عبد الحليم فضل الله *
تبحث المجتمعات المنشقّة على نفسها عن جذور لخلافاتها تتعدى تضارب السياسات والمصالح، لكأنها تسعى إلى ما يبرر تشددها، فما هو مرفوض في تسوية التباينات العادية (العنف مثلاً) يبدو مطلوباً ومرغوباً فيه حين يتعلق الأمر بالهوية الثقافيّة وبالخصائص التي تمنح أمة ما ـــ بعين نفسها ـــ ملامحها الخاصة الفريدة.
في لبنان، يحتل النقاش المفعم بالمبالغات مواضع متقدمة من الجدال الداخلي، الخطاب اليومي بات مليئاً بالصور النمطيّة ومشحوناً بفائض من الرموز، واللغة السياسية تفقد قوتها الدلاليّة، فيما يحسن اللاعبون استخدام سلطة اللغة في مواجهة الخصوم. لكن العنف اللفظي كما بيّنت الوقائع لا يمكن أن يكون بديلاً عن العنف المادي، بل سرعان ما تضيق المسافة بين العنفين وخصوصاً في بيئات منقسمة كلبنان. إنّ نعتاً واحداً يطلقه فريق على آخر، يمكنه إخراج الحياة السياسيّة عن النص لزمن غير قصير، وهذا ليس عبثيّاً. فمنح الشرعيّة أو نزعها مرتبط إلى حد كبير بالطريقة التي تسمى بها الأشياء (مقاومة/ إرهاب، استبداد/ ديموقراطية، اعتدال/ تطرف، تحرر/ شموليّة...)، وقد أفضى ذلك إلى إقحام المأزق اللبناني الراهن في سياق مفارقات لفظية متناسلة، وصولاً إلى إنتاج رواية سلطة ترضي شغف خطاب الهيمنة العالمي، الذي يود تفسير الوقائع على طريقته وضمن معاييره الخاصة.
يمكن إذاً طرح السؤال الآتي: هل الانقسام السياسي في لبنان هو أيضاً انقسام ثقافي واجتماعي؟ وإذا كان الأمر كذلك، فهل إنّ الأزمات المتكررة ناشئة عن هذا التضارب بين الثقافات الصغرى أم عن وهن الثقافة الوطنيّة، أم يتعلق الأمر بعصاب عنصري يتجدد كلما اهتز الوعاء الإقليمي الذي يحتضن لبنان؟
من الواضح أنّ المجتمع اللبناني يمرّ نتيجة التوتر بانكشاف عاطفي وفكري وسياسي لا سابق له، وهذا هو الوقت المناسب لظهور القوى الحيويّة التي ترقد في قاع المجتمع. فلحظة التوتر هي نفسها لحظة الحقيقة لأنها تزيد منسوب الشفافية، إل أنها تجسد في الآن نفسه النتائج الخطيرة لتصاعد الرفض المتبادل، ونمو الوجدان الانفصالي على أنقاض ما بقي من وجدان جماعي. وحين يصبح الشعور الباطني العام المحتكم إلى «عقلانية» الدفاع عن الوجود أقوى بكثير من الوعي الظاهري المحتكم إلى «عقلانية» الحفاظ على المصالح... وتتسرب في الوقت نفسه المخاوف اللاواعية إلى الخطاب السياسي اليومي، نكون أمام طريقين: الدخول في دوامة تلك «العقلانية» الضارية، أو القيام بانتفاضة وعي تصلح أن تكون ركيزة للنهوض وإعادة التأسيس.
ولعلنا اليوم أمام اتجاهين متقابلين؛ يريد الأول نقل النزاع من الفضاء الأهلي والاجتماعي إلى المجال السياسي، وتحويله من «نزاع من أجل البقاء» إلى نزاع على خيارات سياسيّة، ويصر الثاني على سد أبواب التغيير وتصوير الأمر على أنه صراع وجود لا هوادة فيه.
يعبّر أصحاب الاتجاه الأخير عن ضيقهم بالتنوع، عبر تضخيم الملامح الاجتماعية ـــ الثقافية للانقسامات الداخلية، بإبداء الخوف تارة على «وجه لبنان وهويته التاريخيّة»، واعتبار ما يجري تارة أخرى «صراعاً بين الحضارات»، أو بالإفصاح عن نرجسيّة جارحة تلامس حد العنصريّة، وهم بذلك إنما يتجاهلون المضمون السياسي للأزمة، ويمهدون الطريق أمام إدارة محرك التصادم بين ما يعتبرونه ثقافة مركزية وثقافات هامشيّة تابعة.
إن جرأة هذه الدعوات ورعونتها مرتبطة بإحياء اعتقاد آخذ بالضمور، أن المجموعات اللبنانية غير متساوية ولا متماثلة، وأن بعدها أو قربها من الثقافة المركزيّة المزعومة، هو الذي يحدد وزنها في تركيبة السلطة وفي النظام السياسي الاجتماعي المسيطر. وهذه الفكرة التي تركز على التمايزات الواقعة خارج حقل السياسة، وتمثل دعوة للاندماج القسري في ثقافة غالبة، تناقض فكرة التنوع التي حمت الاجتماع السياسي اللبناني في أحلك الظروف. خطورة هذه النرجسيّة هي أنها تغذي شعوراً داخليّاً بالتمايز، فتطيح مبدأ العدالة والمساواة وتغذي ألواناً من التمييز المحطّم للروح الوطنيّة، وتنشر إحساساً بالفرادة يعمّق تبعية لبنان ويقلل من ارتباطه بعالمه الحقيقي.
