علاء اللامي *
تقدم حالة المقاومة المسلحة في العراق مثالاً بالغ الوضوح على التأثيرات المتناقضة والعميقة التي تتركها عملية أدلجة وتصفيح الجماعات المسلحة المقاومة للاحتلال بالشعارات والتقاليد القتالية ذات المنحى الديني، وهو هنا الإسلامي تحديداً. ففي مجتمع منقسم طائفياً وقومياً وبعمق بين مسلمين شيعة وآخرين سنة وبين عرب وأكراد وأقليات قومية صغيرة أخرى، يغدو رفع الشعارات الدينية أو القومية، مهما كانت نيات الفاعلين حسنة ومخلصة، تغدو عملية تطويق وتحشيد للجماعات المقاومة نفسها في الأطر القومية أو الدينية الطائفية، ما يجعلها متماهية بالتدريج مع برامج ورؤى بعيدة أو متناقضة جوهرياً مع البرامج والرؤى الوطنية الناظمة لحركة المجتمع الهادف للخروج من حالة الاحتلال.
بكلمات أكثر وضوحاً: حين يعلن تنظيم أو شخصية سياسية عن كونه إسلامياً في مجتمع منقسم طائفياً كالعراق، فإنه يحال فوراً إلى انتمائه الطائفي، لا إلى فكره الأيديولوجي الإسلامي، مع أن الفارق بين الإثنين ليس نوعياً.
سيكون من المفيد التأكيد على أن هذه الفكرة الحذرة والمحذرة لا تنفي أو تنزع الشرعية عن حق الناس في تبني الشعارات والبرامج السياسية التي تراها مناسبة وملائمة لتطلعاتها حتى لو كانت ذات طبيعة سلفية دينية مناهضة للاحتلال، إنما ينبغي أن تكون ضمن الإطار أو الخطاب الوطني السائد. ولو اقتصرنا كلامنا على الشق الطائفي الديني ـــ نظراً إلى عدم فعالية عامل الانقسام القومي «عربي/ كردي» في الوقت الحاضر في العراق ـــ لوجدنا أن من العسير فعلاً فصل الحالة الطائفية عن الحالة الاستقلالية في خطاب ونشاط الغالبية المطلقة من الجماعات المسلحة التي تقاوم المحتلين. غير أن أساس المشكلة ليس في مآل الحالة المقاومة بل في بداياتها قبل أربعة أعوام.
من ناحية أخرى، لا يمكن لنا مقارنة حالة المقاومة اللبنانية التي قادها حزب الله في جنوب لبنان بالحالة العراقية لأسباب مختلفة وتأثيرات من طبيعة أخرى، منها ما يتعلق بطبيعة الاحتلال الصهيوني لجزء من لبنان ذي طبيعة ديموغرافية معينة وليس كالاحتلال الأميركي للعراق.
لقد قدمت تجربة المقاومة العراقية في المناطق الغربية وشقيقتها في الفرات الأوسط والجنوب خلال انتفاضتي الصدريين خلاصات لا يمكن التفريط بأهميتها. ولا يمكن إغماض العين عن العلاقة السببية بين واقع الحال الذي تعيشه تلك المقاومة حيث التشتت والتناحر الذي بلغ درجة الاقتتال والقطيعة، وبين الطبيعة التكوينية ذات المضامين الطائفية للجماعات المقاومة ولقياداتها.
قد يجد البعض سبباً لهذه الظاهرة في التحاق قوى الحركة الوطنية العراقية الكلاسيكية بالاحتلال وعمليته السياسية الهادفة إلى ترسيخ وجوده وتأخر بروز حركة وطنية عراقية بديلة وشاملة جغرافياً وسكانياً، أو في الميول الدينية أو الطائفية لمسؤولين كبار في النظام العراقي المطاح به والذين وجدوا أنفسهم على هرم الكيانات المسلحة المقاومة، أو في سبب ثالث يتعلق في دخول التيار التكفيري المسلح والممول جيداً، ممثلاً بتنظيم القاعدة على الحالة المقاومة العراقية، أو في رابع يحيل الأمر برمته إلى مساعي المحتل لشرذمة المقاومة وغرس حالة الصراع الطائفي بين فصائلها. غير أن هذه الأسباب كلها لن تلغي تأثير واقع الحال المجتمعي المنقسم ذاته ولا آلية وسيرورة التحول التي مرت بها التنظيمات المسلحة خلال السنوات الأربع الماضية.
وهكذا، فبين حق الناس في مقاومة الاحتلال تحت الراية الأيديولوجية والشعار السياسي الذي يرغبون فيه وبين الضرورة الوجودية لشمولية ووطنية المضمون والخطاب المقاوم، ثمة موازنة شديدة الدقة والتعقيد. وبما أن الأمر لا يتعلق بإسقاط الرغبات على واقع متحرك وسيال، فلا بد بداية من تحديد التأثيرات الضارة لأسلمة المقاومة، أي لجعل الشعار الإسلامي ـــ وهو هنا إما أن يكون «إسلامياً سنياً» أو «إسلامياً شيعياً» ولا خيار بينهما، أو للدقة لا خيار ثالثاً بينهما عملياً حتى الآن، وبذل الجهود التوحيدية على الأساس الوطني بما يجعل الشعار الوطني هو الأصل، ومنه تشتق النماذج التطبيقية لتحقيق حالة الحق الديموقراطي في تبني الشعار والبرنامج السياسي المناسب، لا العكس كما هو واقع فعلاً حيث يراد من الجميع تقديم البيعة ذات المضمون الطائفي أولاً، ومن ثم الدخول كتابع في هذا الكيان أو ذاك.
قد يكون هذا التوصيف التحليلي أكثر إحاطة ودقة عند الكلام على جماعات المقاومة في المناطق الغربية ذات التركيبة السكانية «السنية»، ولكنه يصدق أيضاً وإنْ بدرجة أقل من الوضوح عند التعرض بالتحليل للتيار الصدري الذي شكل وما زال جزءاً مهماً من حالة المقاومة العراقية. وذلك رغم أنه لم يقطع بعد مع العملية السياسية الاحتلالية التي يديرها المحتل، ورغم أن التيار أو جزءاً مسلحاً محسوباً عليه تورط عملياً في ممارسات طائفية وأخرى قمعية ضد السكان.
وكخلاصة أو استنتاج، يمكن القول بأن الانقسام المجتمعي الطائفي قد مارس تأثيراته على الوسائط والقيادات التي تصدت للعمل المقاوم. وحين فُقِدَ أو امتنع انتشار السياق الوطني الشامل الذي تقوده حركة وطنية ممتدة عراقياً أتت العوامل التي سبق ذكرها، فأنتجت مقاومات ذات انتماءات وبرامج تقوم على الأساس الطائفي والعرقي بدلاً من مقاومة وطنية شاملة على المستوى الوطني. ولكن هل يعتبر هذا الاستنتاج خاتمة المطاف أم أنه رهن بعوامل وتطورات أخرى؟
الأكيد هو أن سيولة الحالة العراقية وتبلبلها الشديد وخضوعها لعوامل وتأثيرات متناقضة ستقلل من التأثيرات السلبية لهذه الظاهرة وسوف يساعد على تطويقها أي جهد يبذل على مستوى القيادات المقاومة لرأب الصدع والاتفاق على برنامج الحد الأدنى الاستقلالي والصعود من خناق وحفر الانتماءات الطائفية والقبلية إلى فضاء الانتماء الوطني والديموقراطي.
*كاتب وصحافي عراقي