علي حمية *
أدى وصول «الاسلاميين» بقيادة حزب العدالة والتنمية الى السلطة في تركيا، ذات النظام الجمهوري العلماني، الى إحداث شرخ كبير على المسرح السياسي التركي وامتداداته الاقليمية، بين الاسلاميين، وهم القوة السياسية الجديدة الصاعدة والمتطلعة الى تغيير جذري، والجمهوريين الذين تحولوا، على مدى عقود في الحكم، الى قوة سياسية تقليدية مطئمنين الى دعم المؤسسة العسكرية الضاربة، مستخفّين بتنامي المد الشعبي الاسلامي منذ بداية الربع الأخير من القرن الفائت.
وقد انعكس هذا الشرخ السياسي بين التيارين الرئيسين على علاقات تركيا الخارجية، لا سيما تلك المأزومة بالاتحاد الاوروبي، والتي تتطلع ـــ من دون جدوى ـــ الى عضويته. ويتجلى هذا الشرخ اليوم، في رفض التيار العلماني المعارض، لمبدأ ترشيح وزير الخارجية الحالي عبد الله غول لمنصب رئيس جمهورية تركيا، والذي ما لبث أن سحب ترشيحه، على خلفية عضويته في حزب العدالة والتنمية ذي التوجهات الاسلامية الواضحة، الامر الذي يرفضه العلمانيون بتاتاً، ويرفضون معه وصول مرشح غير علماني الى سدة الرئاسة التركية، خصوصاً بعد عقود من قيام النظام الجمهوري العلماني، وقدرته على الصمود والتكيف طوال تلك الفترة.
إن خوفاً حقيقياً على النظام العلماني بدأ يقضّ مضاجع العلمانيين الاتراك، خصوصاً بعد سيطرة الاسلاميين على البرلمان والحكومة واندفاعهم الجدي للسيطرة على القصر الجمهوري، آخر قلاع العلمانيين المنيعة والمسيجة بالقوة العسكرية الضاربة.
ان تركيا، اليوم، على فوهة بركان! فالأزمة السياسية التي تعود ادراجها لسنوات بعيدة، لا يمكن اختصارها بالقول: انها مجرد ازمة دستورية عابرة تتعلق بضرورة توافر «ثلثي» اعضاء البرلمان لعقد جلسة لانتخاب رئيس جديد للبلاد.
ان الحقيقة هي أبعد من إشكال دستوري بين الحكومة والمعارضة، على اهميته. وقد عبّر «الشارع» التركي بسرعة عن مخاوفه الجدية من تقدم الإسلاميين حيث انتصر العلمانيون للعلمانية والنظام الجمهوري في تظاهرة مليونية حاشدة في اسطنبول، المدينة التاريخية المطلة على «البوسفور» المعبر الإجباري لتركيا الى الاتحاد الاوروبي. وسارعت المؤسسة العسكرية التي ترى نفسها حامية العلمانية في تركيا الى الاعلان عن تمسكها بالنظام الجمهوري وقيمه العلمانية، رافضة اي مساومة مع الحكومة القائمة. ولم تخرج المحكمة العليا، وهي اعلى محكمة دستورية في تركيا، عن إجماع الجيش والشارع العلماني، فسارعت ـــ بدورها ـــ الى إبطال الجلسة الاولى المخصصة لانتخاب الرئيس بإعلانها لا شرعيتها ولا قانونيتها.
امام هذا المأزق، كيف تتصرف الاكثرية البرلمانية الحاكمة في تركيا؟ لقد قررت، بدون تردد، تقديم موعد الانتخابات البرلمانية الى الثاني والعشرين من شهر تموز/ يوليو المقبل، اي بعد نحو شهرين ونصف من الآن. وأعلنت عن رغبتها في اجراء تعديل دستوري يقضي بانتخاب رئيس البلاد بالاقتراع المباشر من الشعب، لا من البرلمان كما هو معمول به منذ تأسيس الجمهورية التركية الحديثة بعد انتهاء الحرب العالمية الاولى والاعلان عن سقوط الخلافة الاسلامية.
هذا الخيار الذي تلوّح به الاكثرية الحاكمة، أخذ طريقه الى البرلمان تداركاً لأزمة حكم واقعة لا محالة إذا لم تتمكن هذه الاكثرية من تأمين النصاب القانوني لجلسة الانتخاب الثانية لرئيس جديد للبلاد والتي جرت في السادس من الشهر الجاري.
في تركيا ـــ إذن ـــ تتداول الاكثرية الحاكمة خيارات مفتوحة حتى لا تقع البلاد في أزمة حكم. ولا مانع لديها ـــ وهي اكثرية حقيقية ـــ من اجراء انتخابات برلمانية مبكرة، ولا من انتخاب رئيس من الشعب مباشرة.
هذا «التنازل» من الاكثرية بالاحتكام مجدداً الى الشعب ينمّ عن احساس عال بالمسؤولية الوطنية، وهو سلوك ديموقراطي حقيقي تفاخر به تلك الاكثرية. فكيف تتعامل «الاكثرية» الحاكمة في لبنان مع ازمة الحكم الشبيهة بالأزمة التركية، والتي تعصف بالكيان السياسي اللبناني مهددة اياه: إما بالفدرلة الطائفية وإما بالزوال المحتّم؟!
ان «الاكثرية» البرلمانية في لبنان التي رفضت، طوال الفترة الماضية، الاعتراف بوجود أزمة سياسية تتجاوز، في حدودها، ما اصطلح على تسميته «ازمة حكم» تصرّ، مدعومة من الخارج، على اعتبار نفسها حكومة شرعية ودستورية، ضاربة عرض الحائط بكل المبادرات، الداخلية والاقليمية، التي حاولت وضع حد لهذه الأزمة المتفاقمة، يوماً بعد يوم.
انها «اكثرية» تشيح بنظرها عما يجري في محيطها من تطورات سياسية ودراماتيكية: فلا هي تتعظ بتطورات الوضع الاسرائيلي المتفجر بعد فشل عدوان تموز الماضي، ولا هي تحاول أن تتمثل النموذج التركي الماثل بقوة امام ناظريها!.
في تركيا، اليوم، اكثرية حقيقية منكبّة ـــ بمسؤولية عالية ـــ على معالجة أزمتها الدستورية قبل تطورها الى أزمة سياسية شاملة. وفي لبنان اكثرية وهمية متشبثة بالسلطة، غير مستعدة للتنازل قيد شعرة، ولو ادى سلوكها الفئوي الى خراب البصرة!
ان «الاكثرية» في لبنان تسلك في اتجاه معارض تماماً للديموقراطية وقواعدها وقيمها. فللديموقراطية مقتضيات توجب على اللاعبين احترامها، ومن مقتضياتها ـــ لبنانياً ـــ أن تسلم «الاكثرية» التي جاءت الى السلطة في ظروف من التوتر الداخلي والضغط الخارجي بفشلها، فضلاً عن لا شرعيتها، وأن تذهب فوراً الى انتخابات مبكرة، اسوة بما تفعله الانظمة الديموقراطية الحقيقية في العالم كلما اصطدمت بأزمة من هذا النوع.
ان المثال التركي نموذج يصلح للاقتداء به، وتركيا عزيزة على «الاكثرية». فلماذا لا تسلك هذه «الاكثرية» وفقاً للمثال التركي، فتخرج نفسها والكيان من عنق الزجاجة، قبل فوات الأوان!
* استاذ في الجامعة اللبنانية