــياسي بتصريح لاحق، اعتذاري موارب، لخَّصَ جسامة المقال بزلّة لسان، وخلص إلى نعت خشية الوزير المقصود بالتفاهة على جاري عادته.
استدعت المسألة التي نحن بصددها، سرد هذه الوقائع على سبيل التمهيد. فليس المراد مطلقاً التذكير بما باتَ معروفاً علانية، بل الاستدلال به لمعالجة ظاهرة مقيتة شكّلت الفضيحة المرئية جانباً منها، لا يقلّ إيلاماً عن لعلعة الرصاص ابتهاجاً بالمقتلة، وتوزيع حلوى المناسبة في غير موضع ومكان. ولا نفشي سرّاً أن مظاهر الفرح بالمصائب النازلة تباعاً بفريق سياسي، قد تكرَّرت على صورة مألوفة، ودخلت باب الذاكرة بمتاع غليظ، عصيِّ على الصرف، قبلي المنشأ ملوث بالعصبوية.
إنّ البحث عن جذور الترحيب المرضي بالظلامة، وبالأخص حين تتوسّل أسلوباً إرهابياً مجهّل الفاعل وترتوي بالدم المسفوك مدراراً بين أشلاء ضحية مرصودة ومن صدف وجوده في مسرح الجريمة لسوء الطالع وعامل الرزق، يعيدنا بالضرورة إلى العلاقة السببية بين الفضاء الأيديولوجي والعنف. كما يحيلنا إلى ارتباط السلوكيات الثأرية بالثقافة الفئوية السائدة في مجتمعات مُصغَّـرة، التي قلما تعنى بالوحدة المجتمعية وترضى بنسيجها وما يفرزه من اختلاف رؤىً وبيئات. إنما تكمن الخطيئة الكبرى في ما يتعدى البدائي النمطي، على هولِهِ وبشاعتهِ، إلى المستوى البنائي، أي القبول الضمني والتعامل مع مفاعيل الحدث الجُرمي بعقل بارد ومنطق عدم الاكتراث المتلطِّي وراء ألفاظ ضبابية تجنح نحو لون من مسؤولية الضحية عن مصابها، إن نتيجة لمؤامرة غامضة أو لقلة احترازاها من مدَّعي صداقتها بالذات.
يقسو الزمن على جهة بعينها، ويتساقط الواحد تلو الآخر من صفوفها، فيجري قتل الضحية مرتين، بالتصفية الجسدية أولاً، ومن ثم بالتحفظ (وإخفاء) دوافع اختيارها الحقيقية، لسببيّة انتمائها السياسي وإيفائها بالصورة التقريبية للعيِّنَة المنتقاة والمُدرجة على لائحة التغييب والشطب من المعادلة. في نموذج الاغتيال الأحدث المعنون وليد عيـدو ورفاقه، كان اللافت أن التعليق الجارح وشى بطول انتظار وضيق صدر بثقل تحمّل المزيد من أشباهه، مع ترقب لامس التمني، أفرج عنه العقل الباطني تلقائياً، سمّى الطريدة اللاحقة وأشار إلى هويّتها بوضوح، بينما أجاب سامعه، غير الخاضع لمنزلق العفوية، بأن التعداد الصحيح يقضي بشمول الفعلة أربعة (رموز) أو خمسة بغية بلوغ عتبة الأمان، أي إنقاص عديد الموالاة إلى ما دون الغالبية المطلقة لأعضاء المجلس النيابي.
عند مراجعة مسلسل الاغتيالات بدءاً من المحاولة الأولى الفاشلة التي عاجلت الوزير مروان حمادة، يتبيَّـن خط بياني لا لُبْس في محمولهِ من حيث المشتركات العضوية بين الضحايا ووقوفها في مقلب سياسي واحد. غير أن السِّمات العامة تفي بالتفسير الجامع، ولا تحيط بالظرفيات وبالأسباب الكامنة وراء إدراج هذه الضحية أو تلك ضمن بنك الأهداف وبلوغها قمة القائمة السوداء. فكل مرحلة قرابينها المحتملة وفق نصاب جهنمي قوامه التصويب على قادة الرأي وصُنَّـاع السياسة، وإصدار الأحكام بهم تباعاً في ضوء المُستجدات وحاجات الروزنامة. هكذا دواليك، تلتهم آلة الموت وزيراً من هنا وصحفياً من هناك، أو تتربَّص بنائب حالما تجد منالاً منه، بلا توقف أو هوادة. فبعد اتخاذ عموم الوزراء الباقين أقصى تدابير السلامة، وافتراش معظمهم السرايا الحكومية الحصينة، باتَ اصطياد نواب الغالبية من الأولوية بمكان، إلى جانب زرع عبوات الرعب المُعمّم بين الأهلين. المفاد أن المعايير الجُرميّة العملانية على قياس المهمات، تواكب التصميم على كسر شوكة السياديين والتنكيل بهم حتى ترفع الرايات البيضاء، كيفما وجد المحرض والمخطط سانحة وسبيلاً.
