strong>هشام نفاع *
انقسم يساريون كثيرون، بثنائية حاسمة، إلى معسكرين إزاء ما تشهده غزة المحتلة. طرفٌ أيّد حماس لأنها «روح الشعب» وخوّن فتح بحزم ما بعده حزم. وآخر أنزل بحماس ما شاء الله من إدانات، مبقياً المشروع الوطني الفلسطيني وديعة حصرية في أيدي فتح. اختلف الموقفان، لكن السلوك واحد. والإخفاق كذلك.
لكن أخطر التفاعلات مع ما جرى في غزة، هو ذلك المرسوم بالأسود والأبيض. بمعنى اختيار التمترس في معسكر معيّن ضد معسكر آخر. لأن هذا يعني القبول بلعبة المعسكرات المتناقضة التي يلغي أحدها مجرّد وجود الآخر؛ اللعبة التي تقصم ظهر قضية شعبنا الفلسطيني كما يتفق جميع المختلفين في الاستنتاجات.
إن اختيار التقوقع في وصف حماس بتعابير لا تختلف كثيراً عمّا تسوّقه العصابات الحاكمة في محور واشنطن، تـُفشِل صياغة موقف قادر على احتواء مجمل الصورة، وبالتالي استشراف وجهة الأمور. لأنه لا يُعقل الالتقاء مع أتباع «صدام الحضارات» في التوصيف، والبقاء يسارياً. ولأن عدم الانطلاق من الواقع السياسي لتحليل مجمل مظاهر التعصّب يحوّل الشخص نفسه إلى أصولي جوهراني. وعلى صعيد آخر، لأن ما وقع أخيراً في القطاع المحتل لم يكن انفجاراً غير محسوب. إنه ليس مفاجأة من السماء، بل هو تطوّر قد تمكن تسميته «طبيعياً» إزاء ما سبقه. طبعاً، هذا إذا بقينا واعين ومنتبهين بأعلى درجات اليقظة إلى أن المسبب الأساس لكل هذا الانحدار الخطير، ليس محور التنافس (الذي تجاوز جميع الحدود الدموية) بين فتح وحماس، فحسب، بل ممارسات سلطة الاحتلال الكولونيالي الإسرائيلي، والمنخفض الجوّي السياسي الذي يخيّم على المنطقة تحت هيمنة وحيد القرن الأميركي، وهو ما لا ينطبق على فلسطين وحدها.
من المهم جداً التمعّن في ما كتبه مبعوث الأمم المتحدة المستقيل ألفارو دي سوتو خلال تقريره الخاص لرئيس الأمم المتحدة. فقد انتقد بشدة عدم تعاطي الأمم المتحدة مع حماس التي فازت بغالبية المقاعد النيابية في انتخاباتٍ شهد العالم نزاهتها. وهو يذكّرنا بأنه في اجتماع الرباعية السنوي 2005، كان موضوع مشاركة حماس في الانتخابات مرفوضاً من إسرائيل. وبعد التشاور بين الرباعية بين الرئيس الفلسطيني محمود عباس، رأت الرباعية أن مشاركة حماس مرحلة من عملية التحوّل الفلسطينية نحو الديموقراطية، فتُرك موضوع المشاركة كشأن داخلي فلسطيني. لكن الأميركيين طرحوا بياناً للرباعية في 29 كانون الثاني يتضمّن شروطاً لقبول حماس واستمرار تقديم المساعدات الدولية إذا ما أقرّت بنبذ العنف، واعترفت بإسرائيل، والتزمت الاتفاقات السابقة. حين اقترح دي سوتو على الأمين العام إما حذف الإشارة إلى مراجعة المساعدات، أو ترك الأمر للدول المانحة من الرباعية، ووجه بسيل من النقد والتجريح من مساعد وزيرة الخارجية الأميركية ديفيد ولش، ومن أليوت أبرامز، بما في ذلك التلميح بحجب مساهمات أميركية عن الأمم المتحدة إذا أنفقت أموالاً في مشاريع تنموية في الأراضي الفلسطينية.
