خورشيد دلي *
تزايدت وتيرة الإشارات المتبادلة بين سوريا وإسرائيل، التي توحي بأن تطورات ستحصل بين الجانبين في الفترة المقبلة، فالتصريحات السورية المتتالية بشأن استعادة الجولان السوري المحتل سلماً أو حرباً بدأت تثير سجالات كبيرة في إسرائيل حيث الانقسام هو سيد الموقف، بين من يرى أن تصريحات الرئيس بشار الأسد في هذا الخصوص ناتجة من الضعف وفي إطار السعي إلى تخفيف الضغوط الخارجية عنه، ومن يرى أن هذه التصريحات تصبّ في إطار ثوابت السياسة السورية، وأن النتائج العسكرية للحرب الإسرائيلية الأخيرة على لبنان عززت من ثقة سوريا بأن إسرائيل خرجت ضعيفة من هذه الحرب وأن الفرصة متاحة لتحريك جبهة الجولان إلى درجة أن بعض المحلّلين السياسيين الإسرائيليين باتوا يستعيدون أجواء حرب أكتوبر عام 1973 عندما شنّت سوريا ومصر الحرب على إسرائيل، وبما يعني هذا التذكير احتمال شن حرب من قبل سوريا مدعومة من إيران، وعليه يتساءل هؤلاء لماذا لا يُتعامل مع تصريحات الأسد بشأن السلام قبل وقوع مثل هذه الحرب؟
في الواقع أن مثل هذا التصور، أي خيار شن حرب على إسرائيل، ينطلق لدى كثيرين من مسألتين أساسيتين: الأولى هي أن الوقائع السياسية والعسكرية بين سوريا وإسرائيل منذ حرب تشرين/أكتوبر 1973، مروراً بمؤتمر مدريد للسلام في الشرق الأوسط، ومن ثم جولات المفاوضات التي جرت بين الجانبين، ووصولاً إلى المتغيرات السياسية الجارية في المنطقة بعد احتلال العراق، وخاصة في ظل تنصّل الإدارة الأميركية من القيام بدور جدّي في عملية السلام على المسار السوري.. هذه الوقائع وغيرها رسّخت القناعة لدى دمشق بأن إسرائيل لن تتخلّى عن الجولان من دون حدوث تحريك عسكري أو حتى مواجهة ما على جبهة الجولان، ومن يقرأ السياسة السورية في هذا الخصوص حتى قبل الحرب الإسرائيلية على لبنان بأشهر يرَ أن سوريا أرسلت العديد من الرسائل التي تفيد بأنها مستعدة لتحرير الجولان بالوسائل العسكرية إذا لم تتحرر بالمفاوضات، ولعل تشكيل «التنظيم الشعبي لتحرير الجولان» أخيراً لم يكن بعيداً عن هذا السياق، وعززت التصريحات السورية باستعادة الجولان بالوسائل الأخرى إن لم تُستعَد من خلال المفاوضات، من التوجّه نحو خيار تحريك جبهة الجولان.
المسألة الثانية هي أن النتائج العسكرية للحرب الأخيرة التي كانت قاسية على المؤسسة العسكرية الإسرائيلية ومفاهيم العقيدة العسكرية الإسرائيلية التي قامت على مبادئ الحرب الخاطفة والردع وتدمير العدو في ساحته.. هذه النتائج أعطت الانطباع بأن مسألة خوض حرب عسكرية ضد إسرائيل باتت ممكنة بعدما استُبعد ذلك لعقود. وإن هذه النتائج عززت من أفكار المقاومة وثقافتها والتطلع إلى الأخذ بتجربتها، وبالتالي التفكير فيها خياراً حتى لو كانت الجبهة هي جبهة الجولان السوري المحتل، وخاصة أن مثل هذا الخيار ينسجم والشعارات الوطنية التي ترفعها القيادة السورية وتتمسك بها في إدارة سياستها العربية والدولية، وربما تدفعها إلى استلهام النموذجين الكوري الشمالي والإيراني في تحدّيهما الصارخ للإدارة الأميركية، إذ هناك من يرى بأن مثل هذا الأسلوب هو الأجدر بدفع واشنطن إلى تحريك جهودها على المسار السوري.
