عامر راشد *
التقرير الجزئي الذي أصدرته لجنة «فينوغراد» الخاصة بالتحقيق في الحرب الإسرائيلية على لبنان في تموز الماضي كان على مدار أيام متتالية الخبر الرئيس في وسائل الإعلام العربية المرئية والمسموعة والمقروءة، الرسمية والخاصة منها على حد سواء، وترافق ذلك مع فيض من تحليلات ترصد تداعيات التقرير الجزئي على الحالة الداخلية الإسرائيلية، ومستقبل ائتلاف حكومة أولمرت، مَنْ مِنََ الوزراء سيستقيل؟ مَنْ سيخلف أولمرت؟ أيّهم أوفر حظاً في خلافته؟ بورصة أسماء: بيريس، ليفني، موفاز، شطريت.. أيّ الأحزاب سيكون البادئ بالانسحاب من الائتلاف؟ وبقصد أو من دون قصد اقتصرت التقارير والتحليلات على مصادر إسرائيلية، وأعفت نفسها من قراءة عربية لمضمون التقرير وتداعياته، وهو ما أبقاها في حدود عكسْ التأثيرات والقراءة الداخلية الإسرائيلية لما سيترتب على مضمون التقرير، وكان من باب أولى مدّ الأمور وربطها مع ما يجب استخلاصه عربياً.
تقرير لجنة «فينوغراد» حدد بدقة ما سماها «نقاط خلل في عمل حكومة أولمرت ينبغي إصلاحها»، وحمّل أولمرت مسؤولية الخلل بسلوكه «المغرور والمغامر» و«الفشل الذريع، وسوء التقدير، وإفشال عمل الحكومة..»، على حد وصف واضعي التقرير، لكن تقرير «فينوغراد» لم يكن معنياً بتبيان خلفيات السلوك «المغرور والمغامر» لأولمرت ووزرائه وجنرالاته، وملابسات سوء تقديرهم الذي دفعهم إلى شن حربهم الدموية على لبنان، ولم يغرق في استنتاجات أو توصيات سياسية مباشرة، وسار في ذلك على نهج تقرير لجنة «أغرانات» التي شكلت بعد حرب تشرين 1973، وما كان للتقرير أن يخوض في ذلك، لأنه لا يقع في إطار مهمات اللجنة، وهذا يبقي الباب مفتوحاً أمام حكومة أولمرت لتعيد ترميم أوضاعها، بعدما استطاعت حتى الآن التماسك في وجه عاصفة ما بعد نشر التقرير.
بعيداً من مماحكات وانتهازية النخب السياسية الإسرائيلية بما هي تعبير عن الثقافة السياسية الإسرائيلية السائدة، وعلى رغم حديث التقرير عن «سوء تقديرات»، وعن سلوك «مغرور ومغامر» يستطيع أولمرت وبيرتس وحالوتس الادعاء بأن الفشل العسكري الإسرائيلي في حرب تموز سوء طالع ليس إلا، وما كان لأحد أن يتنبّأ بذلك، فمن كان يستطيع الحديث عن ميزان قوى بين (إسرائيل الثكنة) وبين المقاومة اللبنانية، وكيف لأولمرت أن لا يصاب بالغرور والاندفاع، وقد تحققت له معادلة لم تتحقق لغيره من القادة الإسرائيليين، حرب بغطاء ودعم أميركيين مباشرين، وتواطؤ دولي واسع، ومواقف غير مسبوقة من قبل بعض الرسميات العربية برّرت الحرب الإسرائيلية ووضعتها في إطار «الدفاع المشروع عن النفس»، ودانت المقاومة اللبنانية واتهمتها بعدم المسؤولية والمغامرة، ولعل النقطة الأخيرة كانت كافية للاندفاع في حرب أُعدّ لها منذ أربعة أشهر، والأمر الوحيد الذي لم يكن في الحسبان هو الصمود الأسطوري للمقاومة اللبنانية، ونجاح قادة المقاومة في إدارة المعركة عسكرياً وسياسياً وإعلامياً.
