وهيب معلوف *
لا تزال ماهيّة ما يسمى «المجتمع المدني العالمي» ـــ وهو مصطلح درج في تسعينات القرن الماضي ـــ محطّ جدال وتساؤل عند الكثير من الباحثين، ما يطرح تساؤلات عدة مثل ما إذا كان هذا المجتمع جزءاً من النظام العالمي المهيمن أم أنه بطبيعته تقدميّ ويسعى إلى مقاومة النظام المذكور؟
من جهة، يشير بعض المراقبين إلى «مجتمع مدني عالمي» آخذ في النشوء، يشمل بعض شبكات المنظمات غير الحكومية والحركات الاجتماعية، ويعتبر ـــ في ظل العولمة وانحياز ميزان القوى لمصلحة المنظمات المتعددة الأطراف والشركات المتعددة الجنسيات ـــ مساعداً ومؤثراً في توسيع دائرة السلطة المهيمنة. وفي هذا الإطار، أدّى ازدياد الروابط بين المنظمات غير الحكومية والمنظمات الحكومية العالمية إلى نمو ائتلافات ومجموعات ضغط لإقناع الدول على تعديل نظمها وقوانينها. وأبلغ مثال على ذلك هو أن المنظمات غير الحكومية العالمية لـ«الإغاثة والتنمية» ـــ التي هي جزء لا يتجزّأ من النظام الدولي المهيمن ـــ تقدّم الآن مساعدات تفوق بحجمها تلك التي تقدمها الأمم المتحدة.
من جهة أخرى، يرى كثيرون إلى «المجتمع المدني العالمي» بما هو مجموعة المنظمات واللاعبين المعنيين مباشرة بمقاومة الأعمال اللاديموقراطية للنيوليبرالية المتعولمة. من هذا المنظور، يبدو المجتمع المدني العالمي هو مساحة مستقلّة، ولو نسبيّاً، يلتقي فيها الناس وينظّمون مقاومتهم للمنظمات الحكومية الدولية التي تجسّّد مصالح الدول المهيمنة والشركات المتعددة الجنسيات التي تسعى إلى تسليع كل شيء على مستوى العالم.
المدافعون عن مثال «المجتمع المدني العالمي» يشيرون إلى أمثلة تدعم زعمهم بأنّ هذا المجتمع هو وليد التخيّل الشجاع والقدرة التغييرية للعمل غير الحكومي وغير الربحيّ. ومصدر إلهام هؤلاء هو التظاهرات الكبيرة والمبادرات الأهلية الشجاعة التي أضحت أحداثاً اعتيادية في تسعينات القرن الماضي. وبالنسبة إلى العديد من هؤلاء النشطاء، شكلت الحركات الاعتراضية التي رافقت اجتماع منظمة التجارة العالمية في مدينة سياتل في كانون الأول عام 1999 حدثاً بالغ الأهمية. إذ لم تفضِ الاعتراضات إلى نهاية غير مشرّفة للاجتماع فحسب، بعد أن قام خمسون ألف متظاهر بإقامة الحواجز في الشارع، منتقدين في العلن الشركات العابرة للحدود والاستهلاك المعولم، بل كانت أيضاً إيذاناً بولادة «حركة مناهضة للعولمة».
ضمن هذه الخلفية، يمكن قراءة كتاب المفكر السياسي البريطاني جون كين بعنوان «مجتمع مدني عالمي؟» كمحاولة للتوفيق بين هذه الآراء المتنافرة وطرح رؤية جديدة للمجتمع المذكور «تتحدى الصمت المبدئي أو الإرباك اللذين يسودان معظم الأدبيات المعاصرة حول العولمة»، على حد تعبيره.