في المقابل، إذا كانت التطورات السابقة وضعت خيار تحريك جبهة الجولان أمام أصحاب القرار في سوريا، فإن هذه التطورات ونتائج الحرب الأخيرة على لبنان تدفعان بالقيادة الإسرائيلية التي تعاني الانقسام إلى البحث عن مخرج للوضع الذي هي فيه بعد الحرب. وترى بعض الأوساط العسكرية والسياسية الإسرائيلية أن المخرج من هذا الوضع قد يكون بشنّ حرب على سوريا بعد جرّها إلى هجمات في الجولان تتحول لاحقاً إلى مواجهة عسكرية محدودة وربما واسعة، إذ ترى هذه الأوساط بأن من شأن هذه الحرب إفهام سوريا أنها واهمة في ثقتها بشأن خيار الحرب، هذا من جهة أولى، ومن جهة ثانية فإن من شأن هذا الخيار استعادة طاقة الردع التي فقدتها إسرائيل في لبنان، ومن جهة ثالثة ربما يعيد الكثير من الرصيد الذي فقده رئيس الوزراء الإسرائيلي إيهود أولمرت الذي ينتهج لهجة التشدّد ضد سوريا ويحشرها على الدوام في خانة (الإرهاب ودعم المنظمات الإرهابية)، ويتحدث عن الجولان كأرض إسرائيلية إلى الأبد، إلا أن السؤال الأساسي الذي يطرح نفسه هنا على الرغم من هذه الأجواء، هو هل الحرب ممكنة بين إسرائيل وسوريا، وبشكل أدق هل شن حرب من قبل إسرائيل على سوريا واردة من دون قرار أميركي؟
في الواقع، في الاستراتيجية الأميركية تجاه منطقة الشرق الأوسط، يمكن القول إن مثل هذا القرار متّخذ من قبل إدارة الرئيس الأميركي جورج بوش على الأقل منذ احتلال العراق وفشل الجهود الأميركية في إقناع سوريا بالتخلّي عن سياستها الإقليمية تجاه العراق ولبنان وإيران والأراضي الفلسطينية، في إطار السعي الأميركي إلى إقامة الشرق الأوسط الكبير، ولعل ما أجّل ويؤجّل تنفيذ مثل هذا القرار، حتى لو عبر إسرائيل، هو الوضع الذي آل إليه الملف العراقي، وبروز التحدي الإيراني إلى واجهة الأحداث كأولوية، وذلك على خلفية الملف النووي لإيران الذي بات أكبر عقبة في وجه السياسة الأميركية الإسرائيلية في المنطقة. وفي ظل أولوية الملف الإيراني يرى البعض أن الخيار العسكري ضد سوريا بات مؤجّلاً، بل يرى البعض أن التعامل السليم مع الملف النووي الإيراني بات يتطلب العكس أي السلام على المسار السوري! وذلك من خلال تفكيك «التحالف» الإيراني ــ السوري ومعه طرفا هذا التحالف أي حزب الله وحركة حماس. ويرى هؤلاء أن الطريقة الوحيدة لتفكيك هذا التحالف هي باستئناف مفاوضات السلام على المسار السوري وبأن تنتهي هذه المفاوضات باستعادة سوريا للجولان والتوقيع على اتفاق سلام نهائي بين الجانبين والتخلص نهائياً من دوامة الصراع العربي ــ الإسرائيلي. ويرى هؤلاء أن من شأن مثل هذا الأمر تحقيق مجموعة من الفوائد الاستراتيجية تتلخّص، إضافة إلى تفكيك التحالف السوري الإيراني، في وقف تدفّق الأسلحة إلى حزب الله عبر سوريا، وبالتالي فقدان الحزب عنصر قوته الأساسي وإخراجه من معادلة المواجهة مع إيران، حتى لو عبر تهديد إسرائيل، وكذلك انتهاء احتضان سوريا لقيادة حركة حماس بما يعني الإفساح أمام تهيئة الساحة الداخلية الفلسطينية لواقع سياسي يستجيب لسياسة الرئيس محمود عباس المنسجمة مع السياسة الأميركية، فضلاً عن تهيئة مناخ عربي يضم إلى حركته سوريا بعيداً عن تأثير السياسة الإيرانية، بل والعمل من جبهة مغايرة لهذا التأثير. والمهم هنا هو أن هذه الفوائد الاستراتيجية مجتمعة تعزز من فرص التفكير جدّياًَ بتحريك مفاوضات السلام على المسار السوري، وخاصة في ظل الحديث الإسرائيلي عن القدرات الصاروخية الضخمة التي حصلت سوريا عليها والتي من شأنها إلحاق أكبر الأذى بإسرائيل إذا اندلعت الحرب، وعليه فإن السؤال الأساسي هو لماذا لا يُجرّب خيار المفاوضات؟
في ظل هذه الإشارات المتناقضة إلى خياريْ الحرب والسلام، من الصعب ترجيح أحدهما على الآخر، ومع أن في الأمر ما يشبه المفارقة إلا أن هذه هي الصورة تقريباً، وربما مردّ ذلك إلى أن الأمور في الحالتين وصلت إلى مرحلة واضحة من الاستحقاقات لم تعد تقبل الكثير من التأجيل، ولعل زيارة أولمرت لواشنطن ستحدد الكثير من مسار الأمور، وفي أي اتجاه.
* كاتب سوري