خورشيد دلي *
منذ أن تحدث نائب الرئيس السوري فاروق الشرع عن ان سياسة الرئيس الفرنسي المنتهية ولايته جاك شيراك كان فيها الكثير من الشخصانية تجاه سوريا ولبنان، يسود اعتقاد لدى العديد من الأوساط السورية ان العلاقات بين دمشق وباريس ستدخل مرحلة جديدة بعد رحيل شيراك عن قصر الإليزيه بغض النظر عن هوية شاغله سواء أكان المرشح اليميني نيكولا ساركوزي أم الاشتراكية سيغولين روايال. في الواقع، يبدو ان في مثل هذا الاعتقاد الكثير من الرغبة الذاتية التي لا تتوافق مع معطيات الواقع السياسي الفرنسي، وما ينتج من هذا الواقع من سياسة خارجية، على الأقل على مستوى منطقة الشرق الأوسط التي تتعرض من جديد لإعادة صياغة تحت ضغط السياسة الأميركية، ولعل سبب هذه الرغبة الذاتية هو ان ذاكرتنا تتذكر فقط من السياسة الفرنسية في الشرق الأوسط الجنرال ديغول الذي قال في يوم من الأيام «علينا ان نظهر مجدداً كأصدقاء في دمشق وبيروت والقاهرة وعمان.. الخ». هذه الذاكرة تتجه غالباً إلى إحضار الإرث الديغولي كلما لاح في الأفق إمكانية التغيير في المشهد السياسي الفرنسي، علماً أن الرئيس شيراك، الذي هو آخر تلامذة ديغول، قد طوى صفحة هذا الإرث منذ أن قدّم ما يشبه الاعتذار لإدارة البيت الأبيض عن سياسته السابقة في مجلس الأمن عندما رفض بشدة شن الحرب على العراق، لتدخل السياسة الفرنسية بعد ذلك مرحلة جديدة تجاه منطقة الشرق الأوسط وبشكل خاص تجاه دمشق بعد اغتيال رئيس الوزراء اللبناني السابق رفيق الحريري.
في محاولة فهم العلاقات بين دمشق وباريس لا يمكن تجاهل حميمية العلاقة التي تكوّنت بين الرئيس السوري الراحل حافظ الأسد والرئيس الفرنسي شيراك إلى درجة ان البعض اعتقد أن شيراك أحدث قطيعة مع سياسة الرئيس الراحل فرانسو ميتران تجاه سوريا والشرق الأوسط بشكل عام، وقد عزز شيراك من هذه السياسة بجولته الشهيرة إلى عدد من الدول العربية، بينها سوريا ولبنان عام 1996، عندما تحدث في كلمة له أمام مجلس النواب اللبناني عن وجود الجيش السوري في لبنان وان هذا الوجود كان بموافقة لبنانية رسمية فضلاً عن تصريحاته المؤيدة للسياسة السورية لجهة استعادة الجولان السوري المحتل في إطار تسوية الصراع العربي ــ الإسرائيلي.
في الواقع، لا ينبغي النظر إلى هذه السياسة بعيداً مما يمكن تسميته تفاهم (الجنتلمان) بين دمشق وباريس آنذاك، وهو تفاهم قام على أساس ان سوريا تنشد وتعمل وتريد دوراً أوروبياً وفرنسياً بالتحديد في الشرق الأوسط على ان تمارس فرنسا هذا الدور متبنّية المصالح السياسية السورية وخاصة في قضية الصراع العربي ــ الإسرائيلي.