إن دقّة البوصلة السياسية تستدعي البراعة في رؤية مجمل حركة السفينة، لا هبّة الريح الهوجاء العابرة مهما اشتدّت في هذا الشراع أو ذاك. من هنا، فالمطلوب الآن هو الحفاظ على موقف مبدئي مثابر يدعو إلى التمسّك بالوحدة الوطنية النضالية الفلسطينية، لكونها الصخرة الأولى والأخيرة التي نراهن عليها جميعاً لتهشيم كل مشاريع الاحتلال الكولونيالي الإسرائيلي. أما التحزّب الفئوي لهذا الفصيل أو ذاك، عبر تكفير وطنية هذا وتنصيب ذاك ملاكًا، فهو تضييع للبوصلة يهدد بضياع الموقف في ريح هوجاء.
إحدى مشاكل اليسار العلماني، أحياناً، هي اختياره السلوك بشكل أصولي. بمعنى التعبير عن مواقف من قضايا شديدة التعقيد استناداً إلى ثنائيات مطلقة، قد تكون قاتلة، عوضاً عن الخوض في جدليات الأشياء. فمن يخرج اليوم لإدانة حماس بشكل مطلق وتحميلها المسؤولية عن التدهورات الخطيرة الأخيرة، لا يختلف بشيء عمّن يهوى إدانة فتح في كل صبح ومساء، وكأنه بهذا يستحق وسام «راديكالي عنيد»! في كلتا الحالتين أمامنا سلوك يختار التقسيمات العمودية التي تعمّق إنتاج التصوّرات الثنائية الإلغائية، ما يضيّع عنصرين هامين: التفاصيل والسياق.
إن اليسار هو أكثر المطالبين بربط الواقع الاجتماعي والطبقي بالسلوكيات السياسية. هنا، سيكون أقرب إلى العبث تجاهل حقيقة أن الحصار الاسرائيلي ـــــ الأميركي ـــــ العربي الرسمي لحكومة السلطة الفلسطينية المنتخبة قد فاقم الاحتقان والإحباط وجاء بالانفجار. لا ينطبق هذا على حكومة حماس الأولى فحسب، بل على حكومة الوحدة الفلسطينية المنبثقة من «اتفاق مكة». هذه الأخيرة ضمّت مختلف الفصائل وأولها حماس وفتح. ورغم أنها جاءت تعبيراً عن الإرادة الوطنية الفلسطينية، فقد تعرّضت لخنق فوريّ قاتل باسم تلك القحبة المسماة «الشرعية الدولية». تلك التي تطالب الفلسطيني الرازح تحت الاحتلال بالاعتراف بقامعه وحقه بالوجود، فيما هذا الاحتلال يواصل جميع مشاريع إحكام سيطرته الكولونيالية وفرض الوقائع على الأرض ورفض النديّة والتكافؤ.
إن الأخطر في دخول لعبة توزيع الاتهامات الإطلاقية بالأسود والأبيض عبر وصم هذا بالأصولية وذاك بالعمالة، هو أن هذا يبعد الضوء عن مكانه الصحيح، وهو ساحة الاحتلال الإسرائيلي المدعوم أمريكياً وعربياً. ومن تشده العواطف الآن إلى «لعب الأولاد» المتمثّل بالتحزّب القبلي لأيّ من الطرفين، سيكتشف أنه إنما نسي التركيز على المجرم الأكبر، الاحتلال الإسرائيلي. وقد يجد نفسه لاحقاً يردد نغمات تشكّل نشازات صغيرة منسجمة في نشاز إسرائيل والبيت الأبيض وأنظمة العرب الخانعة، بشأن «الاعتدال والتطرّف» و«دمقرطة» منطقتنا بالوعيد والتهديد والخنق ودوس إرادات الشعوب ومصالحها.
بما أن الاقتتال الفلسطيني لم يبدأ أمس، فلا يمكن صياغة مواقف متسرّعة بوتيرة إنتاج الصور المتلفزة لحدث يتيم. هناك سياق للأمور، وهو يعجّ بالتفاصيل. يجب على من لا يزال على اقتناع بأن الهدف الأول هو إنهاء الاحتلال الكولونيالي، اليقظة والوعي أن الضمانة الوحيدة لتحقيق هذا الهدف هي السعي للحفاظ على حجر الزاوية الفلسطيني، وهو الوحدة الوطنية. ففي الأوقات السهلة، من السهل ترديد مقولات الوحدة، لكن التحدّي الحقيقي هو القبض على جمر الوحدة، حين تجتاح الواقع صعوبات مصيرية.
* كاتب فلسطيني