strong>حسين عطوي *
إثر سيطرة حركة حماس على قطاع غزة، بعد حسم الصراع مع الأجهزة الأمنية التي كانت تتمرد على قرارات حكومة الوحدة الوطنية، قامت الدنيا ولم تقعد، اهتز العالم، البيت الأبيض الأميركي تحرك واستنفر ماكينته الدبلوماسية واتصالاته بعواصم العالم، واجتمعت الجامعة العربية وصدرت المواقف:
قرار بدعم رئيس السلطة الفلسطينية، باعتباره هو الذي يمثل الشرعية الفلسطينية، وتأييد كل ما يتخذه من قرارات، واعتبار ما حصل في غزة خروجاً على الشرعية، ويشكل خطراً وتهديداً للقضية الفلسطينية، وأن المطلوب هو إعادة الأمور إلى ما كانت عليه، أي أن تتراجع حماس عما قامت به. قبل ذلك كان العالم صامتاً عما يتعرض له الشعب الفلسطيني من عدوان صهيوني متواصل وحصار خانق وظالم ولاإنساني، عقاباً له على دعمه حركة المقاومة الإسلامية حماس والتصويت لمرشحيها في الانتخابات، بل إن قسماً من هذا العالم دعم الحصار من أجل إجبار حماس على الاستسلام لشروط إسرائيل واللجنة الرباعية، وقسم آخر، ما عدا قلة، تواطأ والتزم دعم الحصار. فلماذا اهتز العالم الآن؟
وما الذي حرّكه من أجل دعم محمود عباس وتأليف حكومة الطوارئ وأخذ قرار فك الحصار عن سلطته، وإبقائه وتشديده على قطاع غزة؟ من أين جاء الترحيب بحكومة الطوارئ التي ألّفها محمود عباس؟ وما الدلالات السياسية لذلك والأهداف المراد تحقيقها منه؟
الترحيب والتأييد جاء بداية من واشنطن التي أعلنت أنها سترفع الحظر عن المعونات المالية المباشرة لحكومة الطوارئ الجديدة، لتمهّد الطريق أمام الاتحاد الأوروبي وإسرائيل ليحذوا حذوها، ومن ثم أمام مصر والأردن اللتين ترتبطان بعلاقات وطيدة مع واشنطن، وباتفاقات صلح مع إسرائيل. ومن المعروف أن من أخذ قرار فرض الحصار على الشعب الفلسطيني في الضفة الغربية وقطاع غزة هو الولايات المتحدة، والاتحاد الأوروبي، وإسرائيل، والتزمته مصر والأردن، وهذا يشير إلى الوجهة الحقيقية لذلك.
فهذه الدول تخاف من سيطرة حماس على غزة لعدة أسباب:
السبب الأول: الخوف من انتقال القرار الفلسطيني من الاتجاه اليميني المساوم ليكون في أيدي المقاومة، وبالتالي اتساع دائرة المقاومة وقوتها.
السبب الثاني: أن سيطرة المقاومة على القرار الفلسطيني تعني فشلاً كبيراً لكل السياسات الأميركية الإسرائيلية التي اعتمدت منذ 11 أيلول من أجل إنهاء المقاومة وتمكين الاتجاه اليميني من استعادة سيطرته وبالتالي إيجاد الأجواء الملائمة لفرض حل استسلامي للقضية الفلسطينية، وفق ما تريده إسرائيل، حيث أقرت صحيفة هآرتس الإسرائيلية بأن «سياسة تقوية المعتدلين وعزل المتطرفين التي مارستها حكومة أولمرت بدعم أميركي، قد تلقت ضربة قاصمة، فالمقاطعة الاقتصادية والسياسية لحماس والحكومة الفلسطينية لم تضعف الحركة، بنظر الفلسطينيين، ولم تدفعها إلى تليين مواقفها».
السبب الثالث: الخوف من فشل خطة الإدارة الأميركية في الإمساك بالورقة الفلسطينية، من أجل استخدامها، إلى جانب الورقة اللبنانية، لتطويق سوريا ودفعها الى التعاون مع واشنطن لإخراج أميركا من مأزقها في العراق.
السبب الرابع: الشعور بأن تسيّد المقاومة واحتدام الصراع مع الاحتلال سوف يسقطان اتفاقات أوسلو، ويهددان بالخطر الاتفاقات التي وقّعتها مصر والأردن، ويسقطان كل الذرائع والمبررات لكل العلاقات التي أُقيمت بين بعض الأنظمة العربية وإسرائيل، ذلك أن نهج التطبيع تذرّع باتفاق أوسلو واللقاءات الفلسطينية والإسرائيلية، ودفع العديد من الدول والقوى للقول: «لماذا نكون ملكيين أكثر من الملك»، من أجل التخلّي عن واجبهم القومي وتبرير سياساتهم التي طعنت الشعب الفلسطيني ونضاله القومي.
السبب الخامس: قلق واشنطن من أن تصبح اليد الطولى في القضية الفلسطينية للقوى الإسلامية الراديكالية، ما يجعل إمكانية إيجاد تسوية على أساس الدولتين غير ممكن، إلى جانب أن ذلك يشكل خطراً فعلياً على إسرائيل التي تعيش أزمة عميقة بعد هزيمتها أمام المقاومة في حرب تموز في لبنان، لتصبح اليوم أيضاً أمام مقاومة فلسطينية من الطراز نفسه، لكن في قلب فلسطين، حيث يسود خوف وقلق إسرائيليان كبيران من اتساع قوة حماس كحركة مقاومة إلى أنحاء الضفة الغربية، ما يجعل العمق الإسرائيلي عرضة للقصف بصواريخ المقاومة وعملياتها.