ومن يرجع إلى تصريحات الرئيس الراحل حافظ الأسد وكذلك التصريحات الفرنسية، ولا سيما وزير الخارجية الفرنسي الأسبق هرفي دوشاريت الذي بقي في المنطقة شهراً كاملاً بعد ارتكاب إسرائيل مجزرة قانا الأولى في نيسان 1996، فسيرى أن هذا التفاهم ظل يحكم العلاقة بين الجانبين حتى مرحلة ما بعد الحرب على العراق.. لينقلب شيراك لاحقاً على هذه السياسة ويصبح من أهم الداعين إلى خروج القوات السورية من لبنان وإلى عزل دمشق، بل وصل الأمر به إلى التحريض عليها، حسب ما كشفته صحيفة معاريف الإسرائيلية من أن شيراك طلب من الحكومة الإسرائيلية خلال عدوان تموز على لبنان اجتياح سوريا، بعدما بدأ علناً بتحريض الجماعات الحليفة لها في لبنان وحتى بعض أطراف المعارضة السورية في فرنسا على دمشق. السؤال الذي يطرح نفسه هنا، هل هذا الانقلاب الشيراكي الكبير كان مجرد سياسة شخصية أم سياسة فرنسية بمعنى الدولة؟
مع تأكيد نوعية العلاقة الخاصة بين شيراك وعائلة الحريري، التي كان لها (أي العلاقة) دور كبير في انقلاب شيراك على دمشق، نظراً إلى تلك الاتهامات المسبقة لدمشق بالتورط في اغتيال الحريري، فإن القراءة الدقيقة لمحددات السياسة الفرنسية ينبغي ألا تذهب بعيداً مما ذهب إليه الرئيس شيراك، وهذه المحددات لها علاقة اليوم بمسألة من سيشغل قصر الإليزية في المرحلة المقبلة، ولعل أهم هذه المحددات: الرأي العام الفرنسي الذي لا يشغل نفسه بالسياسة الخارجية ولا تهمّه كثيراً، السياسة العامة للاتحاد الأوروبي التي لا تستطيع فرنسا الخروج عنها بعيداً في النهاية، البعد الأميركي الحاضر في السياسة الفرنسية بسبب طغيان الدور الأميركي على الساحة الدولية، أولاً، وللتأثير الأميركي الكبير في الاقتصاد الفرنسي ثانياً. وفي النهاية فإن العوامل السابقة تشير إلى مسألة واحدة هي المصلحة الفرنسية العامة، وهي تلك المصلحة نفسها التي لم تستطع الاستمرار في تفاهم الجنتلمان بين دمشق وباريس، وهو ما يعني ان دور الشخصانية ليس الأساس في انتهاج السياسات وتغيّرها حتى لو أنصبت أو توافقت في لحظة ما مع المصلحة العامة لسياسة فرنسا.
في الواقع، النظرة إلى فرنسا ما بعد شيراك يجب ان تنطلق من هذه المعادلة، وقراءة هذه المعادلة على الأرض يجب أن لا تبعدنا عن تصور استمرار السيناريو السابق وربما الأسوأ إذا ما عرفنا توجّهات وخلفيات وعلاقات من سيشغل الإليزيه، فالمرشح اليميني الصاعد ساركوزي ذهب إلى حد الاعتذار علناً للرئيس بوش عن غطرسة السياسة الفرنسية تجاه الحرب على العراق. وخلال حملته الانتخابية، كانت الدولة الوحيدة الشرق الأوسطية التي زارها هي إسرائيل، ويقال إن له علاقات عائلية هناك فيما لم يكلف نفسه زيارة أي بلد عربي أو إسلامي. في المقابل فإن المرشحة الاشتراكية روايال هي الأخرى لها علاقات جيدة مع إسرائيل والولايات المتحدة، بل إن حزبها الاشتراكي هو أكثر الأحزاب الفرنسية الذي يتمتع فيه اليهود بالنفوذ، إلى درجة ان هؤلاء باتوا يشكلون قوة مؤثرة في عموم اليسار الفرنسي. وفي المحصلة، بل في الميزان، فإن ساركوزي وروايال ليسا أكثر من شيراك قرباً إلى العرب والشرق الأوسط عموماً، وعليه فإن التصور المقبل للعلاقات السورية ــ الفرنسية في مرحلة ما بعد شيراك يجب أن لا يذهب بعيداً من المعطيات الموجودة على الساحة الفرنسية والتي هي محكومة بالعوامل التي تحدثنا عنها، وأولاً وأخيراً بالمصلحة العامة الفرنسية.
* كاتب سوري