يدعو كين أوّلاً من يسمّيهم أصحاب النظرة الرومنطيقية المثالية للمجتمع المدني إلى السير قدماً نحو تفكير جديد. وبعض هؤلاء يسير على خطى المفكر الماركسي الإيطالي أنطونيو غرامشي، وغالباً دون أن يدروا بذلك، على ما يقول كين. فهم ينطلقون من تعريف ضيق لـ«المجتمع المدني العالمي» بما هو المساحة «غير الاقتصادية» للتفاعل الاجتماعي و«الواقعة بين العائلة، الدولة، والسوق والمشتغلة خارج حدود المجتمعات الوطنية، والأنظمة السياسية والاقتصادية». والبعض الآخر، يضيف كين، يتحدت عن «القدرة السياسية» للمفهوم، بوصفه «مساحة ديناميكية للعلاقات العابرة للحدود والنشاطات التي تبقي على مسافة معينة من الأسواق والدول». بالنسبة إلى هؤلاء، يعتبر المجتمع المدني العالمي قوة أساسية في سبيل «العولمة من تحت»، نظراً إلى قدرته على تبني قيم كونية مثل مكافحة الإرهاب، الرفاهية الاقتصادية، تحقيق العدالة الاجتماعية والسياسية والحفاظ على البيئة. وتذهب أحياناً هذه النظرة المثالية إلى حدودها القصوى، عبر الدعوة إلى الثورة على الهيمنة الرأسمالية، كما في «النيوشيوعية الفكرية» للأميركي مايكل هاردت والإيطالي أنطونيو نيغري في كتابهما «الأمبراطورية».
يرى هاردت ونيغري أن النظام العالمي الراهن ـــ عبر خلط الحدود ما بين الحكومة والمجتمع، الإطار الوطني والعالمي ـــ قد أسهم في اختفاء المجتمعات المدنية بشكلها الحديث، ما أدّى إلى قيام حركة مقاومة شاملة لـ«الآلة الإمبريالية». يطلق هاردت ونيغري على حركة المقاومة هذه اسم «المجتمع المدني العالمي». لكن، بالنسبة إليهما، لا يشكل هذا المجتمع هدفاً بحد ذاته، إذ إنه ظاهرة عابرة يخيم عليها طيف الشيوعية وتمهد لنظام اجتماعي مستقبلي غير موسوم بالقسمة بين الحكومة والمجتمع المدني ـــ نظام سوف تنتصر فيه «الخفة والفرح في كون المرء شيوعياً»، وهذه المرة على مستوى العالم.
يرى كين أن تصورات مثالية كهذه تعطي انطباعاً خاطئاً بأن المجتمع الآنف ذكره هو جسم موحد، «قوة ثالثة»، أو أشبه بـ«بروليتاريا عالمية بلباس مدني» باستطاعتها كسر القيود ووضع «عالمنا الذي ليس للبيع» موضع التنفيذ. في نقده للنظرة المثالية الآنف ذكرها، ينطلق كين أولاً وأخيراً من مسلمة مفادها أن قوى السوق هي محرك أساسي للمجتمع المدني العالمي. وللتدليل على ذلك، يعود بنا إلى رأسمالية دولة الرعاية الاجتماعية الكينزية (نسبة إلى الاقتصادي البريطاني جون ماينارد كينز) التي سادت في الغرب عقب انتهاء الحرب العالمية الثانية، ليقارنها مع رأسمالية العولمة التي نشهدها اليوم.
لثلاثة عقود خلت بعد انتهاء الحرب العالمية الثانية، سلكت اقتصاديات السوق الرأسمالية في عدد من البلاد الكبرى ـــ مثل الولايات المتحدة، السويد، اليابان وبريطانيا ـــ مسار الاقتصاد الرأسمالي الموجه من الدولة. لذا كانت الشركات والصناعات، في إطار إنتاجها السلع والخدمات، «وطنية» بأكملها. إذ إن الإنتاج كان بمعظمه ينظم ويحصل ضمن اقتصاديات وطنية معروفة الحدود. بكلام آخر، «كانت الأسواق مغروسة في شبكات الحكومة»، بحسب تعبير كين.
