عصام نعمان *
العرب إزاء تقرير لجنة فينوغراد الإسرائيلية فريقان: الأول سعيد والثاني حزين.
الأول سعيد لأن العدو الصهيوني اعترف، للمرة الأولى منذ إقامة إسرائيل في قلب وجودنا، بأن فريقاً عربياً انتصر فعلاً عليه في أطول حرب بين الطرفين. الثاني حزين لأن النصر الذي حققه الفريق الأول على العدو الخارجي يصبّ في مصلحة المقاومة بما هي «العدو» الداخلي. إنه نصر مكروه من أهلِ نظامٍ عربي متداعٍ لأنه يَعِد الأمة بانتصارات لاحقة إذا ما راهنت مجدداً على المقاومة وانخرطت في كفاحها. مبعث السعادة، إذاً، أمل بنصر متجدد. مبعث الحزن خيبة أمل من رهان أخرق على حليف خارجي ضمني ضد «عدو» داخلي علني.
على هذا النصر المكروه من العرب المخاتلين والمتخاذلين، ثمة ملاحظات خمس:
أولى الملاحظات أن ثمة إقراراً في تقرير لجنة فينوغراد بأن إسرائيل دُحرت، سياسياً وعسكرياً، في حربها الثانية على لبنان. الإقرار بالاندحار يتبدّى في كل أجزاء التقرير المؤلف من 171 صفحة موزعة على ثلاثة أبواب رئيسية وثمانية فصول وملحقين اثنين. فيه حمّلت اللجنة إيهود أولمرت، بالدرجة الأولى، تبعة «الفشل الذريع» و«المسؤولية الشاملة» عن «حرب لم يكن لها داعٍ». أين هذا الحكم التاريخي القاسي على رئيس حكومة إسرائيل، بل على إسرائيل نفسها، من ذلك الحكم المتسرّع الذي أطلقه أهل النظام العربي الرسمي على المقاومة اللبنانية، بقيادة حزب الله، بقولهم إن عملية خطف الجنديين الإسرائيليين كانت مغامرةً غير محسوبة؟ حتى هذا التوصيف المتسرّع يبقى قابلاً للتبرير بالمقارنة مع الحكم الأرعن الذي أطلقه الفريق الحاكم في لبنان على نتيجة الحرب إذْ أعلن أركانه بلا خجل مع بدء وقف العمليات الحربية أن إسرائيل انتصرت على المقاومة وعلى لبنان. لماذا وكيف؟ لأنها ألحقت بالبنى التحتية خسائر تُقدّر ببضعة بلايين/مليارات من الدولارات! ألم يكن مشهداً محزناً ومخجلاً أن يأتي مسؤولون ومواطنون عرب ليهنّئوا اللبنانيين بنصرٍ لافت اعتبروه نصراً للأمة كلها، فكان أن فوجئوا ببعض المسؤولين (ممن لم يتحمّلوا مسؤوليتهم التاريخية أثناء العدوان الفاجر) يقولون لهم إن المقاومة ولبنان كانا الخاسرين في المنازلة غير المتكافئة! تُرى، ماذا سيفعله المسؤولون اللبنانيون الأكثر جهلاً وجهالةً وشعوراً بالدونية أمام العدو بعد صدور تقرير لجنة فينوغراد بهذا الوضوح المُحبِط لرهانهم الأخرق؟ هل سيؤلفون لجنة رسمية مهمتها دحض الواقعات والحيثيات والأحكام التي انتهت إليها لجنة التحقيق الصهيونية بغية تأكيد الادعاءات والتخرصات التي حفلت بها تصريحات أركان الفريق الحاكم غداة وقف العمليات الحربية؟!
ثانية الملاحظات أن ثمة إقراراً في تقرير لجنة فينوغراد بأن العدو كان البادىء بالعدوان. فقد ترددت في التقرير كثيراً عبارة «الخروج إلى الحرب» في توصيف فعلة أولمرت الخرقاء، مقرونةً بعبارات أخرى لا تقلّ اعترافاً بها وإدانة لها، مثل: «حرب لم يكن لها داعٍ»، أو «حرب طموحة وغير واقعية»، أو «أهداف غير قابلة التحقيق، تولّد الانطباع بأن القتال سيستمر حتى تحقيقها». كل ذلك لم يقنع أركان الفريق اللبناني الحاكم في حينه وحتى الآن إذْ هم مصرّون على القول إن حزب الله كان البادىء بإطلاق النار لمجرد قيامه باختطاف الجنديين الإسرائيليين، وأسسوا على ذلك موقفاً ما زالوا يكررونه بببّغائية ملحوظة، مفاده أنه لا سبيل إلى إبقاء قرار الحرب في يدّ جهة غير حكومية! هذا مع العلم أن البيان الوزاري لحكومة فؤاد السنيورة ينص على حق اللبنانيين المشروع في المقاومة بالوسائل المتاحة لهم ومن بينها احتجاز جنود العدو، كما حدث مراراً في الماضي، من أجل مبادلتهم بأسرى لبنانيين.
