الشيخ أحمد قبلان *
إن طبيعة المشهد اللبناني، ما زالت جزءاً من هوية المنطقة، لشدة ارتباط الملفات، ووحدة الخصومة الاستراتيجية.
منذ الآن، وحتى ما قبيل أيلول، فإن لبنان سيخضع لعصف سياسي مثير، سيكون قطبه الحلف الدولي والإقليمي الموالي للسلطة، بسبب ملف رئاسة الجمهورية، وقد تعلّمنا أن اليد السوداء دوماً تقاطع مصالح فريق السلطة في الفعل الأمني، ما يفتح المجال أمام أزمة أمنية وخريطة موت واغتيال سياسي ربما، لأهداف انتشالية أو دفعية تتلاءم وحجم الملف الرئاسي الذي تعوّل عليه واشنطن جداً، ويكاد هذا الملف يكون تفجيرياً، لأن هذا الملف له وجه حاسم في طبيعة مصير البلد، ومن البديهي أن لا يُترك أبداً، وأن يتم اللجوء إلى الخيارات القاسية، منعاً من التفريط بهذا الملف الضروري. ومعلوم جيداً أن فريق السلطة نسف القانون والدستور وحوّل البلد إلى مزرعة، ولا تهمّه الشرعية من قريب ولا من بعيد، وهو مستعد لإبادة كل القوانين لتحصيل مصالحه ما دام تحت رعاية الغرب، وخاصة الأميركي، وكما حطّم مقولة السيادة ودوّل كل شيء فإنه سيؤمرك ملف الرئاسة إلى حد الانتحار، وهذا يعني ضرورة اتخاذ شتى الخيارات الكبيرة لمنع جرّ البلد إلى الهاوية، وإلا فإن تجربة فريق السلطة مجنونة، وحاقدة، ومدمرة، ولا تخشى أن تُدخل البلد في المجهول، وخاصة أن لبنان بالنسبة إلى فريق السلطة هو مجرد حقيبة مصالح وتجارة، وكل فريق السلطة مرتهن لمصالحه الاستثمارية الموزعة بين الشرق والغرب، إذ لا يمكنه أن يعيش على أوكسجين الإملاءات وترحيل الملفات، وهذه يجب الالتفات إليها جيداً، وبالتالي الحوار مع جماعة من هذا النوع هو تسويفي، ودوماً يخبّئ وراءه وجوه الأمركة والأقلمة وغيرها... نعم كسر التوازن يرغم هذه الجماعة الضعيفة على التنازل، لكن طبيعة كسر التوازن في الداخل، تحتاج إلى أناة ووقت، لأن مصلحة البلد أقوى من سياسة عضوية، وإن قوة الوطنيين في البلد أقوى من أية قوى، بما فيها الأميركيون وغيرهم. وهذا بدا واضحاً ما قبل حرب تموز وما بعدها، حيث إن الوطنيين في هذا البلد أكبر من أي قوة مهما فعلت...
وأما بخصوص الجامعة العربية فمما لا شك فيه أن مبادرة عمرو موسى استماعية جداً، وقاصرة في عالم الأدوات، لكن يجب الالتفات إلى أن عمرو موسى طرف، وفي الفترات السابقة حاول جاهداً نسف مطلب المعارضة (الثلث زائداً واحداً)، وعلى رغم إطلاق النار عليه من قبل فريق السلطة، آثر جانب الصمت المريب. وإن مبادرة الجامعة العربية عاجزة عن اختراق الخطوط الحمر الأميركية، في حين العرب لا يمكنهم تأدية دور مستقل، ما يعني أن كسر الجمود بين الموالاة والمعارضة غير ممكن من هذا الطريق، في حين أن الأدوات الداخلية أيضاً عاجزة عن تحقيق ربح صافٍ أو وافٍ، وسط تداخل دولي ــ إقليمي لا سابق له، ما يزيد من حالة الانقسام والخصام السياسي، وما يتبعه من أشلاء لملفات مختلفة، وهذا يزيد من أزمة الأمن في البلد، ويفتح الشارع على وجوه مقنّعة كثيرة وأيدٍ ضاربة، وخاصة أن معظم الأجهزة الأمنية، وبالأخص الغربية، فاعلة جداً، وتلقى ترحيباً وتكييفاً وحماية وأقنعة من فريق السلطة.
