خليل أحمد خليل *
كلما تراجعت ثقافة الحرية بين الناس، صار امرهم في أيدي آخرين، من بينهم او من خارجهم، فلماذا تفجّر المشرق العربي الكبير منذ 1967 وحتى الآن؟ ولماذا لم تحظ الأمة العربية الكبرى بمكانتها بين الامم ـــ الدول: ثم بموقعها المشرِّف على خرائط العولمة؟ وأخيراً كيف تقدم قليلون في العالم الثالث وخرجوا من تخلّفهم، ولم يكن كل العرب في عدادهم؟ أسئلة واضحة لم تحظَ علمياً بغير أجوبة غامضة، وفي حالة وضوحها جاءت إيديولوجية، جزئية.
I
إن قرار تأميم قناة السويس سنة 1956، الذي بشّر بمولد أمّة بعدة دول، أسس بعضها «جامعة» أي اتحاداً أو تضامناً قومياً، وانضمّ إليها على مراحل بعض آخر من دول ناشئة، ملكية وجمهورية، لكن جوبه بحروب متتالية، عنوانها «الغرب حرب على العرب». وكان هذا الغرب وما زال يتضمن الصهيونية وأنموذجها «الاسرائيلي» على ارض فلسطين، وكانت العروبة كهوية قومية تكتفي بمحرضها الايديولوجي، فيما هي بحاجة الى الدولة العربية الديموقراطية، المصدر الارفع لكل هوية حديثة. وجوبه مولد هذه الأمة في عدة دول، بثقافة دينية تحدّ من ثقافة الحرية لدى الجمهور، وتثمّر هذا الجمهور في صراع الاحزاب الدينية ـــ منذ الإخوان المسلمين حتى حزب الله في لبنان وحماس الفلسطينية وأحزاب الدعوة والمهدي وبدر في العراق ـــ مع السلطة القائمة، لا لبناء دولة ديموقراطية (يستحيل أصلاً بناؤها في غياب الحريات السياسية وحقوق المواطنة) بل للإطاحة عسكرياً، حربياً وشعبوياً بالدولة الوطنية، اي الجامعة لكل المواطنين، بدعوى أن الحاكم او الحاكمين غير وطنيين، واعتماد التخوين بدلاً من توطين الناس في دولتهم، وتوطين الدول العربية الوطنية في اتحاد ما. إن هذه الآلية السياسية التفكيكية التي اعتمدتها معظم الاحزاب الدينية في لبنان والعالم العربي، أدّت، في ما أدت، الى استبعاد الدولة الديموقراطية خياراً سياسياً استراتيجياً، وجعلت وهم الدولة الايديولوجية ـــ الاسلامية عند ابي الأعلى المودودي في الباكستان ـــ حلاًّ طوباوياً لعالم اسلامي تنوف دوله على ستين دولة في آسيا وافريقيا...
وبقدر ما كانت الباكستان ـــ اول دولة اسلامية، 1947 ـــ بعيدة من «اسرائيل» اول دولة دينية يبنيها الغرب على ارض الاسلام لمواجهة دول المنطقة، قدّمت ايران نفسها، «جمهورية اسلامية» وفي واقعها هي «دولة مذهب»، بديلاً في المشرق العربي اولاً، من جامعة الدول العربية، ومن الانظمة الوطنية ودولها ثانياً.
وعلى إيقاع آخر حربين بين الدول العربية و«اسرائيل»، 1967 و1973، تعمدت سوريا مواصلة حربها على اسرائيل، لا بسلاحها ولا بنظامها «العلماني»، ولا بخطابها القومي، بل بواسطة احزاب دينية، مسلحة، مقاومة للعدو، مشاركة في سلطة الدول التي تعيش في كنفها، وقابلة للتوظيف في حروب اهلية. هذه الاحزاب يجمعها علناً عداؤها لاسرائيل، واعتبار الحرب عليها «مقدسة»، وسراً عداؤها للدولة الوطنية الديموقراطية القائمة ـــ مثل دولة لبنان ودولة العراق ـــ او المزمع قيامها مثل الدولة الفلسطينية العتيدة، التي تراجعت جراء ذلك من سلطة وطنية الى لا سلطة حالياً.