ثالثة الملاحظات أن ثمة إقراراً في تقرير لجنة فينوغراد بأن أولمرت اتخذ «فور عملية الخطف قراراً متسرعاً بشن عملية عسكرية واسعة تدهورت نحو حربٍ، لم ترتكز على خطة معدّة مسبقاً، ولم تتضمن تشخيصاً للأهداف الممكن تحقيقها والسبل المناسبة لذلك، ولا آليات تتحكم بحجم العملية وتستند إلى معرفة عميقة بساحة العمليات وبالقوات الفاعلة فيها، وان القرار اتخذ من دون إجراء فحص جدي لجهوزية الجيش ومن دون دراسة حذرة للسيناريوهات المحتملة لتطور الحرب». والغريب أن الصحافة الإسرائيلية كانت سرّبت خلال شهر آذار الماضي مقاطع من شهادات نُسبت الى أركان الثالوث الفاشل (أولمرت وبيرتس وحالوتس) تفيد بأن الإعداد للاعتداء على المقاومة ولبنان كان بدأ في ربيع العام الماضي، أي قبل حدوث عملية خطف الجنديين الإسرائيليين. هنا ينهض سؤال: لماذا اتُّخذ قرار الحرب بتسرّع، كما جاء في قرار اللجنة، ما دام الجيش يفتقر إلى «خطة معدة مسبقاً»، والى «أهداف ممكن تحقيقها»، والى «آليات تتحكم بحجم العملية»، والى «جهوزية الجيش»؟ ألا يشي هذا التشخيص الفاضح لوضع الجيش ولتسرع أولمرت في اتخاذ قرار الحرب بأن أمراً طارئاً قد حدث حمل الحكومة الإسرائيلية على التسرّع في شنّ الحرب على رغم كل المحاذير السالفة الذكر؟ أليس الأمر الطارىء الحاصل هو إيعاز جورج بوش لأولمرت بالإسراع في شنّ الحرب على رغم الصعوبات الجمة التي تكتنف وضع الجيش؟ هل ثمة عامل آخر غير توجيهٍ صريحٍ وضاغط من الرئيس الأميركي يُضطر معه رئيس الحكومة الإسرائيلي إلى الامتثال، وبالتالي الى شنّ حربٍ لا خطة لها ولا جهوزية عسكرية كافية للوفاء بمتطلباتها؟
رابعة الملاحظات أن ثمة إقراراً في تقرير لجنة فينوغراد بكفاءة المقاومة اللبنانية يصل إلى حدود الإطراء. ففي معرض نقد قرار التسرّع في شنّ الحرب وعدم جهوزية الجيش الإسرائيلي، ينوّه التقرير بحزب الله بما هو «خلاصة التحدي» لدولة إسرائيل ومن حيث كونه «منظمة أشبه بدولة، يتحرك وفقاً لإيديولوجيا جهادية معادية لإسرائيل بشكل واضح، وهو مجهّز ومدرب ويرابط على الحدود في نقاط مراقبة قريبة من مواقع الجيش الإسرائيلي (...) وقد أوجد في إطار استعداده لمواجهة عسكرية متوقعة مع إسرائيل منظومةً هجومية ودفاعية معقدة ومنظمة ومخصصة لمواجهة التفوق العسكري البارز للجيش الإسرائيلي، ترتكز على صواريخ أرض ــ أرض لأهداف ردعية وهجومية كان من المفترض ان تغطي الجبهة الداخلية في الشمال، وتثقل على الوضع المعيشي في أجزاء بارزة منها إلى حدّ الشلل». هذا ما استطاع إنجازه حزب قليل العدد ولكن عظيم الإرادة القتالية. أيّ درس وعبرة وعظة يمكن أن تستخلصها قيادات الدول والجيوش العربية ذات الموازنات الضخمة والأعداد الهائلة والأسلحة المتطورة التي كثيراً ما نراها متألقة في العروض العسكرية الفارغة؟
خامسة الملاحظات أن ثمة إقراراً في تقرير لجنة فينوغراد بوجود «شعور واسع وسط الجمهور الإسرائيلي بأن إخفاقات كثيرة ومهمة تكشّفت خلال الحرب (...) وأن هذا الشعور تطور وسط معظم الجمهور بعد مرور الفترة الخاضعة للفحص»، أي بعد فترة الأيام الخمسة بين 12 و17 تموز 2003 التي يركّز عليها التقرير الأول للجنة فينوغراد. بالفعل، جاء تقدير اللجنة لردة فعل الجمهور الإسرائيلي مصيباً ودقيقاً إذ تجمّع مئات المتظاهرين، من اليساريين واليمينيين، فور نشر التقرير أمام مقر رئاسة الحكومة في القدس مطالبين باستقالة أولمرت. سواء استقال الرجل المهزوم أو كابر بضعة أسابيع أو أشهر، سيترك الزلزال الذي أحدثه تقرير لجنة فينوغراد في إسرائيل آثاراً بالغة الأهمية في حاضر الكيان الصهيوني ومستقبله، وسيتجلى بعضها بالتأكيد في مشاورات مؤتمر شرم الشيخ المقبل وتوصياته.
هل من قبيل المبالغة القول إن المسؤولين العرب والمسلمين سيكونون في مؤتمر شرم الشيخ فريقين: الأول والأكثر عدداً ونفوذاً سيكون حزيناً ومتربّصاً وسيراهن على جبهة تتعهّدها أميركا مؤلفة من عرب «معتدلين» يقبلون مشاركة إسرائيل فيها لمواجهة إيران وسوريا وقوى المقاومة في دنيا العرب وعالم الإسلام، والثاني الأقل عدداً وعدّة والأعظم إرادة وتصميماً سيلاحظ مأزق أميركا الإقليمي وضعف حكومتها الداخلي وتخلخل وضعها الدولي واندحارها المطّرد أمام المقاومة في كل مكان، وسيستفيد من نقاط الضعف هذه ليوسّع من دائرة الاشتباك معها بدعم قوى المقاومة وتفعيل عملية استنزافها في جميع الساحات المتاحة؟
هل من رهان أجدى؟
* وزير لبناني سابق