بالمقابل، في عصر رأسمالية العولمة، تزداد الضغوط داخل المجتمع المدني من أجل تغيير جذري للنظم والقوانين التي تفرضها الدول على الاقتصاد، «مستفيدة من التطور المستجد في الاتصالات الرقمية»، يقول كين، «تنمي مؤسسات السوق واللاعبون فيها حساسية تجاه قوانين الدولة المتعلقة بالاقتصاد، وخصوصاً تلك المفترض بأنها تفضي إلى نتائج أكثر عدالة على المستوى الاجتماعي». لذا تجنح الأسواق إلى التفلت من التزاماتها الاجتماعية والتحرر من ضوابط الحكومات المحلية. الجديد في هذا، بحسب كين، هو أن رأسمالية العولمة تدفع الجميع إلى عمليات من «الاندماج العميق». بكلام آخر، نحن إزاء عالم يعرف فيه الملايين تمام المعرفة أن هناك شيئاً واحداً أسوأ من المشاركة في نظام رأسمالية العولمة: أن يتركوا خارج النظام المذكور. لذا، سواء أكان للأفضل أم للاسوأ، «الناس يهربون من الأعشاش الاجتماعية الوضيعة أو تلك التي يسودها العنف، بهدف رفع مستوى معيشتهم»، وذلك بأن يدخلوا في حلقة من الاتكال المتبادل في أسواق أكبر حجماً. هذه هي حال «العالم المديني المتمدّد، غالباً على نحو غير شرعي، في الـ«بيدونفيل» الهايتية، الـ«بارونغ ـــ بارونغ» الفيليبينية، الـ«فافيلا» البرازيلية، وفي الخليط الفوضوي المتضخم من المنازل المتداعية والمصانع على تخوم بكين.
«الفوارق الاجتماعية الصارخة الناتجة عن عمليات السوق ضمن المجتمع المدني العالمي»، يكتب كين، «قد حدت ببعض المراقبين إلى السؤال عما إذا كان يمكن تصنيف قوى السوق في خانة المجتمع المذكور». وهو سؤال، بحسب كين، يدلل على نزعة قوية لدى الأدبيات الراهنة حول الموضوع للاعتماد على تمييز أنطونيو غرامشي ما بين المجتمع المدني (الفضاء العام المتكون من مجموعة المنظمات غير الربحية أو غير الحكومية) والسوق (الفضاء المخصص لإنتاج وتبادل السلع بهدف توليد الأرباح أو الاستيلاء عليها).
يرد كين على هؤلاء بالدعوة إلى تجاوز التضاد الذي يقيمه أتباع غرامشي ما بين المجتمع المدني والسوق، باعتبار أنّ الشركات الكبرى بمساعدة المتعاملين معها من الشركات المحلية والإقليمية الأصغر حجماً، لها «تأثيرات تمدنية مؤكدة على المجتمع المدني العالمي المغروسة فيه». والمفاوضات بين الشركات هي مثال واضح في هذا الإطار، إذ يعلم المديرون التنفيذيون للشركات الكبرى بوجود قوانين وأعراف اجتماعية معينة يجب احترامها، إن هم أرادوا بناء علاقات عمل مع بلدان خارجية، مثل كوريا الجنوبية مثلاً. إلا أن الشركات الكبرى لا تكتفي بتعزيز وتحديث المعاني الاجتماعية فحسب، بل إن أعمالها لا تتماشى مطلقاً مع العنف، وهي بهذا المعنى «تسهم في روح التمدن التي يتغذى منها المجتمع المدني العالمي».
غير أن كين لا يلبث أن يعترف بأن رأسمالية العولمة تقوي سيطرة قوى السوق على حساب مجموعة المنظمات غير الربحية للمجتمع المدني التي يتم ليّ ذراعها وتمزيقها إلى «أجسام تأتمر بقوانين التراكم وزيادة الربحية»، إلى حد أن بعض تلك المنظمات بدأت تتمثّل بشركات الأعمال عبر استحداثها أقساماً للتجارة والإعلام والتخطيط الاستثماري. وعليه، بحسب كين، «يختفي بالنتيجة الحد الفاصل بين عالم الشركات وعالم المنظمات غير الحكومية».