يجب أن نلتفت جيداً إلى أن الأميركيين وفريقهم الدولي والإقليمي محشورون جداً، ويعملون منذ استشهاد الرئيس الحريري على كسر وضعية لبنان لمصلحتهم، ويجب التذكر جيداً أن لديهم مطابخ كبيرة ومتشعّبة، همّها الأوحد خلق تصوّر له أدوات عملية طيّعة لكسر التوازن الداخلي اللبناني، وإنزال عقاب قاسٍ بمخالفيهم. ولهم سماعون مطيعون جداً في لبنان، وهذا يعني ضرورة التحسّب للمفاجآت، على رغم أن المعطيات الاستراتيجية (الأكثر ثباتاً) لا تخوّل الأميركي وتوابعه إنجاز أي شيء عملي. نعم فكرة النار والدمار هي جزء مركزي من مخطط الإنقاذ الاستراتيجي للمصالح الأميركية. وهي فكرة مقبولة لدى الأوروبيين لو وصل الأمر إلى حد الخيار بين القاتل والمقتول. لكن تخطيط الورق شيء، وتنفيذه شيء آخر، والأمر رهن بقوة الطرف الآخر، وسياسة الموانع العملية. ويكفي لبيان التخبّط المجنون والانهيار المثير في الخطط الورقية ما جرى في غزة، فعلى رغم الرباعية الدولية، وتحوّل فتح والسلطة الفلسطينية إلى أدوات تطبيقية لمشروع التصفية الأميركية استطاعت حماس أن تطيح سياسة خمسين سنة من مشاريع الأمركة في فلسطين. وبدت فلسطين في تلك اللحظات، صورة شبيهة بما يجري على طول جبهة الخصام العنيف من قندهار إلى غزة، مروراً بالعراق وسوريا ولبنان وغيرها من مناطق الهلال المتأزم، لكن الأكيد أن الأميركي في حالة من الهبوط الغريب، فيما أدوات حربه التقليدية لا يمكنها انتزاع نصر أو توازن كاسر. أبداً لا يمكنها ذلك، فيما لحظة الجنون النووي أيضاً غير ممكنة، لأن الأميركي يخشى من الأوراق الإيرانية العسكرية المستورة، وبينها أن تكون إيران نسخة ثانية عن كوريا الشمالية التي فاجأت الجميع بامتلاكها القنابل النووية من دون اللجوء إلى تفجير نووي معروف، مع الالتفات جيداً إلى أن الإيراني يمتلك خيار الضربة الثانية الموصلة، أي يمتلك غواصات قادرة على حمل السلاح النووي، وهي أيضاً قادرة أن تكون في أي بقعة من محيطات الأرض، بما فيها المحيط الأطلسي، ما يعني أن الأرض الأميركية نفسها قد تكون موضع تهديد جدّي وجارف، وهذا بحد ذاته يضعف خيار الحرب النووية، ويصمم المنطقة على توازن يضعف بقوة خيار الحرب. لكن يجب أن تكون خياراتنا دائماً على قاعدة الأسوأ في عالم الإمكان، وأن تكون مواقفنا على قاعدة: لا أعطيكم بيدي إعطاء الذليل، ولا أقرّ لكم إقرار العبيد، والقتل لنا عادة وكرامتنا من الله الشهادة.
أيضاً يجب الانتباه جيداً إلى أن حجم التحديات المقبلة كبير، لكن هذا لا يعني أن التغييرات كبيرة بالحجم نفسه، فقد علّمتنا تجارب التاريخ المتعاقبة أن حشد الترسانة وأدوات الحرب تتبعه سياسة خصامية شديدة ونزاعات تهديدية، فيما فرصة اشتعال النار تتوقف على ناتج ميزان الربح ونسبه، وهذا غير متوافر الآن في القضية الشرق أوسطية بين الأميركي والإيراني، حيث إن الإيراني برع في إظهار القوة الرادعة جداً، لكن سياسة الحرب لا تتبع دوماً نظم الفعل العاقل، إذ أثبت التاريخ في دوراته المختلفة أن جزءاً من الجنون يحكم مراكز القرار ودوافعه، ما يعني بناء جملة من المواقف، وشبكة من الأفكار تلحظ جانب العصب النفسي لدى الناس، حيث يجب التذكّر جيداً أن حروباً كثيرة كسبها المظلوم بسبب القدرات النفسية الكبيرة لدى شعبه وناسه، وعلى الأقل يجب بناء الموقف على نحو متماسك وقوي يظهر جانب القوة في خطابنا والعناد في سياستنا، وإن أي حرب على لبنان ستكون هذه المرة مأخوذة بحسابات الجانب النفسي أكثر من أي شيء آخر...
من هنا علينا دعم المقاومة بالموقف العنيد والمجاهرة بقوة بذلك، وتكرار الأوصاف المؤثرة في النفوس، وخاصة أن جزءاً مركزياً من الصراع وصناعة القرار يتوقف على البنية النفسية، ثم تأكيد التزام تاريخ وخيارات هذه المقاومة التي أثبت التاريخ أنها أكبر ضمانات الشرق في وجه أخطر الحملات الاستعمارية الأميركية الإسرائيلية وأضخمها، وهذا يعني تأكيد الموقف الديني (خاصة)، لما له من مدلول كبير في قاموس الخصم الأميركي الإسرائيلي وغيره، لأن الإرادة الدينية شكلت أهم خصائص قوة المقاومة، وأقوى دوافعها، ما أفرزها قوة فريدة لا مثيل لها في دورات الفعل الأسطوري. إن الخصم الكبير والصغير يعوّل جداً على ابتكار خصم داخلي مُعمَّم يساعد على بلورة خطاب تشكيكي من تحت العمامة، بهدف استئصال قوة المقاومة وإرادتها التي أذهلت واشنطن وتل أبيب وبروكسل وعواصم كثيرة، ومن الوجوه الحاقدة واللئيمة، وهمّه الوحيد النيل من قدسية المقاومة، وتحويلها في الذهن الشعبي والقاموس السياسي إلى ميليشيا كتلك التي مارستها الأيدي القذرة في الداخل اللبناني، وسط بناء عسكري ميليشياوي تعتمده أنظمة ما وراء البحار، لتكريس توازن فيدرالي على مستوى السلاح الطائفي، وتحويل البلد إلى مركز استقطاب للتكفير والتفجير، وخاصة أن المحور الدولي الإقليمي مقتنع تماماً بضرورة تحويل البلد إلى ساحة يأكل بعضها بعضاً في حال الخسارة...
* المفتي الجعفري الممتاز