وهكذا أخذ مبدأ الدولة يتراجع في لبنان وفلسطين والعراق ويتعرض للخطر في اقطار عربية اخرى، لحساب مبدأ اللادولة او فوضى الأحزاب الطائفية، وذلك لحساب الدولة الصهيونية التي رأت في قيام الدولة القومية المتحدة او المتضامنة لدى العرب، الخطر الستراتيجي على وجودها. وما عجزت ايران عن فعله بالسياسة والحروب المباشرة، تأمل تحقيقه الآن من خلال الاحزاب الدينية التي تمدها بالمال والسلاح، بهدف نقل المعركة الستراتيجية الايرانية الى «اسوار اسرائيل». وهذا ما يقدم تفسيراً جيوستراتيجياً لتمادي الانفجارات في المشرق العربي: الغرب و«اسرائيل» من جهة، وايران وسوريا والاحزاب الدينية من جهة ثانية، بينما جامعة الدول العربية تواصل تراجعها عن الهدف الاساسي من إنشائها.
II
لا ريب في أن تنوّع الاقطار العربية ودولها ليس سبباً بذاته لهذه التفجيرات الحربية المتوالية، التي ذهب في داخلها من الضحايا اكثر بكثير مما ذهب جراء الحروب العدوانية الاسرائيلية والاميركية والغربية عموماً. إلا أن هذا التنوع الدولي العربي كان وما برح امام مسارين متلازمين: إما مسار التقارب والتفاعل السياسي والتضامن الاقتصادي ـــ الاجتماعي والتثاقف النهضوي الحر، وإما مسار التباعد، والتمحور والانعزال والانغلاق الفكري، وتالياً التفكك بمواجهة الخارج لحماية الداخل. المؤسف هو أن المسار الثاني فاق بتطوره المسار النهضوي الاول، فجعل كل تخلف في المجتمع العربي الاهلي ـــ اي المجتمع مثلما هو بلا حوافز حضارية ـــ ينعكس على الدولة الوطنية نفسها، مستبعداً الانتقال، باستبعاد الحرية السياسية والعقلانية، الى المجتمع المدني، اي المجتمع العلمي المتحضر، وتالياً مستبعداً الدولة الديموقراطية المدنية، ومفسحاً في المجالات امام الاحزاب الدينية، العربية، والموالية لغير العرب. والحال، تراجعت الاحزاب والجمعيات المدنية في العالم العربي ـــ ما عدا الاحزاب الحاكمة بقوة المؤسسة العسكرية، مصر، سوريا، السودان، الجزائر، الخ ـــ وبلغ نمو بعضها درجة الصفر، فيما فاعت الاحزاب الدينية، السنية والشيعية، بدعوى الجهادية واقامة بؤر مالية ـــ عسكرية داخل مجتمعاتها. هذه الاحوال حالت وتحول دون ظهور نهضة عربية مدنية. الأمر الذي يمنع تطور الدول العربية بمواجهة عولمة اغتصابية عنفوانية، وبمواجهة احزاب دينية، يسهم تفكيكها لمجتمعاتها في تأخير ولادة الدولة الديموقراطية، وتقدم المجتمع نحو العلم، بعد ما توغّل بعيداً في أدغال الخرافات الدينية ـــ السياسية.
III
من الواضح أن بعض الدول العربية القارّة في مؤسساتها ومجتمعاتها، تحرز تقدماً حضارياً على غير صعيد، لكن ذلك لا يطول كل العرب، كل الدول العربية، المهددة بدورها من غير جهة. مقابل دولة اقليمية كبرى مثل إيران، ومقابل اتحاد اوروبي وعولمة اميركية يحتضنان «دولة اسرائيل»، لا خيار للعرب كلهم سوى التوجه، بلا مراوغة او مهادنة، نحو بناء الدولة العربية الاتحادية، الديموقراطية واللامركزية، التي تحفظ لكل جماعة خصيصتها، وتحافظ على سمات النظام القائم او الافضل لإدارتها المباشرة.
آن الأوان لظهور الواقعية العقلانية العربية، واعتماد فلسفة الحرية مدخلاً لكل تقدم، وإطلاق حريات المجتمع الاهلي والجمعيات غير الحكومية ـــ ومنها الاحزاب الديموقراطية ـــ حتى لا يظل العرب يدورون في فلك الانفجارات الاهلية والتخلف عن الركب الحضاري العالمي، وحتى لا تتحول الأمّة العربية الكبرى الى مجرد حقل اختبارات لكل الراغبين شرقاً وغرباً.
* كاتب لبناني