إذا كان ثمة حاجة عربية حقيقية لتسليط الضوء على تقرير لجنة «فينوغراد»، واستخلاص الدروس والعبر مما ورد فيه، فالحاجة تنبع من تعلّم التجربة الإسرائيلية، والاقتداء بها، إذ لا بأس من أن يتعلّم المرء من عدوّه، والمطلوب لجنة «فينوغراد عربية» تناقش عجز الرسميات العربية وسوء سياساتها وتقديراتها، والأضرار التي ألحقتها بالمصالح الوطنية والقومية العربية، فعجزها هو من خلق وهمَ أبدية التفوق العسكري الإسرائيلي، وتواطؤها هو الذي ضيّع فلسطين في 1948، وراهناً ينجح ويعزز الحصار الإسرائيلي للشعب الفلسطيني لاستكمال فرض الرؤية الإسرائيلية لحسم الصراع. والتواطؤ العربي أسهم إلى حد كبير في وقوع العراق تحت سطوة الاحتلال الأميركي، وما تبع ذلك من دوّامة الدم وحروب أمراء الطوائف، وإن مواصلة تجاهل المقاومة العراقية يدفع العراق نحو مجهول معلوم في الآن نفسه، هو مزيد من التشظي واتساع نطاق الحرب الأهلية الطائفية. والخذلان الرسمي العربي للمقاومة اللبنانية ومحاصرتها، ومحاولة إلباسها لبوساً طائفياً، كل هذا هو مصلحة إسرائيلية صافية عجزت حكومة أولمرت عن تحقيقها بالحديد والنار والموت والدمار، الذي طال الأرض والبشر والحجر والشجر في لبنان.
إن السؤال الذي يجب أن يسأله كل مواطن عربي تابع التغطية الإعلامية العربية المكثّفة لتقرير لجنة «فينوغراد» وتداعياته، أيّهم أولى بتأليف لجنة تحقيق، العرب أم الإسرائيليون؟ ولن تكون الإجابة محل خلاف، فالعرب هم الأولى، وإذا كان مفهوماً أن تشكل دولة الاحتلال الإسرائيلي لجنة من أجل كشف فشل آلة حربها في تركيع الشعب اللبناني، إدراكاً منها لخطورة تراجع سطوتها على مستقبلها كدولة احتلال، فمن غير المفهوم وغير المنطقي أن تغيب المحاسبة عن جدول أعمال غالبية الرسميات العربية التي تتلاعب بمصائر شعوبها وأوطانها، وهنا لم يعد يكفي التبرير المتوارث والممجوج عن القمع المنظم وغياب الحريات، أمام خطر داهم يهدر الحقوق ويضيع الأوطان.
بعض الرسميات العربية تدين لأولمرت وحكومته لأن مواقفها المتواطئة علناً كانت عنصراً أساسياً في «التقديرات الخاطئة» التي حكمت حسابات أولمرت في شن حربه على لبنان، ودفعه نحو مغامرة ثبت بالوقائع أنها كانت غير محسوبة، ولعل هذه الرسميات المتواطئة تكفّر عن خطئها بعدم تحريك ساكن لفك الحصار عن الشعب الفلسطيني، ومواصلة حصار المقاومة اللبنانية، وبقاء العراق غارقاً في دوامة العنف وسطوة الاحتلال وجرائمه اليومية، لإخراجه من معادلة الصراع العربي الإسرائيلي، فماذا يريد أولمرت أكثر من ذلك؟! وإذا لم تستدرك الشعوب العربية الأمر، فقد يأتي يوم يتوّج فيه أولمرت الفاشل والفاسد ملكاً استثنائياً لإسرائيل، فسابقاً كانت معضلة إسرائيل فشلها في استثمار انتصاراتها العسكرية بفرض وقائع سياسية لاحقة، أما اليوم فالصورة مقلوبة رأساً على عقب، إذ ما أخفقت إسرائيل في انتزاعه بالقوة العسكرية، يقدم لها على طبق من ذهب. إنها صناعة رسمية عربية بامتياز.
* كاتب فلسطيني ــ دمشق