من هنا يبدو أن الخطة الأميركية الإسرائيلية للحد من المخاطر التي تهدد المشروع الأميركي الإسرائيلي ترتكز على الخطوات التالية:
الخطوة الأولى: العمل على عزل قطاع غزة وتحويل الحياة فيه، تحت سلطة حركة المقاومة الإسلامية حماس، إلى جحيم لجعل الشعب الفلسطيني ينقلب على حماس والمقاومة، ويعود إلى تأييد نهج محمود عباس وسلطته، وفي هذا الإطار يبدو أنه سيُضيّق الخناق على قطاع غزة ويُمنع دخول العديد من المواد الأساسية، وتعتزم إسرائيل قطع الكهرباء والمياه والنفط.
الخطوة الثانية: في مقابل ذلك يُقدّم الدعم المالي والاقتصادي لسلطة أبو مازن وحكومة الطوارئ الجديدة لتمكينها من جعل الحياة الاجتماعية والاقتصادية في الضفة الغربية مريحة، ولتكون مصدر إغراء للشعب الفلسطيني في غزة كي يسحب تأييده لحماس، وبالتالي تقويض قوة المقاومة التي تستند في حضورها إلى التأييد الشعبي الكبير الذي أظهرته الانتخابات البلدية والتشريعية على حد سواء.
ومثل هذا التوجّه كشف عنه الكاتب الأميركي ستيت كرفت (الذي شغل منصب مخطط السياسات في الخارجية الأميركية في عهد الرئيس جورج دبليو بوش) في مقال في الواشنطن بوست حيث قال: «إن منطق الحصول على دول مانحة (أموال عامة وخاصة) هو المنطق المجدي مع فتح، بما أنها تسعى لإعادة تنظيم نفسها في قطاع غزة والضفة الغربية. ما قامت به حماس في غزة هو بمثابة دعوة لفتح والأطراف الفلسطينية المستقلة للتيقّظ. هم يعرفون الآن أن عليهم التنافس اجتماعياً واقتصادياً وسياسياً. هم يحتاجون إلى المساعدة من أجل القيام بذلك. لقد حان الوقت لندرك مع الدول المانحة الأخرى، السعودية ودول الخليج، حقيقة أنه في حال عدم تقديمنا المساعدة لفتح فإننا قد نواجه مستقبلاً يكون فيه للإسلاميين اليد الطولى في المسألة الفلسطينية».
الخطوة الثالثة: إلى جانب العمل على تعزيز قوة محمود عباس وسلطته وأجهزته الأمنية، تتجه إسرائيل حسب صحيفة هآرتس الإسرائيلية إلى بدء المفاوضات على الحل الدائم وتقديم بعض التسهيلات في الضفة الغربية، في مقابل تشديد قبضة الحصار على قطاع غزة ومواصلة الحرب على قادة حماس. ويبدو أن إسرائيل تسعى إلى استغلال ما حصل في قطاع غزة من أجل تكريس الانفصال بين الضفة والقطاع، واستغلال حاجة عباس إلى الدعم بهدف فرض تسوية نهائية في الضفة الغربية على القاعدة التي تخدم المشروع الإسرائيلي.
إذا كانت هذه هي الخطة الأميركية الإسرائيلية الجديدة، لمحاولة عزل حماس وإضعافها وإعادة تعويم الخط المساوم فلسطينياً، فهل تنجح في هدفها حيث فشلت في السابق؟
التمنّي شيء والواقع شيء آخر، فالحصار وتشديده على قطاع غزة ليس بالأمر الجديد، إذ هو قائم منذ سنة ونصف سنة، والنتيجة كانت عكسية حيث ازداد تأييد الشعب الفلسطيني لحركة حماس وحركات المقاومة الأخرى، وأضعفت الاتجاه اليميني المؤيد للشروط الأميركية الإسرائيلية للتفاوض على الحل النهائي، ونتج من ذلك، حسب تعبير الصحافة الإسرائيلية، «كيان معادٍ على الحدود الجنوبية برئاسة مجموعة مسلحة تعارض وجود إسرائيل وترفض الاعتراف بها، وهنا يكمن الفرق بين حركتيْ حماس وفتح التي يترأسها رئيس السلطة الفلسطينية محمود عباس الملتزم عملية السلام والساعي إلى المصالحة التاريخية بين الحركة الوطنية الفلسطينية والصيهونية».
من هنا فإن الاستمرار بسياسة الحصار ودعم سلطة محمود عباس لا يتوقع أن يحدث انقلاباً في الصورة، بل سوف يزيد من التفاف الشعب الفلسطيني حول حركة حماس وحركات المقاومة الفلسطينية الأخرى، لا في قطاع غزة فقط، بل هذه المرة في الضفة الغربية التي تقع تحت الاحتلال، ذلك أن الشعب الفلسطيني الذي يريد تحرير أرضه واستعادة حقوقه وفي مقدمها حقه في العودة، لن يقف إلى جانب سلطة مرتبطة بالاحتلال وتتلقّى الدعم منه ومن واشنطن مقابل أن يتخلى عن مقاومته ويقبل بحل استسلامي على حساب حقوقه التاريخية، بل على العكس فإن اشتداد الحرب على المقاومة ومحاولة فرض الحلول الإسرائيلية سوف يؤديان إلى تعزيز المقاومة في الضفة الغربية وقطاع غزة، وإلى إخفاق سلطة أبو مازن وظهورها سلطة لحدية تعيش على مصل المحتل.
* كاتب سياسي