محمد سيد رصاص *
صعد الاتجاه القومي إلى السلطة (مصر، العراق، سوريا) على أساس برنامج مؤلف أساساً من ثلاثة بنود:
1ــــــ فلسطين، 2ــــــ الوحدة العربية، 3 ــــــ التنمية والتحديث.
على الصعيد الأخير، حصل هناك إصلاح زراعي وتمدين للريف وتضييق للفوارق بينه وبين المدينة، وزيادة فرص التعليم، إلا أن ذلك قد حوى كل عيوب المفارقة التي حصلت في هذه البلدان عندما قاد الريف والبلدات الصغيرة عملية التحديث، بعكس ما حصل في البلدان الأوروبية عندما قادت العاصمة هذه العملية (لندن 1688، باريس 1789، بتروغراد 1917). أتى ذلك على خلفية عدم قدرة الفئات التي تولت الحكم، في الفترة السابقة لذلك، على حل المسألة الزراعية، مضافاً إليها مضاعفات هزيمة 1948، ما أنشأ كتلة اجتماعية واسعة ضمت الفلاحين بشرائحهم المختلفة، والفئات الوسطى المدينية، رأت مصلحتها في قلب الوضع القائم، مستخدمة المؤسسة العسكرية وسيلة لذلك.
نزل العراق، عبر حربين وحصار استمر عقداً من الزمن، من بلد كان يعد من أغنى دول الشرق الأوسط، إلى عصر ما قبل الصناعة، فيما لم تستطع مصر حل مشكلتها الغذائية الناتجة من المشكلة السكانية وضيق المساحة الزراعية، و لا تضييق مشكلة التفاوت في الدخول بين الأغنياء والفقراء، ولا مشكلة التفاوت بين الريف والمدن، بينما نزلت سوريا من مستوى يقارب مستوى ماليزيا في عام 1975 من حيث الدخل الفردي (676 / 716 دولاراً)، لتصبح بعد ربع قرن من ذلك، وفقاً لتقرير التنمية البشرية الذي أصدرته الأمم المتحدة عام 2002، في المرتبة (108) من أصل 173 دولة، بينما ماليزيا في المرتبة (59).
على صعيد الوحدة العربية، لم تنجح في القرن العشرين، سوى وحدة الجزيرة عبر ابن سعود، والإمارات العربية، و الوحدة اليمنية، فيما فشلت وحدة 1958، إلى أن وصلت الأمور إلى مستوى من التردي لم يُستطع فيه الحفاظ على ملامح التضامن العربي الذي ظهرت بوادر قصيرة الأمد له في عامي 1973 ــــــ 1974، بعد أن تحطم على مذبح الخلافات المصرية ــــــ السورية (1975 ــــــ 1977)، ثم ليتناثر بعد دخول الخلافات العراقية ــــــ السورية في توترات غير مسبوقة (1979 ــــــ 1980)، حتى وصلت الأوضاع إلى مستوى لم يُستطع فيه القول بأن الانتماء الوطني المحلي (لا القومي) مُتَغلّب على الانتماءات الدينية، أو الطائفية، في البلدان التي رفع حاكموها الراية القومية في النصف الثاني من القرن العشرين.
في الموضوع الفلسطيني، لم يستطع التيار القومي أن يكون أداؤه في حرب 1967 أفضل من أداء أنظمة العرب التي خاضت حرب 1948، فيما لم تؤدِّ حرب 1973 إلى أكثر من تحريك (التسوية)، وإلى انقسام مصر وسوريا عبر مساراتها، وصولاً إلى زيارة السادات للقدس ومعاهدة (كامب ديفيد)، بينما فشلت محاولة التعويض عن غياب مصر، عبر التقارب السوري ــــــ العراقي في عامي 1978 ــــــ 1979.
كانت العلاقة بين ثالوث (القاهرة، دمشق، بغداد) محوراً للسياسة العربية الحديثة، ومحدِّدةً لمساراتها، مثلما كانت كذلك عبر التاريخ العربي القديم، وكذلك في تاريخ ما قبل الإسلام عندما كانت أقاليم الرافدين والشام والنيل تتناوب زعامة المنطقة، أو تؤدي ــــــ عبر انفراط عقدها وتناقضها مع بعض ــــــ إلى فقدان المنطقة لمناعتها أمام الخارج، حيث كان انحلال أطراف هذا الثالوث العربي في صيف 1979 هو المدخل والإطار العربي الذي سمح وساعد على نشوب الحرب العراقية ــــــ الإيرانية، كما أن عزلة مصر وانكفاءها بعد كامب دايفيد، وانشغال بغداد في حدودها الشرقية، قد سمح لإسرائيل باجتياح لبنان من أجل محاولة إنهاء المقاومة الفلسطينية، ومن أجل محاولة استخدام لبنان منصة للتحكم بآسيا العربية، ومحاولة تقسيمها إلى دول إثنية وطائفية ودينية. كما أن استمرار انحلال أطراف هذا الثالوث، وخاصة بين دمشق وبغداد اللتين دخلتا في صراع ضار في الساحة اللبنانية في ربيع 1989، قد جعل العراق، الخارج منهكاً اقتصادياً من حربه مع إيران وقوياً بجيشه، يقع في «الحفرة الكويتية» بعد شهرين من مؤتمر القمة العربية المعقود في بغداد أواخر شهر أيار 1990، من دون أن يجد حضناً عربياً في ذلك المؤتمر، ما كان يمكن أن يقيه تلك «الحفرة» التي وقع فيها وأوقع العرب معه، و ما جرَّ ذلك من هيمنة أميركية مباشرة على المنطقة العربية.
