رياض صوما *
مع دخول إدارة بوش الفترة الحاسمة التي تسبق بدء معركة الانتخابات الرئاسية في الولايات المتحدة، بدأت الخلافات بين مقاربة وزارة الخارجية ولجنة بيكر ــ هاملتون، وبين مجموعة ديك تشيني، تظهر الى العلن بصورة أكثر حدة ووضوحاً. وقد يعتبر البعض أن هذه التباينات نوع من توزيع الأدوار، حيث يعزز تشدّد تيار تشيني وغيتس وتهديداتهما فرص نجاح المناورات السياسية للآنسة كوندي وفريقها.
لكن هناك من يرى أن ثمة خلافات حقيقية بين من يرى ضرورة الاستمرار بالضغط السياسي والاقتصادي والعسكري على معارضي الوجود الأميركي والأطلسي في الشرق الأوسط الكبير، وصولاً الى شن عمليات ضد إيران وسوريا ولبنان، وبين من يرى ضرورة توسيع نطاق المفاوضات وتفعيلها مع هذه الأطراف. لكن ما يجري في المنطقة يشير الى رجحان نهج التشدد الأميركي في فرض إيقاع الأحداث.
ففي العراق رُفع عديد القوات الأميركية، وانتقل الحديث من توفير الشروط لجدولة الانسحاب، الى ترتيب الوضع بما يسمح بتثبيت الوجود العسكري الأميركي بشكل دائم. وقد صرّح قائد القوات الأميركية منذ أيام بأن القضاء على التمرد يستوجب بقاء الجيش الأميركي لمدة عشر سنوات على الأقل. وفي أفغانستان امتد القتال في الأشهر الأخيرة من جنوب البلاد الى وسطها وغربها وشمالها، وارتفعت وتيرته. وفي لبنان استمرّ الأميركيون بتشجيع قيادات الفريق الحاكم لتجاهل مختلف مبادرات التوسّط والتسوية، وخاصة الإيرانية والسعودية والفرنسية. وتواصلت محاولات الضغط على الجيش لتغيير عقيدته القتالية في اتجاه دفعه لإعطاء الأولوية للمشاركة في الحرب على «الإرهاب»، ومواجهة «الخطر السوري». وهذا ما سيجعله عملياً أكثر ارتهاناً للإمداد اللوجيستي الأميركي ولتوجّهات الاستراتيجية الأميركية. وتُستغلّ جريمة فتح الإسلام في حق الجيش من أجل هذا الهدف. أما في فلسطين، وغزة تحديداً، فكانت الخطة الأميركية المعلنة بتحويل حرس أبو مازن الى جيش حقيقي يتولى إنهاك حماس عسكرياً، قد قطعت شوطاً لا بأس به. وكان استمرار الحصار العسكري والسياسي والاقتصادي الغربي والعربي يساهم في ذلك. وكانت الأجهزة الأمنية الرسمية والسرية التابعة لمحمد دحلان قد انتقلت من تنظيم الإضرابات والصدامات وعمليات الخطف والاغتيالات، الى إطلاق القذائف على مجلس الوزراء خلال اجتماعه، ما دفع حركة حماس إلى قطع الطريق على الاهتراء المتواصل للوضع وحسم الصراع. وقد أثارت تلك الخطوة الكثير من الانتقاد، حتى من قبل أوساط حريصة على القضية الفلسطينية، ورافضة لمشاريع إدارة بوش. ومع ذلك، ينبغي مقارنة الكلفة التي دفعها الشعب الفلسطيني والقضية الفلسطينية نتيجة الحسم، مع كلفة انتصار الجناح الفتحاوي الساداتي المرتبط ارتباطاً كلياً بالمشروع الأميركي الصهيوني. وفي مختلف الأحوال، فإن ما حصل ليس سوى النتيجة الحتمية لرفض إدارتيْ بوش وأولمرت وأتباعهما في المنطقة، التراجع عن سياسات التصفية السياسية والجسدية للقوى الرافضة لمخططاتهم.