الثقافة المركزية:
لنناقش الفرضية الآتية: إن الاعتقاد بوجود ثقافة مركزية ناشئ عن تجمّع الثروة في لبنان في نفس الأيدي التي تركزت فيها السلطة طوال عقود، ومن غير وجه حق، بحيث أصبحت التفاوتات السياسيّة والاقتصادية سبباً لتفاوتات ثقافية وقيميّة موازية. إنّ تفكيك دعوى المركزية هذه ينتظر حدوث أحد الأمور الآتية: تغيّر في طرق الإنتاج والتوزيع، تطوير لمعادلات السلطة، والانفصال بين مركزي القرار الاقتصادي والسياسي.
بعد الحرب الأهلية حدثت نقلتان مهمتان، الأولى هي تأسيس السلطة وفق توازنات جديدة، فباتت مجتمعات الأطراف والفئات المهمّشة أفضل تمثيلاً من السابق، لكن ما حدث في المجتمع السياسي لم يصاحبه تطور مماثل وبالقدر نفسه في «مجتمع إنتاج الثروة»، بقي هذا المجتمع منغلقاً على نفسه مستميتاً دون امتيازاته. ولأول مرة في تاريخ لبنان يحصل هذا الانفصال الحاد بين صانعي القرار السياسي وصانعي القرار الاقتصادي.
أما النقلة الثانية فتمثلت في زيادة حصة المكاسب الناشئة عن التحويلات والإعانات الحكوميّة والخاصّة وتراجع حصة المداخيل المرتبطة بالإنتاج، فباتت أقنية إنتاج الثروة مرتبطة أكثر فأكثر بالتوزيع أو بممارسات سلطويّة لا صلة لها بالأنشطة الحقيقيّة.
هاتان النقلتان تعنيان بكل بساطة تفكيك وهم الثقافة المركزيّة المحتكرة للحداثة، والتي كانت محروسة بقوة السلطة وبالنفوذ النابع من الإشراف على توزيع الموارد والمكاسب. فأعيد تظهير صورة لبنان كما هي بالفعل، دولة «عالمثالثيّة» متخمة بالمفارقات والتباينات والتمايزات التي لا يمكن ضبطها من دون إدخال تعديلات جوهريّة على أوضاعها العامة. ثم إنّ اقتصاد الريع، شأنه في ذلك شأن اقتصاد الحرب، ولّد نظام قيمه الخاص، فأتاح للبنانيين الالتفاف حول ثقافة جانبية يجتمعون عليها، لكنها كانت من جهة ثقافة انتفاع عابرة ومثقلة بالمصالح، ووقفت من جهة أخرى عند حدود الثقافات الفرعية المتقابلة (الطائفيّة والمذهبيّة) لا تخترقها ولا تتخطّاها، بل تعزز من انفصاليتها وتمنحها قوة واستقلالاً. بالنتيجة أصبحت الجماعات اللبنانية متساوية سواء في زيادة تبعيتها للمجال المشترك المتمثل بنظام التوزيع الحكومي، أو في عجزها عن فرض ثقافتها الخاصة على الجميع، ولم يعد يسعفها لتحقيق ذلك المبالغة في التغريب أو التمسك بأقنعة الحداثة.
ولئن كانت هذه الثقافة الليبرالية الغالبة موجودة بالفعل، فهل يمكن اعتبارها أكثر معاصرة وانفتاحاً من الثقافات الأخرى، المفترض أنها طرفيّة وهامشيّة؟
الجواب لا، فشيوع الليبرالية الاجتماعيّة والاقتصادية ولربما الســــــــــياسيّة لا يعـــــــــــــــــني البتة انتشار قيم الحداثة. خذ مثلاً العلاقة بين هذه الليـــــــــــبراليّات واحترام حقوق الإنسان، ففي الحروب ومنها الحــــــــرب الأهلية اللبنانية لا دليل على أن حدود الفظاعة هو نفسه الخط الفاصل بين التقليد و«العصرنة» أو بين التقدم والتأخر، وفي معظم الحالات التي اصطدمت فيها القيم المدنية العالمية مع المصالح القومية والإثنية والطائفيّة فازت هذه الأخيرة. خذ أيضاً القدرة على اختراق العوائق الموروثة، ففي الحالات التي لا تتزامن فيها الليبرالية مع التقدم، تمتزج القيم الليبرالية بالثقافات التقليديّة فتزيدها قوة، فيما تتحوّل هي إما إلى قناع زائف أو ذريعة تبرر تفضيل جماعات على أخرى.
والمفارقة أنّ القوى الموصوفة بأنها تقليديّة في العالمين العربي والإسلامي تفوقت على غيرها في توظيف منتجات الحداثة، بل إنها تخوض تجارب تحديث وتجديد سياسيين، بأفضل مما عملت عليه التجارب السابقة (تركيا، لبنان، فلسطين...). ولعل أهم ما تقوم به تلك القوى (الإسلامية غالباً) هو أنها تطيح آخر الحصون المعرفيّة التي تحول دون تعميم الديموقراطية في بلداننا، عبر رفضها الديموقراطية المشروطة، تلك التي تدعو إلى أن يتلازم التحرر من الاستبداد ومن الهيمنة مع التقيد بليبراليّة اجتماعية (شكلية غالباً) هي نفسها دعوى المركزية الثقافيّة المروّج لها في لبنان، والمنسوب إليها امتيازات كثيرة.
* كاتب وباحث لبناني