يتّبع الضالعون في الإرهاب منهجاً معروف الأساليب والآليات، ينتمي إلى مدرسة موصوفة في خدمة أنظمة الشمولية والاستبداد. ويمتاز الإرهاب الدولتي بالتعتيم على المصدر والإكثار من الوسطاء والوكلاء بين طرفي سلسلة تمتد من الآمر إلى المنفذ، عبر تعاريج عقيدية وتمويه حاجب للتواصل بين الحلقات. وإذ يحتسب الجُناة جوانب المسألة لغاية التنفيذ، فإنهم يفردون مساحة عريضة للاجتهاد والتأويل والتضليل إثر ارتكاب الفعل الجُرمي وإنجاز مراده. لهذه الغاية، تستحضر أدوات محو الجريمة بكل الصُّنُوف والتبريرات، ويُعهد إلى الموالين لهم (والأتباع في المقدمة) أمر التوكيد على قرينة البراءة والاستمهال بانتظار التحقيق، وللبعض المنقاد منهم مهمة التشويش، وصولاً إلى التشكيك المُرّ والروايات البوليسية السوريالية وإطلاق المخيّلة للإعمال بوسط الضحية وتقاذف الاتهام. بمكيافالية صارخة، تحشر أنظمة الاستبداد حلفاءها بين موجب الولاء (ورفع الغبن والظن بها) وتسديد فواتير باهِظة، أقلّها التلويح بالفشل جرّاء إغفال مفاعيل الحدث ومردودها المشترك على الفاعِل والحليف الغريب عن الفعلة بسواء.
يتنطّـح من لا شأن له بالاغتيالات، لتبرئة الطرف المعني بها من الاتهام ومجرّد الظن، عملاً بتضامن موهوم يفترض ويُصوِّر في وجهه الآخر الشعور بمسؤولية مشتركة على قاعدة صدق التحالف والنيّات. لقد أثبت العلم الجنائي أن ثمّة من يتماهى دوماً مع الضحية، تماماً كما يجنح شطر آخر إلى التماثل مع الجاني، إذ إن حقل الجرائم حافلٌ بنماذج وشهادات تدلي باعترافات لا أساس لها من الصحة وبوقائع من صنع الاندفاع العاطفي وتبادل الأدوار، على خلفية الشعور بالذنب أو بالخطر، وتقمّص شخصية هذا أو ذاك. وغالباً ما يدمج اللاوعي الرغبة في القتل مع الحاصل الجُرمي، وعقدة الاضطهاد مع سقوط الضحية. ومن المؤكّد أن هذه الظاهرة تجد تربة خصبة ومجالاً حدثيّاً في ظروف الخصام الجماعي المحموم وتفاقم الشحن العدائي وما يؤول إليه من استيلاد غريزي وممارسات لا معقولة.
يتولّى الإعلام المرئي مهمة النقل المباشر بلا ضوابط تذكر، ما يضعه في موقع شديد الحساسية، ويجعله بمثابة العدسة المكبّرة في لحظته. لـذا، بحكم دوره المكشوف، فهو يستوي في دائرة الامتحان والتعرّض للخطأ الجسيم حين ينقلب إلى أداة تعبوية ومرآة عاكسة لموقف سياسي معين. على هذا النحو، تقصر المسافة بين الوظيفة والدعاوة، وينحدر الأداء، لغة ونبرة وتعليقاً، إلى مزالق الحقن والشماتة والمحظور. عندئذٍ، يتبدَّى أن الإعلام قد غادر أرض الرسالة ودخل حقل ألغام خطير. في هذه الحال، من الأجدى العُزوف عن تغطيته من جانب السياسيين واستحضار عبارات التّرهات والتفاهات سنداً «لزلّة» لسان تمادت إلى مقطوعة ووصلة شائِنة. ففي ذلك توكيد في معرض النفي، ولزوم ما لا يلزم من مضاعفة الخطأ «اللامقصود» واللامقبول، وصولاً إلى حافة الإساءة المتعمدة والتسليم والسكوت عن مفاعيل الجُرم الأصلي في ما يُشبه التشفي والتسليم الدفين بجواز الانتقام.
* كاتب سياسي