أتت تسوية (مؤتمر مدريد) الأميركية على خلفية هزيمة العراق، والعرب معه بمن فيهم «الذين دخلوا في التحالف مع واشنطن ضد العراق»، على حد تعبير الوزير الأميركي جيمس بيكر لأحد المسؤولين العرب، وكانت هذه التسوية محاولة لإنشاء إطار سياسي «ملائم» في المنطقة ينظم عملية السيطرة الأميركية التي يبدو أنها كانت آنذاك تريد الامتداد إلى وضع منظومة أمنية إقليمية تابعة لواشنطن، وإلى الهيمنة الاقتصادية، وربما إلى إنشاء إطار ثقافي يستتبع ذلك، وهذا طبيعي، لأن تسوية (مسارات ما بعد مدريد 1991) كانت تعبيراً عن مفاعلات هيمنة طرف خارجي على العرب، أكثر من كونها بين طرفين إقليميين.
كان فشل مسار تسوية مدريد، كما تجسد في مؤتمر كامب دافيد ــــــ تموز 2000 بين عرفات وباراك ــــــ مؤدياً إلى مرحلة جديدة بالمنطقة، تميزت بمحاولة طرفي الصراع إنشاء توازنات جديدة على الأرض من خلال (انتفاضة الأقصى) والسياسة المقابلة التي اتبعها شارون، فيما أدارت إدارة بوش الجديدة وجهها عن عملية التسوية لمصلحة التركيز على «إعادة صياغة المنطقة» (حسب تعبير وزير الخارجية الأميركي باول) عبر البوابة العراقية، حتى وصلت إلى حدود الاتجاه نحو غزو العراق واحتلاله (20 آذار ــــــ 9 نيسان 2003).
كان هذا الاحتلال حصيلة للوضع الأميركي في المنطقة الذي حصل منذ حرب 1991: ما يلفت النظر ، في هذا الحدث الضخم وفي الأزمة السابقة له، ضعف مناعة الجسم العراقي أمامه، وميل قسم من مكوناته إلى القبول به، إضافة إلى فعاليات عراقية سياسية وثقافية شجّعت أو رحبت بالغزو من أجل «إزاحة» الديكتاتور ونظامه، و هو شيء قد ظهرت بوادر مشابهة له عند مثقفين عرب بارزين وعند أفراد عديدين في مجتمعات عربية معينة.
هل يكفي لتبرير هذه الظاهرة القيام بعزو نشوئها إلى ما فعله الديكتاتور بالعراق فقط، أم أن الأمر يعود أيضاً إلى فشل هذه الأنظمة في إنشاء مجتمع ومواطن لا يشعران بالغربة في الوطن؟ أم أن المسألة هذه تعود إلى عدم وجود وحدة وطنية قوية في العراق بين الشيعة، الذين هُمشوا واستبعدوا من الحكم، وخاصة بعد عام 1968، والسنة من جهة، ومن جهة أخرى بين العرب والأكراد؟ ثم ألا يؤدي ذلك إلى استقالة هذا المجتمع أو مكوناته التي أرادت الاستعانة بالخارج من أجل «التغيير الداخلي»، من الفعل السياسي، بعد أن أوكل أمره، أو أمرها إلى الخارج، وخاصة بعد أن حضر هذا الوكيل إلى الداخل، وأصبح يريد أن يقرر ويحكم الأصيل؟ أخيراً: هل تؤدي المقاومة العراقية، التي ما زالت على ما يبدو محصورة أساساً ضمن أحد المكونات العراقية، إلى تجاوز ذلك القطوع، إذا تحولت إلى ظاهرة شاملة وطنياً، أو شبه شاملة، وهو ما تظهر بوادر له، وخاصة عبر تظاهرة النجف المضادة للاحتلال في يوم الذكرى الرابعة لسقوط بغداد ؟
* كاتب سوري