وقد كشف إسراع الولايات المتحدة الأميركية وأوروبا وإسرائيل إلى دعم أبو مازن، وإعلان بوش وأولمرت خلال لقائهما الأخير الحرب على قطاع غزة، الأهداف المطروحة من قبلهما. فالهدف الأول توجيه رسالة الى الشعب الفلسطيني وشعوب المنطقة مفادها إما الخضوع وإما الحصار والموت. والهدف الثاني هو أنه لا تراجع عن سياسة تعديل التوازنات السياسية، على الساحتين الفلسطينية والإقليمية، لغير مصلحة خيار الصمود والممانعة، بكل الوسائل. الهدف الثالث هو مواصلة إنهاك الساحة الفلسطينية، تمهيداً لإعادة السيطرة المصرية على قطاع غزة، والتسلّط الأردني على الضفة الغربية، بعد إفشال مشروع الدولة الفلسطينية المستقلة القابلة للحياة. ولكن هل سينجحان في فرض إرادتهما؟ وهل ستقتصر تداعيات ذلك على غزة، وعلى الساحة الفلسطينية وحدها؟ يمكن القول، الآن، إن حماس قد نجحت تكتيكياً في إجهاض خطة إسقاطها بالضربة القاضية، كما كانت قد نجحت في إحباط خطة إسقاطها بالحصار الاقتصادي والفوضى الأمنية. ولكن ما جرى حتى الآن هو مجرد معارك في حرب طويلة. فهل تصمد في وجه الضغوط الراهنة والمقبلة، وتكسر العزلة السياسية التي يجهد أخصامها الكثر في خنقها من خلالها؟ وهل يستطيع حلفاؤها الإقليميون دعمها حتى لا يخسروا مواقعهم الواحد تلو الآخر؟
يخطئ من يرى الى الصراع الذي دار ويدور في غزة خارج نطاق الصراع العنيف الذي تخوضه إدارة الولايات المتحدة لتثبيت احتلالها الشامل للمنطقة. وجورج بوش لا يتوقف عن تكرار معزوفته حول تشبيه معركته الراهنة ضد «المتطرفين الإسلاميين» بمعركة أميركا ضد الشيوعيين. يعتقد جورج بوش وبقايا محافظيه الجدد، وخاصة جماعة ديك تشيني، أن تصفية مقاومي مشروعه الإمبراطوري في الشرق الأوسط الكبير يقتضي إخراجهم من الحياة السياسية ولو بالقوة، بغضّ النظر عن قبولهم أو عدم قبولهم بـ«اللعبة الديموقراطية»، الى جانب حصارهم بالنيران، كما يجري حالياً في أفغانستان والعراق وفلسطين والصومال ولبنان... وأن هذا سيضمن على المدى البعيد، الاستقرار للاحتلال الأميركي ــ الإسرائيلي ــ الأطلسي. ولكن مقارنة ما يجري حالياً على امتداد المنطقة، مع ما جرى سابقاً، يشير الى مسار آخر محتمل، أكثر شبهاً بالمسار الفيتنامي، بعد تطبيق استراتيجية الفتنمة.
فها هو جنوب أفغانستان يكاد يفلت من قبضة القوات الأفغانية ــ الأطلسية المشتركة. ووسط العراق يستمر بالاشتعال، وجنوبه يشهد بدايات قتال واسع ضد القوات البريطانية، على رغم الخطط الأمنية المتواصلة والحرب المذهبية المشبوهة. وغزة تتجه إلى التحول، على رغم الحصار، وخاصة إذا أحسنت حماس التعامل مع مقتضيات المرحلة، الى منطقة محررة فعلياً من الاحتلال الاسرائيلي، تلاقي جنوب لبنان المحصّن بالمقاومة الوطنية والإسلامية، وبالجيش الوطني. وإذا استمرت سياسة الأطلسيين الراهنة في استباحة المنطقة، لعشر سنوات على الأقل، كما تقول قياداتهم، والله وحده يعلم ماذا يستجدّ خلالها، فظهور المناطق المحررة، و«الإمارات المسلحة»، كما يرغب المصابون برهاب الإسلاميين في تسميتها، مرشح للانتشار من آسيا الوسطى الى شواطئ المتوسط.
وهذا في حقيقة الأمر التطور الطبيعي للأمور، الذي يفرضه الوجود الأميركي والأطلسي، الذي يأكل يوماً بعد يوم من شرعية البنى السياسية «المعتدلة» المتآكلة أصلاً، ويعزز منطق البنى «المتطرفة» وقدرتها. وفي سياق جدلية التكيّف والتكيّف المضاد، سيتخذ الوجود الغربي أكثر فأكثر طابع الوجود الاستعماري التقليدي، وسترتدي القوى المضادة له، ولو كانت بدايتها ملتبسة وقاصرة أيديولوجياً وسلوكياً، طابع حركات التحرر الوطني ومقوماتها. هذا هو منطق الأمور، إلا إذا صحّ ما يقوله البعض، ومنهم مناضلون سابقون، مستبطنين آراء المحافظين الجدد، بأن الإمبريالية قد تغيرت، وأننا شعوب خارج منطق التاريخ. إذا أخذت الأحداث هذا المسار، بسبب العناد الأميركي والغربي، والأرجح أنها ستأخذه، ستتحول غزة، على رغم مرارة البعض ومخاوف الكثيرين، من استثناء مفجع في تاريخ النضال الفلسطيني، الى نموذج مرشح للانتشار على امتداد المنطقة. ولنركّز أنظارنا على ما سيجري في لبنان خلال الأشهر القليلة المقبلة.
* عضو المجلس الوطني للحزب الشيوعي اللبناني