تأملات كين في المجتمع المدني العالمي تصح قراءتها كمحاولة في التفكير الديموقراطي المعاصر، أو هي بمثابة دفاع عن مقاربة للمجتمع المدني العالمي تدعو إلى تفكير ديموقراطي جديد في مواضيع مثل الأسواق العالمية، الإرهاب، والحكومات ذات النفوذ العالمي. والجدير بالملاحظة أن كين يجنح إلى اعتبار المجتمع المذكور تجمعاً متنوعاً وديناميكياً من الهيئات غير الحكومية ويوسع نطاق القوى التي تغذي نمو هذا المجتمع بحيث تشمل قوى السوق في ظل رأسمالية العولمة، الإعلام العالمي، الحركات الاجتماعية، الجامعات الرسمية وغيرها من المنظمات الحكومية. إلا أن مقاربته للمجتمع المدني العالمي وتأملاته فيه تستدعي مجموعة من الملاحظات والأسئلة.
ففي محاولته التوفيق بين نظريتين أحاديتين لموضوع الكتاب، لا يقدم لنا كين مفهوماً محدداً واضحاً لمصطلح المجتمع المدني العالمي، باستثناء أن نظرته له تنطلق من مقاومة «قوى الانغلاق والظلم الاجتماعي، الصلف والقسوة». فهل تصنف منظمات غير حكومية تروّج مثلاً لسياسة المحافظين الجدد الخارجية في خانة المجتمع المدني العالمي؟ أو على الأقل، هل ثمة ما يجمع بين منظمة غير حكومية كتلك المذكورة وأخرى في أميركا اللاتينية مثلاً، تتّكل على التمويل الذاتي وترفع شعارات العدالة الاجتماعية والعمل الديموقراطي؟
وهل من الضروري التذكير بالدور الذي لعبته المنظمات غير الحكومية الأميركية في أميركا اللاتينية، والتي لم تخفِ تأييدها لمجازر أوغستو بينوشيه باعتبارها إنقاذاً لتشيلي من الشرّ الشيوعي؟ أو التذكير أيضاً ببرامج الترويج لـ«الحرب على الإرهاب» التي تلبس اليوم لبوس المجتمع المدني؟
وهل إن الشركات الكبرى هي بمجملها نابذة للعنف لكي «تسهم في روح التمدن التي يتغذى منها المجتمع المدني العالمي»؟ ماذا عن السجل الأسود لبعض للشركات الكبرى في التواطؤ مع السلطات السياسية المنكبة على تدمير خصومها والمجتمع المدني نفسه ـــ كما فعلت في جنوب أفريقيا قبل الثورة على التمييز العنصري، وكما تفعل اليوم من خلال الصناعة العالمية للأسلحة الخفيفة. أو ماذا عن التجارات العالمية مثل تجارة الماس التي تعمل من خلال شبكات إجرامية مؤلفة من الميليشيات والزمر المسلحة؟
وأخيراً وليس آخراً، يعترف كين بأنّ رأسمالية السوق في ظل العولمة تقوي سيطرة قوى السوق على حساب مجموعة المنظمات غير الربحية للمجتمع المدني التي يتم تمزيقها إلى «أجسام تأتمر بقوانين التراكم وزيادة الربحية». فهل يتلاءم مبرر وجود المنظمات غير الربحية ذات الصدقية مع جعلها أسيرة منطق السوق وتحويل جزء كبير من مواردها المخصص لأهدافها المعلنة في اتجاه آخر هو مجرد الحفاظ على وجودها في الميدان الملتهب للمنافسة في اقتصاد السوق؟
لعلّ كين محقّ في وجوب تجاوز النظرة المثالية لمقولة المجتمع المدني العالمي والسير بها قدماً. إلا أنه تجاوز يتطلب إعادة المقولة إلى لحظة ولادتها في نصف القرن الذي سبق بداية الحرب العالمية الأولى في 1914 ـــ «عندما بدأ العالم يشعر أنه أكثر تشابكاً مع بعضه البعض عبر خيوط البشر، رأس المال، السلع والأفكار المتنقلة»، بحسب ما يلاحظ المؤرخ الماركسي البريطاني اريك هوبزباوم ـــ وصولاً إلى لحظة انطلاقها الأهم، يوم كانت المدافع الأبرز عن حقوق الإنسان والعدالة الاجتماعية، ويوم كانت صوتاً مدوياً في وجه الاستعمار والحروب والتسلح والعدوان.
* باحث لبناني